حميد مشهداني من برشلونة: كما هو معروف، هناك العديد من متاحف ldquo;بيكاسوrdquo; بين فرنسا، والولايات المتحدة واسبانيا، وفي هذا البلد الاخير له متحفان، في مدينة مسقط رأسه ldquo;مالاقاrdquo; الاندلسية، وفي مدينة برشلونة الكاتالانية الذي يعتبر من أهم متاحف الفنان في العالم، وهذا الاخير أفتتح في بداية هذا الشهر معرضا فريدا بخصوصيته من حيث الفترة الزمنية، بين 1945-1965 من جانب ومن الجانب الآخر التركيز على تكنيك معين في التعبير التشكيلي وهو ldquo;الليثوغرافrdquo; اي الطبع على الحجر .
منذ بداية هذا الشهر والى شهر اكتوبر يقدم المتحف أكثر من 45 عملا من ldquo;الليثوrdquo; والتي نفذها ldquo;بابلو بيكاسوrdquo; خلال السنوات العشر هذه والتي تبدأ بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وهي الفترة الاكثر غناءا في ابداعه الكرافيكي، وايضا من أكثر فترات حياته استرخاء عاطفيا، فهو تعرف على الشابة الجميلة طالبة الفن ldquo;فرانسوا جيلوتrdquo; في عام نهاية الحرب التي كانت قد أستنزفته نفسيا وجسديا، فعاد السلام اوربا المتعبة بعد سنوات من القسوة، وهو بعد الستين من عمره خفق قلبه بعشق جديد، فحياة ldquo;بيكاسوrdquo;قبل هذه الفترة وبعدها كانت مليئة بالمغامرات العاطفية والجنسية، تتراوح بين الاخفاق والنجاح ولكنه في هذه الفترة بالذات عاد هادئ البال بعد تحرير فرنسا من براثن النازية، وأول ما قام به هو طلبه الانتماء في الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان دوره حاسما في هذا الانتصار، وحتى يقال انه أعتنق ldquo;البهائيةrdquo;لفترة في ذالك الحين .
كان ldquo;بيكاسوrdquo;قد أشتغل في في كل مجالات تكنيك ldquo;الكرافيكrdquo;من الطبع على الزنك والنحاس، وأنجز العديد من تصميم أغلفة الكتب من الشعر والرواية لاصدقائه منذ 1919، ولكنه لم يكن متمرسا بهذا الاسلوب، وفي الثالثة والستين من عمره، كان من اكبر وأشهر الفنانين في العالم على الاطلاق، عاد ليدرس هذه التكنيكات من جديد، وهذا ما يجعل منه فنانا فريدا، فدخل مشغل ldquo;فيرناند مورلوتrdquo; الشهير الواقع في شارع ldquo;شابرولldquo; في باريس، ليبدأ من الصفر، وليبدأ رحلة جديدة في مساره الفني الطويل، وكأنه يتخلص من أثقال كانت تعيقه السير سابقا، ودخل عالم الطبع من جديد كما قدر الخلاص.
وها هو العبقري ldquo;بيكاسوrdquo; شيخ يعود لصف الدراسة، وينهمك من جديد في تعميق دراسته لهذا التكنيك من مختلف زواياه، خصوصا في الطبع على الحجر ldquo;الليثوغرافrdquo; وكان يقف وينفذ كل مراحل التطوير شخصيا، ومن يشتغل في هذا المجال يعرف جيدا تعدد وتعقيد مراحله من الرسم الاول او التخطيط الاول على الحجر الى الانجاز النهائي، وفي الاخير الطبع التسلسلي للنسخ بحرفية عجيبة، هنا تكمن انفرادية ldquo;بيكاسوrdquo; لانه كان عكس معاصريه من الفنانين المشهورين، كان ينفذ العمل شخصيا بكل مراحله، ف ldquo;سلفادور داليrdquo; على سبيل المثال، كان يكتفي بالتخطيط لينفذه محترفو هذه المهنة من الطباعين، وفي الكثير من الاحيان كان ldquo;داليrdquo; يكتفي بوضع توقيعه على الورق مرقما تسلسل النسخ دون الاضطرار حتى للرسم لان طباعي هذه ldquo;المحترفاتrdquo; أعتادوا تكنيكه، وأسلوبه، لذالك نرى اليوم آلافا من ldquo;ليثوغرافrdquo; سلفادور دالي في كل أنحاء العالم، والاصيل الوحيد فيها هو توقيعه.
