1
quot;إن تخليت يوماً عن التصوير فلن يشعر احد بوطأة ذلك عليه، لن يشعر المجتمع بان صوري تعوزهquot;هذا ما قاله المصور الدنمركي الكبير (Per Kirkeby ) في معرض حديثه عن التصوير، وليس لي هنا إلا أن أعلن عن تأييدي الصريح لموقفه، ثمة الكثير من الوهم العالق في مخيلتنا عن التصوير، هناك من يذهب إلى ابعد من كون التصوير مجرد حاجة شخصية وذاتية جداً لا تتفق دوما مع حاجة الجمهور، وقد لا تجد لها حتى جمهوراً، بقدر كونها ضالعة في صناعة الحضارة بمعناها الأعم الخارج عن مسارات التاريخ ونواياه، هناك من يعتقد بان التصوير مثل الخبز أو الماء وتذهب به الفنتازيا العقائدية إلى حد الإيمان بأنه قادر على تغيير التاريخ وتقويم المجتمعات، نعم، هو قادر على ذلك ولكن لمن يريد من الأفراد، أي لمن يسلك سلوكا ايجابياً إزاء التصوير بمعنى أن يكون جاهزاً لتلقيه والتعمق في فهم أسراره والبحث عن مفاتيح عالمه ـ ليست كل هذه المفاتيح فعالة ولا الأسرار التي نعتقد أن لها علاقة معه هي متطابقة دائماً مع جوهره أو منجزاته ـ فالتصوير ترجمة أخرى فريدة من نوعها للعالم فهي لا تحيل غير المفهوم إلى مفهوم بل تمنح ما هو غير مفهوم كياناً آخرا جاهزا لان يكون مرئياً وملموساً، مبهجاً أو كابوسياً، مكروها أو محبوباً، مريحاً أو مؤلماً، مقرفاً أو مربكاً، غامضاً أو مبهماً مهدئاً أو مقلقاً ولكن ليس كياناً مفهوماً.
إن أي فكر عقائدي واعد بيوتوبياه، لن يجد مكاناً مريحاً له في وصفة الفنان السحرية إلى العالم أبدا، فهي وصفة خارجة عن قوانين المألوف والعادي، والسياسي الأيديولوجي أو العرفي التقليدي، لأنها لا تجد فحواها في صنيع أفعالنا الظاهرة بل بما تستبطنه من عبث أو الغاز أو لا جدوى، فحكمة التصوير هي أشبه ما تكون بسلم فارع يمتد في الفضاء إلى ما لانهاية، ومن يصعده يعتريه خوف معجون بلذة الفرح ومغامرة الصعود في فضاء الأشياء والآخرين.
لن اكشف لكم عن سر إذا ما قلت لكم أن التصوير أبدلني بنفسه عن وجع وجودي، فهو فضائي الذي أتنفس فيه هواء حياتي الأخرى والمفترضة.
هل أقول لكم إذن إنني اكره هذا العالم؟
وان كرهته، فهذا لانه مؤثث من قبل الإنسان بطريقة سيئة جداً!
وهذا الأخير مشغول بتلبية حاجاته الملحة بلا هوادة، لا يعتريه وهن في الوصول إلى هدفه حتى لو كلفه هذا قتل الآخرين وقطع كل أزهار هذا العالم وأشجاره، أي ليل اسود يعيش؟ وكم من النجوم أطفأ؟
ونتيجة لهذا، سيصبح التصوير نوعا من الخلاص ومسلكاً رائعاً حتى في وعورته!
إن اللذة بشكليها المادي والروحي هي من أهداف البشرية الملحة، ولكن أس البلاء هو في وسيلة الوصول إليها! هل أقول لكم أن في التصوير يوجد الكثير من تلك اللذة، ومن جهة كونه ينشد وحدة تحلم بها كل البشرية، وحدة مؤسسة على تجانس وتنافذ كل مظاهر هذا العالم، وحدة قائمة على إلغاء كل المتناقضات.
2
(( ومن وصلٍ إلى المنظور استغنى عن النظر))
الحسين بن منصور الحلاج، عن كتاب (الطواسين)
إنني لا أتحرز من استخدام الحدس في تناول ماهية التصوير، لأنه كفيل بإعادة ذاتي إلى نمطها ألبدهي غير المقيد بنظم الحكم الاطلاقي أثناء التصدي للبحث في العناصر المؤسسة للصور.
