حدّثني قبل أن يخترمه الردى في مبتدأ ثلاثيناته: (1)

وحدي مَنْ يقطعُ هذا الطريق. ولا أحد يجرؤ أن يتوغل فيه ليلاً. فقيلَ عنه فيضٌ من الأقاويل عن الطناطل والسعالي والجنّ والمردة والشياطين والضواري وقُطّاع الطرق.. ففي ليلة ما ركبني الجنون، قلتُ سأقتحمه وسأذهبُ الى بيت عمي في قرية تبعد ساعة عن قريتنا. وأقفُ لصق نافذتها / نافذة بنت عمي /، اطرق عليها بأناملي، اوقظها من مخمل أحلامها، وسرعان ما تخف اليها وتفتحها فتضعُ يديها داخل كفي المفتوحتين مثل جناحي حمامة. ثمة طرق كثيرة تفضي الى قريتها بيدَ أنّها طويلة. لكن هذا الدربَ قصير ومحفوف بالخطروالرهبة . سأقتحمه وليكنْ ما يكون. وأيّ عذاب أهون من الموت. إنْ مُتُّ أو تعرضتُ لشرّ ما فيُقال عني: كان جريئاً، إذن سأمضي اليها في جُنح الليل وابعد أيّ خطر عن ذهني.

