تعالوا نَمُتْ... نمُتْ جميعا ً... اختيارا نموتْ... يتهادى الموتُ نحونا ببطء... كبرياؤه من ماء جثثنا ملقاة في حُفَرِه المنخورة... جبروتُهُ الاعمى يهتف:
إنِّي هنا... وهناك... وما بينهما...
لأنَّه يحتقرُنا، تعالَوا نحتقرُه بشجاعة... نحتضنُه قبل أنْ يحتضنَنا... نمارسُه قبل أن يُمارسَنا...
ألا نموتُ في النِّهاية؟
فلماذا لا نموتُ قبل النِّهاية؟
لماذا ننتظرُ النهاية؟
أليسَ الانتظارُ دليلَ عجزٍ وتثاؤبٍ وكسلْ؟
الانتظار...
هذا الطاغيةُ المعتفِّنُ على جلودنا المخدوعة برطوبة الحب... الطاغية المُدمنُ على شرب دمائنا بلا ارتواء... يرتوي من دمائنا ليتعطَّش أكثر...
الانتظار جبروت ُالأيام التي لا تغادر ذاتها... تقاوم أن تخضعْ.... أن تلينْ... وتبقى صاحبةَ السطوة ِاللَّاهوتية على كل أنفاسِنا وهواجسِنا... أَجْهضَها الرَّبُ في رحم خلوده، فاشتعلتْ عناداً منْ عناده... وارتوتْ جبروتاً من جَبروته...
فأينَ هي الحريَّةُ ونحن ننتظر؟
أجهضها الربُّ في شرايينه فأَودِعَتْ في شرايننا لعبةُ الموتِ العاهرة...
لماذا ننتظر إذن؟
تعالَوا احبائي البشر نمُتْ اختيارا...
دليلُ بؤسٍ نَظنُ يوماً أَنّه سيرحلْ، صدِّقوني لنْ يرحلْ... قدرٌ هائلٌ هذا الموت... قضاءٌ مبرمْ هذا الموت... يقهرُ السماءَ وأعمدتَها... الارضَ وبحارَها... فتعالَوا نموتُ طوعا، بكلِّ سرورٍ نشربُ كأسَ السُّم الرؤوم، يَسقيْ شراينَنَا رحمةَ السِفْر الأخير، لقد ملَّت عروقنُا جفاف الانتظار، يموتُ كلُّ شيءٍ حولنا ونحنُ ننتظرْ، فلماذا لا نلتحق ( توا ) بمن سبقنا قبل أنْ يَذلَّنا الانتظار؟
أنفاسٌ تغدو وتروحْ، لا تسجِّلُ سوى حشرجةَ الموتِ الذي سوف ياتي، تغادرُنا رغماً عنَّاْ، فينتشي الموتُ فرحا، لنقهرَه إذن، بطولةٌ إسطورية ٌ هي أنْ نَصْعقَ الموتَ، في لحظةٍ صارخةٍ، يَقظةٍ، حادةٍ، مُدبَّبةٍ، مولعةٍ بالسِحر والالقْ...
لحظةَ أنْ تحسَّ بانَّ جسَدَك يتهاوى صريعا،لأَنَ قلبكَ لم َيصْرعْه الانتظار، بل صرعه الاختيار...
يتهاوى شامخا...
يَسقطُ على الأرضِ مدويِّا...
يسقط...
يحفرُ لنفسه قبرا...
الجسَدُ يحفرُ له قبرا...
لا مكانَ هنا لفاسٍ، ولا لحفَّار قبرٍ... يسقط اختيارا، فيختارَ لنهايته قبْرهْ، هو حرٌ حتى بعد أنْ يرحلَ من زفير هذه الدنيا... إنَّهُ قبرُه، وليس قبْرَ الموتْ، قبرُه الذي سوف يسجّلون على واجهته العريضة: ــ
رفض الانتظار فكان الاختيارُ هو الكاتبُ وهو المكتوبُ، فهل سيكون هو القارئ وهو المقروء...؟
هوَ الموت ْ...
أكبرُ مهزلة في التاريخ، غدا لا نكون، غدا يُهال الترابُ على وجودٍ كان يشعر أنه وجود..
