رواية تاريخية عن قيام وسقوط الدولة الاباضية الامازيغية الرستمية الحلقة الأولى

قبل الحرب
هنا في منطقة النجود من جبال اوراس، سيكتشف الشيخ عبد الرحمن، الخبيئة التي ادخرتها له الاقدار، الكنز الذي احتفظت به منذ بدء الخليقة، لتقدمه هدية له هو فقط، عندما كان يتجول على غير قصد ولا خطة، استمتاعا بالطبيعة وتأملا في بديع خلق الله، ومحبة في الاشجارالتي تتنوع تكويناتها، مفعمة باسرارخلقها، واعجاز وجود بعضها يخترق صخور الجبل اختراقا، عندما راى عبر شق بين الصخور، ارض الاحلام تنطرح امامه، بما لا يستطيع ان يقنع نفسه بان ما يراه حقيقه تنتمي للواقع الذي حوله، فاعاد فرك عينيه واغمضهما، ليقوم بفتحهما مرة ثانية، كانه يرى طرفا من الفردوس، كما تتحدث عنه كتب العرفان، وتشويق البشر إلى النعيم الارضي، تتهادى امام عينيه، ارض منطرحة بين الجبال، تمتد على مدى البصر، ثلاثة انهار تتدفق عبر تلك الارض لا يظهر مصدرها ولا مصبها، وإنما هي هناك، كان الواحد منها، سهم الله نفذ في الارض، يخترقها من مبتداها إلى منتهاها، ثلاثة اسهم، تتقاطع عبرالاراضين، تصنع فيما بينها مساحات ذات احجام مستطيلة اوثلاثية الاضلاع او مربعات، مفعمة بخضرة اشجار ونباتات، ليست خضرة فقط، ولكنه مهرجان من الالوان يشكل الاخضرار لونه الاغلب والاعم والاكثر هيمنة على بقية الالوان.
خبأ فرحته في قلبه، لم يعبر اطلاقا عن شيء من الانفعالات التي اضطرمت في نفسه، احس بان ما شاهده اكبر من كل تعبير، اكبر من كل بوح، سيعود حاملا هذا الاكتشاف في قلبه، وسيظل طعاما لوجدانه وعقله وخياله، لان ثمة شيئا الهيا، شيئا سماويا، يكمن في هذا الاكتشاف، وسيفصح عن نفسه على مهل وترو، انه اشبه بالالهام، ويحتاج ان يصبر عليه، ويتكتمه إلى ان تظهر كل جوانب الصورة، ويتكشف له السر، الذي اراده الله، من وراء هذا الالهام.
كان بيته بناء من الحجارة به عدة غرف، يمتزج بالالياف واخشاب الزان والسنور، وجذوع النخيل وجريده، مع طين يشد هذا الخليط، بحيث يكون قادرا على ان يقي ساكنيه البرد والحر وشر العواصف المحملة بالريح او الحصى ا والمحملة بالامطار والثلوج، يحف به سور خشبي، يصنع حرما للبيت ومكانا لزرع بعض الشتلات، وكان من حول مسكنه والمساكن التي اقامها بقية افراد الاسرة والمرافقين، براح واسع، سرعان ما اجتاحه الناس الذين يطلبون القرب من مقام الشيخ تبركا به، ومحبة له، وطلبا للانتفاع بعلمه، واقاموا فيه مساكنهم، حتى تحول إلى حي كبير، نمى على جانبه سوق شعبي، واستقطب السوق القوافل التي تحمل القادمين لزيارة الشيخ، من شتى اركان الاوراس، بعد ان ذاع صيت الشيخ باعتباره شيخ اشياخ الاباضية وكبير علماء هذه المذهب، وكان هو مستجيبا لما يريده منه الناس، يضع نفسه تحت تصرفهم، يقودهم في الصلاة، ويقوم بالقاء الدروس بين اوقات الصلاة، ويتصدى للافتاء،كما يتصدى تطوعا للقضاء بينهم دون ان تكون هناك وظيفة رسمية مخولة له من اية سلطة، الا سلطة الناس العاديين الذين اوجدوا لانفسهم صيغة يحكمون بها انفسهم بانفسهم، محتمين بطبيعتهم الجبلية، وعزلتها، وبعدها عن الحواضر التي تكتظ بالجيوش وتستقطب الصراعات. هنا في هذا المكان سيؤسس قيروان الجديدة، تاهرت التي سيقدم عبرها ومن خلالها ولادة جديدة للدولة الاباضية التي اطاحت بها جيوش العباسيين.
