تلك هي خشبة المسرح الوطني في بغداد، المسرح الوحيد الصالح للعرض، المسرح الذي يمثل صرحاً ثقافيًا وحضارياً كبيراً ووحيدًا في بغداد، وهو المسرح الذي صرفت له في ما يسمى (الاعمار) أو كما قيل (الترميم) ملايين الدنانير، بل أن المبلغ المخصص بالتمام والكمال كان مليارًا و450 مليون دينار عراقي.

من بغداد: وهذا لم يشفع للخشبة أن ترتدي سقفاً جديدًا يحميها من الامطار، وقد استمر هذا (الاعمار/ الترميم) لمدة تجاوزت السنة، اعمار وراء اعمار وراء اعمار، وتعرض المسرح الى اشكالات في اللون والهيئة في شكله الخارجي والداخلي وصولاً الى قاعة العرض المسرحي التي هي الأخرى نالها (الاعمار) فقلبت رأساً على عقب، وكانت الخشبة مما اُجري عليها شغل كثير، لوقت طويل، في محاولة قيلت إنها لتجديدها، ومات تحتها شاب لم يترك موته صدى، وتواصل اعمارها.. ولم تمر ايام حتى استقبلت هذه الخشبة مهرجان بغداد المسرحي للشباب العربي، ولكن.. لم تمر ايام أخرى حتى فوجئنا بهذا المشهد : الامطار تهطل على الخشبة بغزارة، الخشبة تتشرب الماء بحرقة، يتغيّر لونها، تغرق.. تغرق.. تغرق، والماء يسيل الى اماكن أخرى وليس هنالك سوى نظرات من عدة فنانين وقفوا حداداً يتأملون المشهد مع موسيقى خرير الماء التي تعلو في الصالة، كأنهم ازاء النشيد الوطني، هذه هي خشبة المسرح الوطني التي قيل إنها عمرت، أو قيل إنه عمّر بملايين الملايين من الدنانير، وربما أن المعمرين نسوا أن يعمروا سقف خلفية المسرح أو تغاضوا عنه لتهطل الامطار وتدخل الى مساحات الخشبة، مطر كثير غزير، فمادامت السماء تمطر في ساعات الليل والنهار،وقد استمرت طويلا، فالمطر يغزو الخشبة ويترامى على اطرافها ويهبط الى الاسفل ليكون مستنقعًا في ما بعد !!.
وقفت امام الخشبة، كان هناك عدد من الفنانين، كانوا ساكتين تمامًا وليس سوى عيونهم تنظر ونظراتهم تتحدث بوجع، يتأملون وجه الخشبة الباكي حيث الدموع تسح على خديها وتنحدر الى ارجاء أخرى من جسدها، ربما هم يتساءلون في دواخلهم اين الاعمار اذن ؟ اين ذهبت الملايين ؟ وماذا فعل المعمرون إن كانت خشبة المسرح ليست على ما يرام، اي أن الاعمار لم يمسها، او إن معمرها لم يحسن اعمارها لانه كان يعد الملايين ويقدرها على اقدار معينة لهذا وذاك وذاااااك، انهم ينظرون فقط.. لا يقولون سوى الاحتجاج في دواخلهم لأنهم يعرفون أن احدًا لن يسمع احتجاجهم، بل ان احتجاجهم سيرتد عليهم وسيقال عنهم إنهم (مغرضون)، وإن المنظر الذي امامهم الا بفعل كراهيتهم لادارة (السينما والمسرح) أو سيقال إن البعض اشار الى المطر أن يهطل على الخشبة لاغراض سياسية، ربما بالفعل سيكون الخرير الذي يبعثه المطر خير موسيقى تصويرية للخراب هذا الذي نشاهده امامنا، خراب ليس جميلاً بالتأكيد، لأن خشبة المسرح التي يحرص عليها الفنانون كثيرًا من أي خدش أو ضرر، ها هي تتضرر وبالتأكيد سيكون للماء تأثير سلبي عليها، وقالت لي فنانة إنهم حين يمثلون على هذه الخشبة يحرصون أن لا تقع قطرة ماء عليها، وإن كان هنالك ماء في العرض.. تغطى الخشبة بالنايلون كي لا يصيبها الماء.
إنها خشبة المسرح الوطني أيها السادة المؤمنون بقيمة المسرح ورسالته، أيها الممثلون وأيها المخرجون، ربما ستندهشون لمرآها عيانا، وتتذكرون أن الاعمار قد انتهى قبل ايام فقط، وتتخيلون الملايين التي صرفت عليها، وامامكم مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية، وعليه.. ليست لديكم من خشبة مميزة تقدمون عليها اعمالكم، ماذا لو كان المطر قد انهمر في وقت عروض مهرجان بغداد المسرحي؟ ربما سيقول القائمون على المسرح إن المطر جزء من سينوغرافيا العرض، او ربما سيتم اتهام البعض من أنه دعا الله أن ينزل المطر مدرارا، فتقوم ادارة المسرح بشتمه على منبرها والتي يجوز لها ما لا يجوز لغيرها.
انه أمر يدعو الى البكاء والرثاء، ونتمنى أن يخرج على الناس من يهمهم الامر وأن يقولوا اين الاعمار اذا كانت خشبة المسرح هذا حالها، وليقولوا للناس على ماذا صرفت المليار والـ 450 مليون دينار، لله درك يا عراق، كم تتحمل من طعنات وأوجاع !!.