في هذا المعرض يقدم المتحف ldquo;بيكاسوrdquo; الفنان عائدا ومركزا على تكنيك كان قد مارسه بشكل متقطع في السابق، وكأنه يكتشف من جديد عالما آخر من التنفيذ التشكيلي، بتعقده وتنوع مراحله، فالطبع على الحجر والحفر على ldquo;الزنكrdquo; هو ممارسة وتحدي للفنان بين الاعجاب والاحباط بسبب تعدد مراحله، وتعقد مواده من أحماض وأحبار، وأصماغ وفارنيش، وأقلام من الحديد ...الخ، ولا ننس روائح المشغل بين كل هذه المواد، ففي كل مرحلة يفاجأ الفنان بعمل افتراضي في الكثير من الاحيان غير مقنعا، وldquo;بيكاسوrdquo; هنا لم يفقد صبره، فكان فوق العمل بشكل مستمر الى حين الانتهاء من ldquo;الكليشةrdquo; التي هي الان جاهزة للطبع، وهو كعادته لم يفقد روح المفاجأة حتى الى اواخر أيامه، وهكذا أكتشف في بحثه أسلوب الطباعين القدماء ليضيف له خبرته وأكتشافه. صالة المعرض الاولى نرى فيها توثيق هذه المرحلة 1945-1956، فنرى العديد من الصور الفوتوغرافية للفنان في مشغل ldquo;مورلوتrdquo; ثم أدواته من الوان الى أقلام معدنية، وفحم، والاهم في هذه الصالة هو قطع ldquo;الحجر الجيريrdquo; الذي كان الفنان يستخدمه عادة في معظم أعماله. وفي الصالة الثانية نتعرف على اكتشافه تطبيق التصوير الفوتوغرافي على الحجر مازجا تكنيك ldquo;السيريغرافrdquo; في أعماله هذه، كما في لوحة ldquo;الكريكوrdquo; 1945، أو في لوحة ldquo;ثمانية أطياف لامرأةrdquo; 1946، والعمل الذي نفذه على ldquo;الزنكrdquo; الذي يسميه ldquo;الوجه الاسودrdquo; 1948 وكذالك اللوحة الجميلة الملونة ldquo;امرأة جالسة على كرسيrdquo; 1947، والعمل الرائع الشهير ldquo;الرسام، الموديل وشخص أخرrdquo; 1954 كلها أعمال تثير الانفعال .
في الصالة الرئيسية نرى أهم أعماله في هذه المرحلة التي كانت تركز على التزامه السياسي، ودفاعه عن قضية السلام، هو الذي عاش كل الحروب في القرن الماضي، فبعد انضمامه للحزب الشيوعي الفرنسي انهمك في دعم منظمات السلام في كل العالم، وهنا نرى لوحة ldquo;الحمامةrdquo; الشهيرة التي صارت رمزا للسلام في كل العالم منذ الحين، ولهذه اللوحة قصة، وهي أن الشاعر السوريالي ldquo;لويس أراغونrdquo; الذي كان يعتاد زيارة ldquo;بيكاسوrdquo; في مشغله دون سابق أنذار في واحدة منها وهو يتصفح طبعات الفنان من ldquo;الليثوغرافrdquo; عثر على لوحة ldquo;الحمامةrdquo; التي أختارها الشاعر لتصير الملصق الرسمي لاول مؤتمر للسلام العالمي في 1949 الذي اقيم في شهر نيسان من ذاك العام في باريس .