عادت به الذاكرة إلى القيروان، عندما ولاه امام الدولة الاباضية الاولى الشيخ الشهيد ابي الخطاب العوفري، ولاية القيروان، وبقى هو يدير الدولة من منطقة صياد بطرابلس، فلم تستمر ولايته للقيران غير اربعة اعوام، هي كل عمر تلك الدولة، يتذكر تلك الليلة التي هجع فيها إلى فراشه بعد صلاة العشاء، وهو مشغول البال، بما يهدد الدولة الاباضية التي اسهم في تاسيسها مع ثلة من العلماء، يقودهم المجاهد الصوفي، اليمني الاصل والمولد، ابي الخطاب العوفري، فهناك تهديدات تجدد صدورها من العراق على لسان الخليفة ابو جعفر المنصور بسحق هذه الدولة، التي نشأت في طرابلس، وهزمت عماله في كل من طرابلس والقيروان، وازالت حكمه من هذه المنطقة، والتي يعتبرها تهديدا لدولة العباسيين في الشمال الافريقي كله، وامتدادا لفتن صنعها له الخوارج على اطراف العراق وفارس، وهاهي فتنة اخرى تنبثق في ارض المغرب،على ايدي جماعة ينسبها الناس لاولئك الخوارج، ولم تنفع بعض الحملات التي قام بها اعوان محليون وعملاء للخليفة العباسي ضد الدولة الاباضية في طرابلس، لان اهل هذه الدولة عرفوا كيف يدافعون عنها باستبسال وبطولة، ونجحوا في افشال كل هجوم ومؤامرة، فصدر تهديده عاليا بانه سيعد العدة لحملة اكبر واوسع، وتواترت الاخبار من مصر في اليومين الاخيرين بان ثمة تعبئة وحشدا وتدبيرا لمثل هذا الهجوم، فصار الشيخ ابن رستم لا يستلم للنوم الا بعد ان يقرا حزبين من القران يختمهما بدعاء يطلب فيه الرحمن ان يدرأ المخاطر عن بلاده واهلها ويبطل المؤامرات عن الدولة الناشئة، ويرد كيد الكائدين إلى نحورهم (( وبسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الارض ولا في السماء وهو على كل شيء قديرquot;، لهذا كله فانه عندما ايقظه حارسه نعمان، عند السحر، قائلا بان موفدا وصل من الإمام ابي الخطاب، في صياد بطرابلس، يطلب ان يراه على عجل، ادرك ان في الامر شرا مستطيرا.
خرج للقاء الموفد في قاعة الحكم، وقد بدا واضحا من ملابسه المعفرة بالاتربة، وعينيه المجهدتين، المحتقنتين احمرارا وتورما، انه قضى الليل ينهب باقدام جواده الارض، ليصل برسالة امام الدولة الاباضية في اسرع وقت. كانت الرسالة تقول بان الإمام ابي الخطاب، انطلق في جيشه لمجابهة الحملة العسكرية القادمة من مصر، يقودها عامل العباسيين في مصر محمد بن الأشعث وقد تحرك يصد الهجوم عند التخوم الشرقية للدولة الاباضية، قبل ان يصل اليها الجيش الغازي ويتوغل فيها. واضاف الموفد بان هذا هو الهجوم الكبير الذي هدد به الخليفة العباسي - وقد دخل مرحلة التنفيذ بعد طول اعداد وتجهيز-. كان رسالة شفهية، لم تكن تحتاج لشرح اكثر مما قاله الفارس الذي جاء يخترق الظلام من العاصمة، وكان الوالي عبد الرحمن بن رستم واعيا بكل ما يحيط بهذا الهجوم، مدركا لمدى الغل الذي كان ينمو في صدر الخليفة العباسي، ويجعله يصدر اقسى كلمات التهديد بالانتقام واقواها، متوعدا بان يهد صياد على رؤوس حكامها، ويعيد القيران إلى سكانها الاصليين، من وحوش وهوام وبهائم وحشرات، تلك التي طردها عقبة بن نافع واحل هذه الحاضرة الاسلامية وسكانها مكانها.
تلقى عبد الرحمن بن رستم الرسالة صامتا، وامر حارسه نعمان ان يهيء مهجعا وطعاما للفارس حامل الرسالة، سائلا اياه ان يبقى ليرافق الجيش الذي سيشارك في القتال، لان بعض الفرق، قد تحتاجه كدليل في رحلة الذهاب إلى ارض المعركة.
راي زوجته ام عبد الوهاب تطل من باب خلفي للقاعة، بعد ان غادر الموفد مع نعمان، تسال ان كان في الامر ما يوجب القلق، فلم يشأ ان يؤكد ظنونها، وسالها ان تعود إلى نومها، وعندما سالته ان يعود هو ايضا إلى فراشه، قال بلغة العلماء التي تعودت سماعها منه:
ـ لات ساعة نوم يا خديجة.
ــ هل تحتاج لشيء أحضره لك؟
ــ لا حاجة بي لاي شيء الان، بورك فيك.
ثم تذكر شيئا فقال يسألها أن توقظ فقط ابنها الأكبر عبد الوهاب ليقدم عليه في هذا المكان.