وسيفضي هذا الحدس بذاتي الى ان تمحو العقل با اللاعقل، ذلك من اجل ان تنغمس في إحساس بالأشياء يتناقض وطبائع الإدراك الحسي العادي بها
هي ذاتي الخاضعة لقدرها الإنساني: بصفائه او بعصف أهوائه،
والمتجهة نحو الجمال الذاهب أبدا إلى تشظي معانيه
هذا الجمال الذي هو سبيلي الأنسب من اجل الرضا بالعيش
فانا لست بعالِم كي أحيّد اختباري للعالم
بل أرى العالم برمته وهو يتحول في داخلي
فاختباري للعالم يقربني من نفسي:
من خوفي
من قلقي
ومن شعوري بالعبث
وأخيرا، من مخيلتي التي هي صنيع، تأملي وحريتي وحيرتي،
هذه المخيلة التي لن تكتفي بإدراكي الحسي المستمد من حضوري في خضم العالم وحسب، بل ستتجاوز ذلك الى ما يؤهلها لان تكون العنصر الأكثر أهمية لتشييد معمار صورتي، فهي بتخلفها عن الانتماء إلى الزمان والمكان كفت عن الخضوع لقوانين الكينونة وكل الشروط الموالية لما نصفه بالطبيعي.
إن إدراكي البصري الذي ماانفك يمدني بكيفية ظهور الأشياء يتحول فيما بعد إلى مادة لمخيلتي التي ستوصلني إلى نموذج آخر لظهور تلك الأشياء عينها.
فانا غير ملزم بان اطلب العون من العقل إلا بقدر حاجتي له لتنظيم فوضى مخيلتي ورغبتي في أن أتوافر على فكر حدسي عالٍ لمعاملة الأشياء ومن بعد مراوغة هيئاتها.
قال ابولونيير:
((أراد الإنسان أن يقلد حركة المشي فصنع العجلة التي لا تشبه حركة المشي في شيء)).
الصورة لا تختلف صناعتها عن حال الدخول في متاهة. يمكن لي أن ابدأ من أي مدخل أشاء:
من هيئة كرة
من خط
من بقعة
أو نقطة
فالمدخل بصفته توطئة سيكون سهلاً جداّ، ولكن ما هو صعب في إنشاء الصورة هو نجاح هذه التوطئة في استقدام شبح هذه الصورة أو تبنيه لمشهد ما يمكن أن يصل بي إليها. لا يكفي إذن أن تعرف كيف تبدأ فحسب وإنما عليك أن تعرف كيف تصل، أي ان تكتشف الصورة لكي تمنحها ملامحها.
تكمن جمالية الصورة عندي في ضبابية ومجانية محتواها وانتفاء أحادية الغرض فيها، فالهيئات بحد ذاتها غير قادرة على التخلص من الإيماء إلى معنى ما. ولكن بفضل عنصر المجانية والضبابية، تتخلص الصورة من وزر دلالتها، وهي سمة ضرورية فيها.
فهي عندي أشبه بالنص اللغوي الذي تعرض للخراب ودرست بعض معالمه فهو من جهة يقرأ بالكاد، ويفهم بالحدس من ناحية أخرى، إذن هي صورة قابلة للتجدد من جهة التأويل بعد كل مشروع قراءة .
فكلما تشعبت مسارب قراءة الصورة زادتها قوة وتأثيرا.
الاحتفاء بطغيان المشهد الأوحد لم يعد أمرا ضروريا على الدوام، بل على العكس سوف تتدافع المشاهد المتزاحمة على الظهور في الصورة عينها وهي تغطي بعضها البعض جزئيا دون أن تلغى بعضها كليا، وسوف يؤدي هذا التراكم إلى قيام العين بمهمة (إبصار أركولوجي) يقوم بعمليات من قبيل:
التنقيب وليس التلقي السلبي
الاسترجاع وليس المواجهة
الإبصار الحدسي وليس الإبصار اليقيني.
إذن،
ما الذي سيظهر مني في رسومي؟
هل هي نفسي؟ بما آلت إليه من فرح أو حزن أو قلق؟
فكرتي؟ وعن ماذا؟:
الكون،
الموت،
الروح،
الحرب؟
أم اثر فعل يدي بأحوالها؟:
النزقة،
المترددة،
القاسية،
المترفقة،
أم المتوترة؟
إن ما سيظهر مني بلا شك شيء أشبه بالرجع المتكرر في الوادي، أو كبرق يضيء شيئا من عتمة ليل غابة كثيفة ولو للحظات وامضة.
