أصدرت quot;دار الغاوونquot; في بيروت ديوانًا جديدًا للشاعر المصري شريف الشافعي بعنوان: quot;غازات ضاحكةquot;. يضم الديوان 532 مقطعًا مكثَّفًا في 572 صفحة، وهو الخامس للشاعر، وثاني أجزاء متتاليته الشعرية quot;الأعمال الكاملة لإنسان آليquot;، المكتوبة بلسان روبوت متمرد.
يبتغي الشاعر قصيدته متلمِّسًا دروب الحياة ومفردات العصر، بانفتاح مباشر على كل شيء، دون استثناء، حيث يتعرى الطقس من مجازه وذهنيته، وتتجرد قصيدة النثر فاضحة الأعماق بلا ضجيج. يقول في أحد المقاطع: quot;أعطيني ورقةً بيضاءَ/ سأرسمُ صورتكِ بأمانةٍ/ وستبقى الورقةُ بيضاءَquot;.
يُبرز الغلاف، وهو للفنان المصري محمد عمار، فقاعات متطايرة من الغاز المعروف بالغاز المضحك أو غاز الضحك (أكسيد النيتروز)، وهو غاز يؤدي استنشاقه إلى انقباض عضلات الفكين، وبقاء الفم مفتوحًا كأنه يضحك (دون بهجة حقيقية بطبيعة الحال)، وكان يستخدم في حفلات الأثير المرحة (نسيان الألم)، والآن صار يستخدم في التخدير، خصوصًا في جراحات الأسنان والفم.
وجاءت لوحة الغلاف في السياق ذاته، وهي للطفلة مي شريف (10 سنوات)، حيث يضحك وجه بارد (يتخذ هيئة شاشة كومبيوتر) ضحكة آلية مصطنعة، وذلك في مواجهة الضحكة الإنسانية الصافية (الابتسامة الأورجانيك، بتعبير إحدى القصائد). وعلى ظهر الغلاف هذا المقطع: quot;لستُ صاحبَ مواهب استثنائيّةٍ/ صدِّقوني/ أتدرون: كيف عرفتُ/ أن هذه اللوحةَ لوحةٌ زائفةٌ؟/ لأنها ببساطةٍ لَمْ تكتشفْ/ أنني لحظة نظري إليها/ كنتُ إنسانًا زائفًاquot;.
يتحرر الآلي في quot;غازات ضاحكةquot; من سطوة نيرمانا (أيقونة الجزء الأول: البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية)، منخرطًا في (حالات إنسانية) متتالية ومتشابكة في آن، ينشد فيها الطزاجة والبدائية والدهشة والصدق، ويتطور الإبصار الكشفي لديه مع تتالي المقاطع إلى رؤية كلية شاملة، وفلسفة شفيفة تغلف النص.
الحالة الأولى، هي حالة الألم (معسكر السوس في ضرس العقل الإلكتروني)، وتؤدي إلى البحث عن مسكّن أو علاج. تليها حالة التخدير (استنشاق الغازات)، بما فيها من ابتسامات بلاستيكية (بلون القطن الطبي)، وتواصل باهت مع الآخرين (من الزوار المعقّمين).
ثم تأتي حالة غيبوبة الآلي، وفيها تتضح هلوسات وأحلام الإنسان الطامح إلى التخلص من برامج التحكم، والارتداد إلى صورته الطينية، والانطلاق الحر نحو جاذبية الأرض، والتحليق في السماء. ثم حالة الموت (الموت في الهواء الطلق: هواء طلق)، التي تجسد انتصارًا لإرادة الحياة الحقيقية لدى الإنسان الحقيقي على قوة أجهزة الإعاشة الجبرية للإنسان الآلي في المستشفى.
ويظل شعاع الأمل يداعب المشهد، حيث تنظر (المرآة المتهشمة) إلى طيف الإنسان الحقيقي، فإذا بها (ترى كلَّ شيءٍ، ويعود العالَمُ). ثم يأتي المقطع الختامي بحصاد اكتمال رحلة الرفض والتمرد، حيث فهم كيمياء الوجود، وصيد الجوهر، وامتلاك الماهيّة. يقول: quot;عذرًا قهوة الصّباح/ موعدي اليومَ مع رشفةٍ عميقةٍ/ من الصّباحِ نفسهِquot;.
يُذكر أن الجزء الأول من quot;الأعمال الكاملة لإنسان آليquot; صدر في ثلاث طبعات عربية في القاهرة ودمشق وبيروت (ما بين 2008 و2010)، كما صدر في صيغة إلكترونية عن مجلة quot;الكلمةquot; اللندنية (العدد 55/ نوفمبر 2011). وقد اختير للتدريس في جامعة quot;آيواquot; الأمريكية وquot;جامعة الكويتquot; باعتباره quot;تمثيلاً لقصيدة النثر الحيوية، وانخراطًا واعيًا للشعر في الفضاء الرقميquot;.
للشافعي (40 عامًا) أربعة دواوين سابقة افتتحها عام 1994 بديوانه quot;بينهما يصدأ الوقتquot;، وكتاب بحثي بعنوان quot;نجيب محفوظ: المكان الشعبي في رواياته بين الواقع والإبداعquot; (الدار المصرية اللبنانية)، ومن أجواء ديوانه الخامس الجديد quot;غازات ضاحكةquot; نطالع:
أنْ أوقظَ وردةً واحدةً
خيرٌ من أن أنامَ في بستانٍ
* * *
العصفورُ،
الذي بَلَّلَهُ المطرُ
صار أخَفَّ وأجملَ /
من شدةِ نشاطهِ،
حلّقَ العصفورُ في السماءِ
نفضَ ريشَهُ المبْتَلَّ ببهجةٍ
ليُذيقَ السحابَ
حلاوةَ استقبالِ المطرِ
* * *
كثيرةٌ هي الخرائطُ
فأين العالمُ؟
* * *
الغريبُ،
الذي يعبرُ الطريقَ
ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاءَ
ولا كلبٍ مدرّبٍ /
هو بحاجةٍ
إلى أن تصير للطريقِ عيونٌ
تتسعُ لغرباء
* * *
التحياتُ
للعناصرِ المُشِعَّةِ بذاتها،
لا لمصابيحَ راضعةٍ من كهرباء
* * *
قالت: ليكن صدركَ وسادتي
قلتُ: ليكن صدركِ يقظتي
* * *
تتنكرين لي
فأعيش متنكرًا /
اقتربي،
اقتربي أكثرَ،
لأعلنَ اكتشافي quot;الأشعّةَ فوق البيضاءِquot;
* * *
حياةٌ واحدة لا تكفي
لاعتناق امرأةٍ مبتسمةٍ
* * *
أمَنِّي نفسي بسلامةِ الوصولِ
لأن جُرحي سبقني ووصلَ سليمًا
إلى الضّفّةِ الأخرى من المتاهةِ