وخطا بضع خطوات خارج القاعة، يدعو اقرب الحراس الليليين ان يمثل امامه،وفي التو قام بارساله إلى بيوت امراء الجيش الاربعة واستدعائهم لاجتماع طاريء يعقد في القصر، وكان قد سبقه بالوصول إلى القاعة فتى في قيافة انيقة، فقد ابدل بلباس نومه ملابس النهار وجاء يلبي نداء أبيه. فوق العشرين بعامين اوثلاثة اعوام، وسيم المحيا، نظيف البشرة، في قامته طول وحافة، وفي عينيه عزم وتصميم، وقف بهامة مرفوعة، واحناها توقيرا لوالده يقبل يده، وعاد لرفع هامته، واقفا في حالة استعداد مثل جندي امام قائده، ينتظر ان يتلقى الاوامر. كان الاب قد اختار له مهمة اصعب من تلك التي عهد بها إلى الحراس، واكثرمدعاة للحرص في الاختيار والثقة. اذ انتقاه ليمضى مع فجر هذا اليوم، إلى عامل قابس، وهي عاصمة مقاطعة تتبع الوالي في القيروان، برسالة ليست شفوية هذه المرة، كما تلقى هو رسالة الإمام، وإنما ارادها ان تكون تكليفا مكتوبا، لا لبس فيه ولا غموض، وقام في التو إلى الريشة والصمغ، ليكتب رسالة يشرح الظروف التي تحيط بالهجوم الذي تتعرض له الدولة الاباضية وخطورته، ويسال العامل ان يستنفر كل ما لديه من إمكانيّات عسكرية، وباقصى ما يستطيع من سرعة، وحشدها لدخول المعركة التي باشرت الدولة دخولها على تخومها الشرقية.
كان مؤذن جامع عقبة بن نافع المحاذي للقصر، قد باشررفع صوته بالاذان، عندما توإلى وصول القادة، فام بهم صلاة الفجر، قبل ان يفصح لهم عن فحوى الرسالة التي تلقاها من الإمام في طرابلس- صياد، فهي الحرب بكل ما يجب ان يعده لها الناس من قوة ومن رباط الخيل، واعطاهم مهلة يوم واحد لاعداد الجيش وتجهيز المؤن والعتاد، ليبدأ الانطلاق تحت قيادته صباح اليوم التالي، ولم يكن الامر مفاجأة خالصة للجميع، فالنذر لم تكن خافية، وحالة الاستنفار كانت معلنة بين العناصر المحترفة والمتفرغة للعمل العسكري، ولكن الجيش في الدولة الاباضية يعتمد ايضا على اهل التطوع والحمية الوطنية، ممن لايمكن انتزاعهم من اعمالهم ومعيشتهم وارزاقهم، الا لحظة ان ينطلق صوت النفير، وها قد جاءت الان لحظة اطلاقه، فلابد ان يعرفوا من الوالي ما يكفي من المعلومات عن المعركة القادمة، وتوالت اسئلة الامراء عن القوة القادمة ومدى حجمها، اي عدد جندها وما لهم من عتاد، وعما اذا كان قد تم تحديد ارض المعركة وما طبيعتها، الا ان الوالي لم يكن يستطيع الا امدادهم بالمعلومات الشحيحة المتوفرة، املا ان تتمكن القيادة في عاصمة البلاد بامدادهم بمزيد من المعلومات، مع ما يمكن ان تحصل عليه فرق الاستطلاع في الجيش، واتفق معهم على ان يباشروا ارسال فرقة استطلاع من عشرة جنود منذ هذه اللحظة، تغادرفي التو لكي تستجلي الطريق إلى البر الطرابلسي، وترسل احد افرادها عائدا للجيش بالاخبار اذا استوجب الامر ذلك. لم يفصح تماما لامراء الجند عن قلقه الشديد من مصير المعركة، فهو يعلم ما يتوفر لدى دولة العباسيين من امكانات، وما تستحوذ عليه من امصار تستطيع ان تحشد منها عناصر القوة والمدد بشرا وعتادا، وهي امكانات لا مجال لمقارنتها بامكانات الدولة الاباضية الناشئة التي لم تكمل اربع سنوات، من بعد تكوينها على يد خمسة علماء من رجال المذهب الاباضي، هو واحد منهم، استطاعوا استنفار اهل هذا المذهب من امازيغ وعرب، وانهاء حالة الفوضى التي كانت تعيشها المنطقة، تحت سيطرة ولاة وامراء ظالمين، اشاعوا الفساد واستباحو ارواح الناس واعراضهم واموالهم، فضج اهل هذه المناطق بالشكوى، وقاموا بتمرد تلو الاخر، ولانه كانت تنقصهم القيادة الفاعلة، دحرتهم الفئة الضالة الظالمة من اهل الحكم، وكانوا على استعداد لاحتضان اية فئة قادرة على ارشادهم إلى طريق الخلاص،واستطاع هؤلاء العلماء الخمسة الذين جاهروا بالثورة، والدعوة لتاسيس الدولة، توحيد الناس في جبل نفوسة والجريد والساحل الطرابلسي والتونسي وتاسيس دولة مستقلة لهؤلاء الناس. ولم يتوقف التآمر ضد هذه الدولة منذ اول يوم لميلادها، الا انه هذه الحركات المتمردة لم تكن ذات عزوة ولا قوة، لانها كانت تقوم على فتن محلية، فتمت هزيمتها بسرعة، ولابد ان تلك الهزائم التي منى بها عملاء الدولة العباسية وانصارها، هي التي حفزت الخلافة في العراق إلى حشد اقصى قوة ممكنة هذه المرة لضمان الفوز. وكان كل ما قاله الوالي عبد الرحن بن رستم، في ختام اجتماعه بامراء الجند، انه يتوقع معركة كبيرة فاصلة، وان ثقته في ابطال مناطق الجريد ومناطق جبل نفوسه وما يملكونه من روح قتالية وشجاعة واستبسال سوف تنصر الحق الاباضي ضد بغي الظالمين.