الصالة الاخيرة كانت مخصصة لزوجته الشابة ldquo;فرانسوا جيلوتrdquo; التي تعرف عليها الفنان في عام 1943 والتي عايشها أكثر من 10 سنوات، وكانت مصدر الهامه في العودة الى تهذيب أسلوبه ldquo;الكرافيكيrdquo; والطباعي، فمعظم الاعمال كرسها تلك الفترة الى عائلته وبالخصوص طفليه من فرانسوا ldquo;بالوماrdquo; التي تعني الحمامة في اللغة الاسبانية، وldquo;كلودrdquo; وهما من أشهر أبناء بيكاسو، ومن أجملها ldquo;الفنانة شابةrdquo; التي فيها يرسم ldquo;فرانسواrdquo; في 1949 مع بالوما، وكلود.
هذا معرض فريد خاصة من ناحية حساسية الورق الاصلي، أو الطبعات الاولى التي من السهل تعرضها للتلف بسهولة، من جانب ومن الجانب الاخر اختياره هذه الفترة التاريخية في حياة الفنان العبقري .
أخيرا، اود كتابة بعض السطور عن علاقتي بمتحف ldquo;بيكاسوrdquo; في منتصف الثمانينات أشتريت شقة رخيصة في رأس شارع ldquo;مونكاداrdquo; حيث يقع متحف ldquo;بيكاسوrdquo; في برشلونة، وهذه صارت دارا لكل أصدقائي من الفنانين والشعراء العراقيين والاسبان ومعظمهم ساعدوا في التصليح والصيانة من ldquo;سلام الشيخrdquo; الى ldquo;ماهر جيجانquot; وldquo;قرني جميلrdquo; وldquo;جمعة زيدانrdquo; وldquo;كمال سلطانrdquo; وآخرين، وبعد سنوات قليلة تقاسمت ldquo;مشغلاrdquo; للكرافيك مع صديقي الفنان الكرافيكي ldquo;كمال سلطانrdquo; وهذا المشغل كان يقع خلف بناية متحف بيكاسو، ولا أدري اذا كان هذا قدرا أم صدفة فالمشغل والمتحف كانا على بعد اكثر من مئة متر بقليل عن بيتي، ورغم ذالك كنت اضطر النوم في المشغل في كثير من الاحيان بسبب من انشغالي في مفاجات العمل الكرافيكي اللامتناهية، وأحيانا لاسباب عاطفية، فالمشغل كان مجهزا بكل شئ، كان كما بيت أخر بجانب أجهزة وأدوات الطبع، والحوامض، والاجمل كانت روائح الالوان المطبعية، التي تسبب نوعا من الاسترخاء لمن يعيشها أكثر من عشر ساعات في اليوم، أخيرا بعد مغادرتي ldquo;برشلونة والمشغل الى المدينة الساحلية ldquo;ستجسجنوبا، ليس بعيدا عدت المشغل بعد اشهر لاجده تحول الى مشغل للنجارة، واختفت مئات الاعمال وldquo;الكليشهاتrdquo; من النحاس والزنك، ولحد الان لا أعرف مصيرها، أولا شعرت بالغضب كمن لا حول ولا قوة له وبعد ذالك لمت نفسي في البطء من ناحية تصفية الاشياء في وقتها، وبعد ذالك بقليل وانا أشاهد ظهر بناء متحف ldquo;بيكاسوrdquo; ابتسمت، وفي داخلي متخيلا الفنان العظيم يراقبني من سقفه العالي في غروب مدينة برشلونة الجميلة، خاطبته بصوت واضح، rdquo;فدوة لعيونك، مايستروووووrdquo; بعدها في القطار القديم الذي يحاذي المتوسط، عائدا قريتي، تصورته ما زال واقفا سطح متحفه رافعا راحتيه مشيرا لي وقائلا ldquo;أنقلعrdquo; فشعرت السرور مرة أخرى وكأن هذه الرؤيا كانت حقيقة.