كانت ليلة ًمن ليالي جنوني، تسللتُ من فراشي بعد أن تأكدتُ من نوم أهلي. تركتهم في مبتدأ منامهم الذي سيكون عميقاً بعد تعب النهارالطويل.. وخاضت خُطاي في الطريق. ابتعدتُ عن قريتنا مسافة خللَ الصمت والرهبة. الّا أنّ روعي في هذه اللحظة أشدّ من الصخر الجلمود. كان الممرُّ يضيقُ ويتسعُ وينحرفُ ميمنة ً وميسرة ً. لكنّ الظلمة َ خفّتْ حين أطلت عليّ ومضات النجوم.واستطعتُ أن ارى تفاصيل دربي. اذكرُ أنّ الناس يخشون ولوجه، حتى في النهار، حيثُ تصعدُ من حوله جدرانٌ صخرية تتخللها شجيرات قميئة. كنتُ ابانذاك تخلصتُ من كلّ شعور بالخوف، ولم اُحسّ بالرهبة مطلقاً. كانت عيناي حادّتين بوسعي أن ارى معالم سيري. بعد أقل من ساعة تجيءُ افضية ٌ مفتوحة، وعلى يمين الطريق قريتُها ببيوتها الطينية والحجرية وأزقتها الضيّقة. وليس فيها شارع عريض سوى السوق يقطعها من وسطها. ومن حسن حظي أن بيت عمي على حواشيها اليسرى...لكنْ، ما هذه الهمهماتُ التي تتصاعدّ من حولي وتختلط بوقع اقدامي؟ ثمّ تتماوج امامي عينيّ كتلٌ ظلامية تنتقلُ من مكان الى مكان برفقه تلك الهمهمات الغريبة.كنتُ عنيداً ركبتُ شيطاني الذي سينضمّ الى هذه الشياطين.سأكون جزءاً من الليل ورهبته . بدءاً ظلتْ كتلُ الظلمة المُتحرّكة بمنأىً عنّي، بل تجري الى جواري أوتسبقني، وأسمعُ حفيف أجنحتها أو خُطاها. تُرى ألها أجنحة ٌ أم أنّ الوهم يختلقُ لي ذلك؟ لستُ معنياً بما يتمرأى لي من خيال، فجأة ً جاءتني صفعة ٌ لكني تماسكتُ. وكنتُ أحمل عصا ذات رأس غليظ كان أبي يحتفظ بها لضربنا وإخافتنا.لكنه لم يضرب أيّ احد منا / أنا واخوتي / بل يرفعها في وجوهنا. رفعتُ عصاي، حركتها يميناً ويساراً ليراها مَنْ يتحرّش بي، فلستُ سهلاً ليُباغتني أيّ كان بصفعة ويتوارى.ثمّ كيف اُصدّقُ مَنْ يحشّدُ رؤوسنا بهذه الترهات من الحكايا عن شياطين الليل. وكلما شحنتُ ذاتي بالجرأة خفتْ مخاوفي. كنتُ خائفاً حقاً فلن اخدع نفسي، لكنّ الغوص في هذا الطريق قرارٌ لا تراجع فيه، لذلك امعنتُ في التوغل. تضاعفت من حولي الهمهماتُ واستحالت صراخاً يقطع دابر الليل. وتمرّ احيانا لحظات صمت ماكرة كانت أخوف علي ّ من الصياح والصفعات. واحسستُ أني قطعتُ نصف المسافة والممرُّ يضيق ويتسعُ والضجيج / الوان واشكالٌ / يكاد يُحاصرني ويحصرني بين خيالاتها الظلامية الكثيفة. أيادٍ تدفعني، لكنّ حركة عصاي تشفع لي وتبعدها عني. الهمهماتُ استحالت أصواتاً، تتفاوتُ علواً وخفوتاً. وكنتُ متورطاً في هذه المغامرة التي لا تُمكّنني من التراجع. كانت عيناي حادتين تخترقان سدف الظلمة وسقفها وترى كتل الظلال المتحرّكة عن عمد او بعشوائية. تذكّرتُ ابانئذ مقولة لفيلسوف: / الخوف يجيء دائماً من الداخل أكثر مما يجيء من الخارج، علينا أن نقطع دابر الخوف النابع منا لننتصر على الرهبة الآتية من حولنا / وتماسكتُ على الرغم من حركات عصاي وتلقي صفعات اخري على ظهري. لم ابدِ ردّ فعل. لم اصرخْ ولم اشكُ بل تماديتُ في الجري. وبدأتُ اسمع صراخاً استحال الى شتائم ولعنات، وصوتاً يصيح: / هذا المكانُ لنا، محظور على غيرنا / قلتُ لصاحب الصوت: / مَنْ انتم؟ وهذا طريق عام، كما أني لا اوذي أحداً / ردّ صوتٌ آخرُ قريب مني: / وهذه العصا التي تُدير بها رؤوسنا وترهبنا بها / انا ادافع بها عن نفسي، كما ان الطرقات الليلية لا تخلو من خطر الضواري / سكت الضجيج ُ. وسمعتُ صوتا آمراً: / دعوه يمضي أنه لا يُضمرُ شرّاً لأحد / احتجّ أحدًهم: / سوف يأتي آخرون وآخرون حتي يستحيل علينا البقاء هنا. وعلينا أن نبحث عن ملاذ آخر / أظنّ أنه أمينٌ ولا يثرثر عن مغامرته تالليلة َ، ها ؛؛ ما رأيُكَ أيّها الفتى الشجاع / نعم، عهدٌ عليّ أنْ احفظ سرّكم أياً كنتم.، ولا أحدَ يركبُ جنونه ويغامر بسلوك هذا الطريق لا ليلاً ولا نهاراً. لكن لن يطول هذا الوضع فسيأتي يوم يجيءُ فيه آخرون، البشرُ فضوليون. عليكم أن تقبلوا بهذا الوضع وتبحثوا أيضاً عن مكان أكثر أماناً. سأكون صديقكم وكونوا اصدقائي /.... ساد الصمتُ واختفت الهمهمات وحفيف الأجنجة، وبات الطريقُ مشوباً بالأمان. لا أدري كم وقتاً أمضيتُ في قطعه. وحين وجدتُ نفسي خارج الممرّ كانت أضواءُ القرية الخافتة ترتعش عن بعد. مرآها الليلي لا يُفاجئني فقد جئتها مراراً في ليالٍ سابقة.... أنا الآنَ قربَ نافذتها الهثُ من التعب، ولسوف أعود من ذات الطريق. أعرفُ أنها تنام وحدَها، ولطالما أجيئُها ليلاً أقفُ لصق النافذة نتحاور سرّاً وهمساً. ولم أكد امُدّ يدي لأطرق عليها حتى انفرجت وبان وجهها تحت ضوء المصباح القريب. وضعتْ اصبعها على شفتيّ: اشْ، لا تقلْ شيئاً، همست بفرح: وبيدها الثانية لامست قطرات العرق على جبيني، وبأناملها مسحتها. وسألت: جئتَ مبكراً والطريقُ طويل؟ / من الطريق الصعب أتيتُ / وكادت تصرخ الا أني وضعتُ يدي على فمها. لا أدري كم امضينا من الدقائق ونحنُ نراوح بين الهمس والصمت. ثمّ غادرتُها عائداً. ولم أكد ألج في الممرّ الصخري حتى صعدت ثانية الهمهمات ثم الصراخ والشتائم: امسكوا به، جندلوه، صفّوه، ولسوف يدلّ آخرين على مكاننا. نعم غشيتني المخافة ُ لكني عنيد.احسستُ أنهم توغلوا داخل رأسي واحتلوه. مع ذلك مضيتُ. وقبل أن ينبلج الفجرُ ويشرف الطريقُ على نهايته ترامى اليّ صوتٌ هاديءٌ رصين: اتركوه فهو أمينٌ لايُثرثرُ ولا يُتيح لأحد أن يعرف سرّه. دعوه يمرّ.