أليستْ هي مهزلةٌ كبيرة؟
دعونا نُحرِّرُ الموتَ من مهزلته، وما ذاك إلاّ باختياره رغماً عنه، نُقرِّبُه، نَصْفعُه، نَبصقُ عليه، ونقولُ له بكلِّ هدوء: إقدمْ وأغرسْ سكينَكَ العمياءَ في سويداءَ قلوبنا، لا نريدُك ترتوي من دمائنا أيها الوغدُ الجبان، بل نريدُ أن نروي عروقنا من دمائِكِ أَيتها المهزلةُ القاسية!
نحي من جديد إذا قهرنا الموتَ على قبولنا، نؤزِمُهُ، نجعلُهُ حائراً بمصيره، نتلاعبُ به، لا يتلاعبْ بنا، نُهزمه، فهل نكونُ شُجعانًا ًفنجهزَ عليه قبل أن يَجهزَ علينا؟
كم كان نيتشة رائعا، كان يطلبُ القمَّةَ كي يموتَ
في الطَّريق إليها، كان يهدف ُالموتَ، كي لا يهدفَه الموتُ الجبانْ...
نَعْشٌ جَرِدٌ يَلوح ُفوق الاكف اليتيمة، هناك ترقدُ جثَّةٌ قدَّمت للموت ِهدية، بَصقتْ في وجهه الحاقد لعلَّه يفيقْ، وما فاق اللعين، كان عنيداً، يريدً أن يثبت أنَّه الأقوى، ولكن رغما عنه إنحنى صاغراً، الّرَّصَاصةُ كانت أسرعَ منه إلى ذلك القلب الشُجَّاع، خرَقتُه لتُثبتَ للموت إنَّها أطوعُ لهذا القلب الزكي من جبروته الاعمى...
جثة ٌلا تمضي بلا رجعة، سوفَ تعودُ منتصرةً، يحملُ دمَّها الجامدَ في العروق وعدُ الحريَّة للذين قرروا أن يموتوا طوعا...
ترنُو رصاصةٌ بعينها السحريِّة لمنْ يتمرَّدْ على المستبد بمصيرها، هي الاخرى تريدُ أن تتحرَّر من هذا المستبد الزائف، تهلهلُ في فضاءِ الوجودْ، الملائكةُ تزفُّ عريسَها، ملائكةُ الارض لا ملائكةُ السماء، تزفُّه إلى مأتمه في قلب الموتْ، لا يرضى أنْ يكونُ له مأتمٌ خارجَ الموتْ، في قلب الموتْ، ليقولَ له: يجبُ أن أقهرَك، أقهرُك بقتلي نفسي، لا بإماتتك روحي، لتمضي بعيدا أيُّها الوِزْغُ الحقير، إنَّك مهزلةٌ، تضْحكُ علينا، تسخر منا، ولكنَّ رصاصةً في الراس تُمهرُها إرادةٌ حرَّةٌ تُخزيك، وتكشفُ ضعْفَك المتلبِّس بقوة مزيفة.
أنْ أموتَ مختارا أقضي على هواجسي التي طالما أقلقتني، طالما جعلتني بين الموتِ والحياةْ، هواجسيْ عن الموت رغماً عن أنفي، فأنا لا أعرف كيف أموت ْ، ومتى أموتْ، ولماذا أموت ْ، أمَّا الموتُ في لحظة اختياري ينقذني من هواجس اليومْ، وهواجس الغدْ، وما بعدَ الغدْ، يحرِّرُنا من الجهلْ، ينقذُنا مِنَ الظلم، يهدينا سبيلَ الخلاص من ضرائب هواءٍ ملوِّثٍ بانفاس القتلةْ، وزكامِ المجرمينْ، وقذارات ِِالمزيفين ْ، وشراهةِ المرابينْ، ودجل السياسيينْ، وخرافة الأخلاقْ، وبطولاتِ الجبناءْ...
وأخيرا من إلحاد (المتديينن ) السَّفلة الاوغاد...
ربَّما...
الموتُ جبراً قد يحرِّرنا هو الآخرُ، قد يحرِّرُنا، نعم، يحرِّرُنا، ولكنْ إذا كان الموتُ على كلِّ حالٍ يحرِّرُنا، فلماذا لا نسرع به، نتعلَّق بمخالبه، لنوجِههَا إلى قلوبِنا فتمزَّقها شرَّ ممزَّق، ونخلصَ مبكِّرين من هذا الطاغوت الجبار، فالوجود طاغوت وأي طاغوت...