3
كان علي منذ البدء أن اجعل من نفسي بؤرة استقطاب كبيرة، فمثلما يحلم العنكبوت بان تلتصق الأشياء بنسيجه، احلم أنا بان تلتصق الأشياء بنسيجي الداخلي، وان لا امشي على سطح الحياة إلا بخطى يثقلها الشك. فمن يدري، فقد تستنشق صوري هواء عوالمها في شقوق الأرض وقصاصات الورق أو بقع الطين وحتى في أكثر المظاهر والمواد قابلية على الزوال.
وكان لابد لي أيضا من أن أرعى الملايين من عصافير المخيلة، ذلك لأنها هي وحدها من بين كل الأشياء الضالة في متاهات وجودنا العملي، قادرة على جلب صواعق الدهشة من الجهة الأخرى للعالم، الدهشة إزاء انكشاف الوجه الحقيقي للحياة من بين طبقات غبار الغموض الذي يخفي ذلك الوجه .
ما الذي يدعوني إلى هذه الزمالة الأبدية مع المخيلة، سوى ذلك الشعور الخارق والدائم بلا عدالة سبل ظهور الأشياء، وبان ما هو كائن ما هو إلا وجه شاحب لما يمكن أن يكون عليه حقا. وان ما اعتدنا أن نسميه بالحياة لا يعدو إلا أن يكون مجموعة من العلامات لفك رموز عالم أرحب، علامات ملقاة على قارعة وجودنا العملي. ولكي نلج ساحات هذا العالم الأرحب، كان لابد من استعمار النفس قبل كل شيء، وصقل ابدي لمجاهل الروح، وان نستغيث بظلال الأمل دائما. تلك الظلال التي تمدنا بطاقات اكبر لقلب نظام الأشياء ومدها بدماء جديدة تحث في اتجاه حرية بلا حدود. وهي الحرية التي يضعني تحققها في مواجهة مسئولية عصية ازاء نفسي والعالم.
حين اشرع بفعل الخلق تطاردني الملايين من عصافير المخيلة، وهناك على الأفق البعيد تحط وتنتظر لمحة واحدة فقط من بصري، لتنطلق بعدها من جديد. فلو كنت راقبتها لساعات طوال لألقيت بعدة الرسم وما قررت أن افعل شيئا على الإطلاق، ذلك لان كل مخيلة هي وعد بتحقق مطلق ولو تمكن الجميع من الإمساك بهذا المطلق لانطفأ فعل الإبداع إلى الأبد. إن فعل الإبداع إنما يستمد وجوده من المواعيد المرجأة ومن الإنخطافات المفاجئة دائما. ولو أني قصدت نوعا بذاته من الجمال لفقدته. الجمال ليس ما نصنعه نحن ولكنه منا أيضا .
دع يا صديقي عصافير المخيلة تقف على أرضك البور من غير تصنيف أو غربلة، ففي البدء لا يوجد تصنيف أبدا، ولا نهاية أكيدة لفعل الإبداع، ولو كنت كاتبا لعلقت بقرب أعمالي نصوصا كثيرة، ولأشرت فيها إلى ما يمكن أن تكون عليه هذه الأعمال، وما لم تكن، ذلك لاني احلم بأيد ناعمة وهزيلة لشخوصي ورؤوس نادرة وعجيبة، ولكنها لا تأتى كما يراد لها دائما، ففي حقول الروح تنبت عجائب كثيرة، ولكن حصادها ليس بيسير .
تأمل يا صديقي المعضلة. ففي قلب كل رسام شوق قديم لصورة صعب عليه استحضارها، ولو تمكن من ذلك لمات فعل الرسم، كل مبدع صياد، وحين يأتي إلينا، بعد مشقة رحلة أميال طويلة في الغابات، بأحاديث عجيبة وأكاذيب هائلة، لكان أفضل لنا بكثير من الوقوف وتأمل الحياة التي توقفت في قلب الحيوان الجريح، ذلك لان الإبداع تخيل وليس تحقق المتخيل أبدا. هو سفر طويل، وليس محطة الوصول أبدا.
اللوحتان من عمل كاتب المقال
عمار سلمان داود، صانع صور، مقيم في السويد
[email protected]
نشر النص مترجما الى اللغة الانكليزية في كراس مطبوع لغاليري ميم في دبي بمناسبة إقامة معرض الفن العراقي اليوم، الجزء الثالث.
للاطلاع على المزيد من نصوص الكاتب:
التعليقات