...............

بعد أن تسللتُ الى فراشي: ترامى اليّ صوتُ أمي: ما بكَ؟ / لا شيء كنتُ في الحمّام وعدتُ الى فراشي / وهمدَتْ وهمد تُ. ثم ّتكرّرتِ الزياراتُ الليلية وطريقي كان سالكاً من دون معضلات. وبعد تخرجي تزوجنا. وانجبنا ولدين.

.................

( لكنه مات، بسبب علة في رأسه ) تُرى أكان ما قصّه عليّ شطحة ً من شطحات جنونه؟


--------------

1- كان كلفاً حدّ الهوس بقراءة الفلاسفة بدءاً من إبيقور وافلاطون وافلوطين واغسطين وسقراط وارسطو حتى كانت وكونت وديكارت وفشتة ونيتشة وشوبنهاور.

ومن المسلمين: ابن ماجة وابن رشد والغزّالي والشيخ الطوسي والبيروني وابن طفيل الذي شغف بكتابه: / حي بن يقظان / حدّ العشق.... وفيما كان في المرحلة الأخيرة من دراسته الجامعية تكدّر صفاؤه قبل الإمتحانات باسبوع، تفاقم وضعُه الصحي وادخل المشفى أياماً ثمّ ضيّفته الشماعية. مكث فيها قرابة شهر. وهرب. ولهروبه قصة. ففي أحد الأيام دخل الكلية وتسلل الى غرفة العميد. كان وضعه الجسدي يُرثى له: لحية طويلة، قميص وسخ وجسد نتن لم يُغسل من أمد بعيد. جلس وراء مكتب العميد، وضغط على الجرس. حين دخل العاملُ المُخصص لخدمة العميد فوجيء به. ولديه علم بوضعه العقلي، طلب بصوت آمر: / هاتِ استكانة من الشاي / ذهب الرجل ُواحضر له شاياً. ثمّ خرج واخبرَمعاونَ العميد الذي اتصل بمخفر الشرطة. بعد نصف ساعة كانت سيارة الاسعاف تُعيده الى الشماعية. لكنه خرج / مُعافىً / قبل امتحانات الدور الثاني وامتحن ونجح بتفوّق بزّ كلّ زملاء مرحلته.

واظنه عُفي من خدمة الأحتياط وعّين مدرساً في احدى مدارس مدينته الثانوية وتزوج.

كان يتقدّمني بسنتين دراسيتين،كنا نخرج بعدانتهاء الدوام نتجوّل في شوارع واسواق الأعظمية. وفي احد الأيام ولجنا الشارع المُفضي الى المقبرة الملكية وانتقلنا الى شاطيْ دجلة ودرنا يساراً مع مجراه حتى الدرب الذى ينزل الى ساحة عنتر. ومنها عدنا الى كليتنا لنلحق بغداء الظهيرة في مطعم الكلية.

كان الطريق مترباً ونسيم بارد يهبّ من مسطحات دجلة المائية. وعلى الميسرة والميمنة صرائف طينية. فجأة وقف جوار امرأة كانت تخبز أمام التنور، تُلقم فوهته اقراصاً من العجين لتخرج ارغفة لها نكهة تُذكّرنا ببيوتنا في مدائن كردستان. كانت المرأةُ شابة فاستغربتْ وقفتنا ورمتنا بنظرات عدائية، قلتُ لها مُخففاً روعها. انه يتطلع أن تُقدمي له رغيف خبز وسندفع ثمنه. استغرقتْ في الضحك: / نحن لا نبيع خبزاً / والتقطت رغيفين وقدمتهما له. وشكرناها بمحبة وغادرناها. ناولني رغيفاً واحتفظ بالثاني. وخلال المسافة الى مبنى الكلية انتهينا منهما. كان طعمُ الخبز الحار لذيذاً ذكّرنا باُمهاتنا وأهلينا. وتخطينا كلية العلوم ومقهى النعمان وسينما الأعظمية ثمّ مبنى البريد. أخيراً ولجنا بابَ الكلية ومضينا مباشرة تجاه المطعم.

كان معظم الوقت / ونحن نجتاز دروب الأعظمية / يتحدّث عما قرأه عليّ. وحفّزني على قراءة كلّ هؤلاء الفلاسفة حين فُصلتُ من الجامعة / لأسباب سياسية / مدة عامين.

والآن، بعد أن داهمني الكبر، أتذكّره: موسوعيّاً وعاشقاً ومغامراً وممسوساً بجنون قاتل. لكنه كان مُسالماً لم يُسيء الى أحد..

لا أدري مَنِ الذي حطّه، الآنَ، في بالي، لأسردَ هذه القصة المقتضبة عنه..