كان على جدول اعماله استدعاء اعوانه في الحكم وعلماء المدينة لترتيب البلاد لظروف الحرب، كذلك الاجتماع بعدد من اهل السوق ورجال الصناعة مثل شهبندر التجار ورئيس الحرفيين و شيوخ احياء العطارين والنجارين والحدادين وغيرهم، ومعرفة ما يمكن ان يسهموا به اثناء فترة الحرب، لكنه راى ان الوقت ما يزال مبكرا، ويمكنه الانتظار إلى ما بعد الشروق، وقرر ان يذهب في ذلك الوقت المبكر من النهار، إلى الهضبة التي وقف فوقها عقبة بن نافع، عند تاسيس القيروان، يدعو سكان الوادي اسفل الهضبة، والسهوب التي تحيط به، من وحوش وانعام وبهائم وحشرات، ان تترك هذه الارض، التي سيقيم فيها مدينة جديدة لجنده، وحاضرة من حواضر الدولة الاسلامية. انه مشهد لم يحضره، وسابق لمولده بخمسة عقود، لكنه عاش في ذهنه لا يغادره منذ سمع به طفلا وهو يدرج، ويده في يد امه، فوق بساتين القيروان، ويتسلق بمساعدة تلك الام دروبها الجبلية، حيث جاء معها للاقامة منذ سنوات عمره الاولى، فتغذي جسمه من عبق تاريخها، وارتوى من ينابيع مائها، واختزن المعارف من مجالس علمائها، واستوعب في خلايا بدنه اشعة شمسها ودفقات هوائها، واختلطت بدمه بعض موجات ضوئها، وتنعم بنفحات من بركات مؤسسها، الذي اتخذه مثلا وقدوة لصوفيته ونزاهته واشراق روحه، وهو يرى ما لا يراه الاخرون، ويعرف ما لا يعرفونه. امير الجيوش، القائد المجاهد، والولي الصالح سيدنا عقبة بن نافع. انه يغبط نفسه لانه يجلس اليوم في مكان ذلك المجاهد الاسطوري ومقامه، وبطل تاسيس الدولة الاسلامية من اهل الله وسيوف دينه المسلولة، وواضع حجر الاساس لهذه المدينة التي يشرف اليوم بقيادتها، ويستعد باذن الله لخوض معركة الدفاع عنها. انه لحري به في هذه اللحظات التي تعاقبت سريعا تحمل اخبار الحرب، ان يستمد نفحات من اريج ذلك البطل وعطره، بالحج إلى المكان الذي بدأ منه رحلة تاسيس القيران.
ذهب إلى تلك الهضبة مصطحبا حارسه النعمان، وهبط لحظة وصوله عن جواده، تاركه في عهدة الحارس، دون ان ينسى وظيفته الارشادية التعليمية فيقوم بتذكير الحارس باهمية المكان وخطورته في التاريخ ليملأ وجدانه من العبق الفائح حوله وجلال المشهد الذي امامه.
