منذ أيام وروحي نهب كوابيس مزعجة تزورني في المنام؛ أمس رأيت أحد أخوالي، توفي عام 1983، يرتدي بدلة رسمية ويحاول إنهاء مشكلة ثار عشائري سببّها مقتل حفيد له، ومن ثم، انتقام حفيد آخر من القتلة بإنهائه حياة أثنين منهم. في الكابوس المذكور كنت هادئا جدا وغير مقدر لعواقب الحرب الرهيبة التي ستنشب. وقفوا في باب داري بوجوه مرعوبة ثم تناهى لسمعي أنهم سيغادرون دورهم جميعا هربا.
في كابوس آخر رأيتني أدخل محل سوبر ماركت فأجده قد تحول إلى معرض موبيليات، كانت الأرضية لزجة فتزحلقت وسقطت وأنا أقهقه بينما البائع جالس على كنبة وحيدا غير منتبه لسقوطي.
في الليلة نفسها حلمت ببائعة عجوز أسمها ام رجب. كنا، نحن الأطفال، نشتري منها مصقولا ودعابل. كانت طيبة جدا ولا تتوقف عن ترديد عبارة ـ ها جدة.. هاك جدة.. كانت أم رجب نحيلة وحنينة وذات صبر عجيب فهي تتحمل إلحاحنا وما على لسانها سوى ـ هاك جدة.. شتريد جدة. كان محلها جنة صغيرة حيث علب الكرات الزجاجية تنتصب على دكة صغيرة وصنايق الحليب المعقم تتراكم أمام المحل.
تلك العجوز كانت الوحيدة في المنطقة التي تبيع الدوندرمة الحمراء الشهية وهي نوع من البوضة البدائية الرخيصة المصنعة في البيوت.
في الكابوس الذي خنقني رأيت دكان أم رجب وقد تهدم كله، وكان ثمة شاب يبيع بدلا عنها، طلبنا منه دوندرمة فذهب لإحضارها من مكان بعيد، تساءل أحد الواقفين ـ خاف الدوندرمة تموع بالطريق.. ام رجب وينهه؟
أم رجب ماتت منذ ربع قرن تقريبا، فلماذا حلمت بها يا ترى؟ خالي مات أيضا منذ 28 سنة فلماذا جاء الآن لتهدئة ثأر عشائري بطله حفيده؟
عادة ما تكون أحلامي انعكاسا لصور أراها في الواقع، صور تستعاد أثناء النوم بطريقة غير منطقية ولهذا ربطت فورا بين مجيء خالي في حلمي المسائي، من جهة، وحادثة تقليبي ألبوم صور عائلية قديمة عصر اليوم نفسه، من جهة أخرى. في الألبوم المذكور رأيت لخالي صورة نادرة، كان لا يزال في ريعان الشباب حليقا ويرتدي سترة غامقة.
في اليوم نفسه تناهى إليّ أن جارنا الشرطي تعرض لمحاولة اغتيال قرب الجامع بكاتم للصوت لكنه نجا بأعجوبة.
قبل ذلك كنت أتجول في سيارتي فصادفني السوبر ماركت الذي اعتدت التبضع منه قبل سنوات، كان مغلقا بشكل حزين.
كل تلك الأشياء ربما تكون قد تجمعت بفوضى تشبه فوضى العراق لتصوغ كوابيسي؛ حرب عشائرية، سقوطي بسبب قرميد لزج، ودكان قديم يتهدم لينهدم معه جسد عجوزي الشبيهة بتلك الأيام، أيام الدوندرمة المصنعة بأيد حانية.
لا أدري حقيقة كيف تتكون الكوابيس ولماذا تنبثق فجأة من قلب الليل لكنني أحدس أن الأمر منوط بما نراه في يومنا. وفي يومنا هذا ثمة هواجس تجثم على صدور الناس وأنا أحدهم، هواجس من مثل محاولة الاغتيال التي تعرض لها جارنا أو الانفجارات المباغتة التي نسمع أصداءها من بعيد ثم نشكر القدر الذي جعلنا لا نذهب إلى حيث تبعثرت الجثث وصرخ الجرحى.
سياسيا، ثمة رائحة ثارات عطنة تهب في الأجواء، ثارات أبطالها زعماء سياسيون ودينيون يطلون بوجوههم من شرفات الموت مهددين بعضهم الآخر باستعارات ومجازات وكنايات نفهمها جيدا.
أجل، ليس سرا أبدا أن هناك موجة خوف عارمة تكاد تصل إلى حافات القلوب لتكسرها، وأن الناس في العراق يترقبون منذ أشهر عودة المليشيات إلى quot;ربيعquot; دمائها اللزجة. بل ثمة من ينصت بمزيد من الثقة إلى تقارير تبث هنا وهناك عن تصاعد حمى شراء الأسلحة بنسبة 15 بالمائة و20 بالمائة أحيانا.
لا يأخذنكم العجب، ففي عراق هذه الأيام تنتعش أعمال الحدادين وترصّع أبواب البيوت بالقضبان العصية على الكسر. أنا شخصيا أتعرض للوم اقربائي لأنني إلى الآن لم أركب أبوابا حديدية لمطالع بيتي.
لأعد إلى كوابيسي فهي من أخرج هذه المقالة الخائفة من الصدر. وعليّ أن أقول هنا أن خالي الذي رحل منذ سنوات طويلة كان متدينا جدا، كان يؤذن أحيانا في جامع الرضوي بمدينة الثورة، وقد توفي في طريق عودته من مكة والمدينة حيث قضى العمرة الأخيرة له. فجأة سقط بينما كان يوزع الماء على المعتمرين.
هل عاد ذلك الخال ليطفئ حربا عشائرية أم دينية..!
لا أدري، لعل دكان أم رجب المتهّدم في الكابوس الآخر يملك الجواب !
فنحن، في الواقع، انهدمت حياتنا الماضية، الآمنة مثل دكاني القديم، بل باتت هذه الحياة لزجة الملمس كعتبة محل قصاب لا يكاد يتوقف عن الذبح.
هل بإمكان متديني تلك الأيام تهدئة أي شيء في حياة أحفادهم.. حتى لو كان ذلك في حلم كالذي رأيته!
لا أدري