ومشى إلى حافة الهضبة منفردا بنفسه، تلفح وجهه نسائم صباح باردة، ويقتحم صدره عبيراعشاب الجبل واحراجه، بنكهتها القوية التي تترك لسعة في الحلق، وتمر بوجهه لفحة ريح باردة، فيحس بحركة لحيته وهي تلامس اذنيه باطرافها، وتظهر بعض شعراتها امام عينيه، وقد اختلط بياضها بسوادها. وقف حيث تنطرح امامه مدينة القيران التي صار عمرها الان تسعون عاما، وقد اطلت مواكب النور التي تسبق بزوغ كوكب الشمس من وراء الافق، تنشر غلالة شفافة ذات لون ارجواني فوق المدينة. مبانيها وبساتيها وقباب ابراجها ومآذن مساجدها، مستغربا بينه وبين نفسه ان يكون انجاز هذه المدينة قد تحقق في هذا الحيز الزمني الوجيز الذي لايزيد على العقود التسعة. اي جهد خارق شهدته هذه الحاضرة من حواضر الاسلام، فتفوقت على حواضر عمرها الاف السنين، وما ذلك، يقول ابن رستم في نفسه، الا لانها مخلوطة بانفاس ذلك القطب الصوفي الكبير، ذلك الولي من اولياء الله الصالحين، فبئس الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور، الذي قال انه سيعيدها إلى اهلها من اوابد الطير، ووحوش الافتراس، وخسيس الحشرات السامة والقارضة، الزاحفة والطائرة التي طردها منها سيدنا عقبة. سيرد الله كيده في نحره، قبل ان يلمس حجرا من احجار مدينة عقبة، او يهز غصن شجرة من اشجار بساتينها.
اغمض عينه وقد تمثل المشهد الذي طالما اعاده في ذهنه. كان القائد عقبة، قد صلى صلاة الجمعة في جمع من اجناده ورفاقه، ثم اقترب من حافة الهضبة، مع ثمانية عشر رجلا من اصحاب رسول الله كانوا في معيته، فدعا واصحاب رسول الله يؤمنون عليه، وكانت ارض القيران، قبل ان تصبح مدينة بهذا الاسم، تمتد امامه سهوبا شاسعة كثيرة الاشجار، وواديا عامرا بالادغال، موئل الكواسر من الوحوش، والسباع والهوام، وهو يقف مديد القامة، مرفوع الهامة، ولحيته الكثيفة البيضاء تهتز تحت ريح الظهيرة، ويلمع بياضها الفضي تحت شمسها، مناديا بصوت جهوري وحوش تلك الادغال، وقد جاءت موجات الصوت تترقرق في ترجيع الصدى كانه صوت عشرات البشر، يرسلون معه نفس النداء:
ــ يا اهل هذا الوادي، ارتحلوا فانا نازلون.
ــ يا اهل هذا الوادي ارتحلوا فانا نازلون.
وكرر النداء عدة مرات، قبل ان يستهل خطبته فيهم باية من القران الكريم:
ــ quot; وما من دابة في الارض، ولا طائر يطير بجناحية الا امم مثلكمquot; صدق الله العظيم، الذي جعل كل خلقه اخوة، وانا هنا اخاطبكم بروح الاخوة التي امر بها كتابنا الكريم، قائلا لكم انني جئت احمل رسالة الاسلام إلى البشر، ولا خصومة لي معكم، لكن وجودنا في هذا الجزء من البسيطة يحتم علينا ان نقتطع مكانا يصلح لاقامتنا، ويتوفر على قوت لاهلنا وعلف لجيادنا، وماء للشراب والزرع، وحمدا لله فان في هذه الارض براحا لكم ولنا، دون ان نعتدي عليكم او يلحقنا اعتداء منكم، دون ضرر ولا ضرار، وهناك خلف هذا الوادي وما تحيط به من سهوب، شعاب واحراج خارج تقاطع الطرقات، وخارج مناطق الاحتراب، واكثر امانا وسلاما وصلاحا لكم ولاقوامكم، واريد ان اراكم منذ الان تباشرون الانتقال اليها، قبل ان ينتقل الجند وعائلاتهم وجيادهم وابلهم إلى هذا الوادي يقطنونه، وامامكم ثلاثة ايام، فابدأوا هذا الرحيل على بركة الله quot;
هكذا يتناقل الرواة الحكاية، ويقولون انه اشار إلى ثلاثة دروب بين الجبال، يمكنهم ان يسلكوها خارج الوادي والسهوب، إلى تلك المجاهل والاحراج بين الشعاب، وقد التقى ابن رستم في طفولته، بشيخ عاش طويلا، وكان حاضرا ذلك المشهد، وراى بعينيه المعجزة التي حصلت فور انتهاء القائد عقبة من القاء خطابه، فقد شاهد الناس اسرابا من وحوش الادغال تبادر بالانطلاق نحو تلك الدروب، تترك مخابئها بين الادغال، وتنطلق في جماعات، تحاذي بعضها بعضا، ولا تتعارك ولا تعتدي على بعضها البعض، وهي تلبي النداء، وتمضي في المسارات التي اشار اليها نحو مقرها الجديد الذي حدده لها، بدأ الخروج الكبير، بضواري الوحش من اسود ونمور وفهود، ثم اعقبتها في طابور موالي الضباع والذئاب والثعالب، ثم انطلقت بعد فترة افيال وحمير وحشية وجاموس بري وانواع من الكركدن والخرتيت، ثم حيوانات باحجام اقل هي الغزلان والارانب والقنافذ وحيوانات الخلد تتبعها الجرابيع والفئران وسباع الليل، ثم الضباب والسحالي والحربوات، كانت هذه تمشي فوق الارض، بينما انطلقت حشود اخرى طائرة تزحم الاجواء وتصنع طبقة فوق رؤوس الحيوانات السفلى. انواع لا حصر لها من الطيور، جوارح الطير من صقور ونسوروعقبان ولقالق وغرانيق، إلى اخرى مثل طيور الخطاف والقطا والبوم والخفاش، وفي الاخر كانت الزواحف، ديدان وافاعي ثم خنافس وعقارب وصراصير وامم من النمال، تصنع هذه المرة مسارب اشبه بالانهار لم تنته الا في نهاية اليوم التالي، وامهلها القائد عقبة يوما ثالثا كما وعد، وفي اليوم الرابع هبط في رهط من جنوده وصحابة رسول الله، تاركا خلفه جنده في معسكراتهم وقوامهم اكثر من عشرة الاف شخص، بينهم اهل عمران وصناعة، واستهل جولته وسط هذا الحشد الصغير، بان رشق رمحه في تلك الارض التي غادرتها الوحوش، وقال يخاطب من حوله:
ــ هذه قيروانكم.
اثناء رجوعه لامتطاء فرسه قال الوالي ابن رستم متبسطا مع حارسه نعمان:
ــ هل قلت لك انه هنا وقف سيدنا عقبة ابن نافع، يتامل القيراون وهي غابة مليئة بالوحوش.
فرد نعمان بانه سبق ان جاء معه إلى هذا المكان وعرف منذ ذلك الوقت اهميته واهمية المؤسس الاول لهذه الميدان، البطل الاسطوري عقبة بن نافع، فاضاف الوالي :
ــ هل قلت لك ايضا انني اعرف رجلا يعرف عقبة ابن نافع وحضر يوم تاسيس القيروان، وانني سعيد وفخور بذلك.
فرد الحارس مبتسما:
ــ اذن فإنني احمد الله على نعمائه، لانني اعرف رجلا يعرف رجلا يعرف عقبة ابن نافع.
فسأل الوالي مستغربا :
ــ ومن تراه هذا الرجل يا نعمان؟
ــ انه انت يا سيدي الوالي.
اثناء هبوط عبد الرحمن بن رستم من الهضبة، راى الشمس تتسلق الافق، تحفها مواكب الابهار والجلال، وتجرها عربات السحب ذات اللون الذهبي برفق وبطء، واحس بانه لا يستطيع ان يستجيب لهذا المنظر الفاتن استجابته السابقه ولا ان ينفعل به كما كان يفعل في غير هذا اليوم الذي جاء محملا بالنذر الخطيرة المؤسفة، وجاء على باله ان يمر بمسجد عقبة، خاصة انه لا يبعد غير خطوات عن قصر الوالي، ليغترف من الصلاة بين جدرانه نفحات من السكينة وطمانينة الروح، وكان قد انتدب للمسجد اماما هو احد كبار علماء الدولة، وهو ايضا من استلم منصب قاضي القيروان، الشيخ نصر الدين القنطراري، فهو شيخ من اشياخ المذهب الاباضي، زامله في الدراسة صغيرا، وينتمي إلى نفس فئته العمرية، على مشارف الخمسين، يحب الاستئناس بحكمته ورشاد رايه، فعرج قبل العودة إلى القصر، لبدء الاجتماعات مع اعوانه، على الجامع ووجد صاحبه نصر الدين جالسا يطالع كتاب الله، قريبا من المنبر، لم يبدأ حصة الجلوس للقضاء بعد، فاطلق السلام، وصلى ركعتين تحية المسجد، وركعتن تبركا ونافلة، وجلس يمد حبل الحديث مع صاحبه امام الجامع، ويساله ان كان قد علم باخر الاخبار، فبقى الشيخ صامتا للحظة قصيرة، وكانه يتامل ماذا يقول جوابا على السؤال، ثم فتح فمه قائلا انه لم يسمع حتى الان شيئا، الا انه ليس جاهلا تماما بما يدور، ولان عبد الرحمن بن رستم كان عارفا باسرار الشيخ فقد عرف ما يعنيه واسرع قائلا:
ــ اذن هي الرؤيا يا شيخ نصر الدين.
ــ نعم انها هي يا سيدي الوالي، وانه والله لشر مستطير.
انزعج الوإلى من كلام صديقه الشيخ، لان ذلك يؤكد ظنونه في النتائج الفاجعة لهذه المعركة غير المتكافئة، وتساءل يريد ان يتاكد مما قاله الشيخ نصر الدين
ــ هل حقا ترى ان المعركة القادمة ستكون شرا مستطيرا علينا وعلى دولتنا يا فضيلة الشيخ؟
ــ لم اقل ذلك يا شيخنا عبد الرحمن، إنما اقول ان كل حرب ما هي الا شر مستطير، بغض النظر عن النصر والهزيمة.
ــ نعم، هذا ما ما يقوله كل مؤمن، فالحرب كذلك وحق الله، هو القائل quot;كتب عليكم القتال وهو كره لكمquot;، اننا كما تعلم ياسيادة القاضي نتلقى هجوما ولا نعتدي على احد، ولكننا طبعا نعول على النتيجة، فدولتنا دولة ناشئة لا تحتمل الهزيمة.
ــ نعم، ستكون معركة شرسة، قاسية ومؤلمة، ونسال الله العفو والعافية، ولكنها لن تكون آخر المعارك. دولة المذهب الاباضي، وان انكسرت، فان كسرها سوف يجبر، وبعثها سيتحقق، عاجلا أو اجلا، وعلى يديك انت ايها الوالي، فاصبر صبرا جميلا، ولا تجزع لما ستؤول اليه الحرب.
كان الوالي قد احس برعشة تسري في جسمه ازاء الكلمات الاخيرة التي قالها القاضي، وكان يريد ان يواصل الحديث معه، ليستكنه اسرار ما يعرفه باسلوبه العرفاني الروحاني وشفافية ما يرى ويسمع مما لا يراه ولا يسمعه الا اهل الولاية امثاله، الا ان جمعا من اهل القضايا، كانوا قد دخلوا المسجد، ينتظرون القاضي ان ياخذ مكانه في مجلس القضاء، فاستسمح الوالي عذرا، لكي يباشر عمله معهم، ودون ابطاء نهض الوالي قائما يستاذن في العودة إلى ديوان الولاية.

الخروج إلى الحرب
بدا واضحا في اليوم المقرر للخروج، ان مهلة يوم واحد كانت مهلة قصيرة جدا، لاعداد جيش للحرب، ولكن قادة الجيش وافراده، والمعاونين المدنيين، انخرطوا في همة وحماس، لتلبية نداء الجهاد وتنفيذ امر الوالي دون تردد، والانهماك بحماس وقوة في عملية حثيثة دؤوبة، لتحقيق الجاهزية، والاستعداد في الساعة المحددة للانطلاق، وقد ساعدهم ان نذر الحرب لم تكن في اي يوم بعيدة عن افاق دولتهم الوليدة.
وهاهي حشودهم تلتقي في هذا الضحي، ويقف الفرسان صفوفا وسط ساحة فسيحة اعدت لمثل هذه المناسبة، تقع في مرتفع على الطرف الشرقي للمدينة، ثلاثة الاف فارس بكامل عدتهم وعتادهم، مستعدون للانضمام إلى المعركة، وخلفهم مائة جمل محمل بالمؤونة وقرب الماء والخيام، صحبة هذه الابل بعض المدنيين من اهل الطبابة والطبخ والتموين، بينهم عدد من النساء المتقدمات في السن اللاتي تعودن المشاركة في الاغاثة والاسعاف وتحضيرالطعام، واعمال الكنس وغسل الملابس، حيث يقمن بعملهن في امكنة مخصصة لهن خلف الخطوط الإمامية، وبين هؤلاء النسوة تحظى ميمونة بمكانة اكثر اهمية من سواها، اذ تتولى مهمة الاشراف والرقابة على تحضير الطعام، والاعتناء الشخصي بطعام الإمام لمقتضيات الامن، خاصة في ظرف دقيق مثل هذا الظرف، وهي إمرأة من قنطرارة، جاء بها الشيخ نصر الدين معه إلى القيروان لتقوم بخدمته وخدمة زوجته التي كانت مرضعا في ذلك الوقت، يصحبها ابنها زهير، وكانت تريده ان ينتفع بعلم الشيخ، ويذهب صحبته إلى الجامع ليحضر دروس تعليم القران، الا ان القاضي نصر الدين راى بعد عامين من خدمتها له، وانتهاء زوجته من ارضاع طفلتها، ان للوالي حاجة بهذه المرأة اكثر منه، وان انتقالها لخدمة سيدها الجديد اقتضته ضرورات ومستجدات احداها ان إمرأة من اهل القيروان كانت موجودة في القصر،قبل ان يدخله ابن رستم، تخدم حكاما قبله، فاشفق عليها الوالي الجديد، وابقاها تواصل العمل، الا ان تقارير كشفت ان خصوما للدولة الاباضية، كانوا على اتصال بها واستخدامها جاسوسة لصالحهم، فتم طردها بعد ان اعترفت بهذه الاتصالات، مما اسفر عن فراغ يصعب ان يشغره الا عنصر ذو ثقة وامان، وهما يتوفران في العمة ميمونة، بضمانة سيدها القاضي نصر الدين، الذي رضى عن طيب خاطر ان تنتقل من بيته إلى قصر الحكم، واطمأن لها الوالي، فصارت هي التي تهيء حمامه، وتهتم باحضار طعامه، وتبعها ابنها الذي التحق باسرة الوالي يخدمهم ويدرس في الكتاب مع ابنهم، وراى الوالي انه لن يستطيع الاستغناء عنها في هذه الرحلة الجهادية القتالية، خاصة وان القادة العسكريين يتشددون في ضرورة ان يعتني بطعامه، والاحتراس من ان يتسلل احد من طرف الاعداء يدس له سما، واطمان إلى ميمونة، يترك لها هذه المهمة في الداخل والخارج، في مطبخ القصر وبعيدا عنه، في الحرب وفي السلم.
كان صاحبه القاضي نصر الدين القنطراري، مصرا على المشاركة في المعركة، لكن الوالي اقنعه، بانه لا يستطيع ان يترك القيروان دون مرجع علمي، يتولى السلطة حسب تقاليد الدولة الاباضية. نعم هناك عون من اهل الادارة وتصريف الامور الاجرائية، سيبقى للاشراف على دواوين الدولة عند غيابه، ولكنه رجل ادارة وتنفيذ، وليس رجل راي وقرار، هذا شأن سيكون موكولا للشيخ نصر الدين يتولاه، دون ان تكون به حاجة لكي يباشره من القصر، إنما من مكانه، وهو يؤدي عمله، اماما وقاضيا في الجامع. وابلغه انه اوصى نائبه التنفيذي بان يسرع بادخال تجديدات على التحصينات والابراج، فقد تصل الحرب إلى ابواب القيروان، ولهذا النائب ميزانية تكفي للانفاق عليها. وكان الشيخ نصر الدين قد خرج إلى هذه الضاحية، قادما فوق جواده، عارفا انه لن يشارك في المعركة، وإنما لوداع صديقه الوالي، الذي يتصدر هذا المشهد الصباحي المدجج بالسلاح، وكان اهل المدينة قد جاءوا مترجلين بعائلاتهم واطفالهم ونسائهم لوداع فرسان مدينتهم، وهم يذهبون إلى معركة لا يعرف الفارس منهم ان كان سيعود لهؤلاء الاهل او لا يعود، وكان هناك انشاد وزغاريد وعزف بالمزامير الشعبية والدفوف، وكان الحماس ياخذ بعض الخيول عند سماع الموسيقى والزغاريد فيعلو صهيلها وترقص وتتسلق الهواء إثارة ونشاطا، ثم امر الوالي باطلاق النفير، فانطلق النفير ودقت طبول الحرب، المعروفة لدى قبائل الامازيغ، وتحدث الوالي في البوق قائلا ان المسير الان، طالبا من الجميع ان يتضرعوا إلى الله بطلب النصر لجيش دولتهم، بقيادة امامهم العالم الجليل ابي الخطاب العوفري، وسال القاضي نصر الدين ان يقود الدعاء، فاخذ القاضي البوق، واستهل بايات الدعاء الموجودة في القرآن، التي تحظ على النصر والجهاد، وتسأل تأييد الله وعونه للمجاهدين في سبيله، ضد العدوان والظلم والافتراء، ثم ثنى بمحفوظاته من التراث وخطب المساجد، في اوقات الاحتراب والازمات، تؤمن على دعائه جميع الحشود الموجودة وسط الساحة، من فرسان ومودعين، ثم ودع صاحبه الوإلى الذي اعطى الاشارة، فانطلق سيل الجنود يهبطون الهضبة باتجاه الشرق للحاق بامامهم ابي الخطاب.
كان الموفد الذي جاء من طرابلس قد اخذ مكانه في مقدمة الجيش، باعتباره دليلا ومرشدا، يمضى جنبا إلى جنب مع قائد الجيش الوالي عبد الرحمن بن رستم، خاصة ان هناك منطقة عامرة بالسباخ، تمتد على مسافة طويلة قبل الوصول إلى تخوم البر الطرابلسي، يعرف طريقا امنا يمر بينها، وقد اخذ الجانب الثاني بمحاذاة الوالي ابنه عبد الوهاب الذي ارتدى بزته العسكرية، متمنطقا بكامل سلاحه، ياخذ تعليمات والده وينقلها إلى قائد جيش الميمنة حينا، وإلى قائد جيش الميسرة حينا اخر، ويذهب إلى المؤخرة يتفقد لوالده سير الجيش هناك، ويطمئن على نظامه وانضباطه ومدى ملائمة السرعة التي يتحرك بها اهل المقدمة بالنسبة للبعير المثقل بالاحمال.
سيمرون بالقرب من غياط النخيل في قابس عند حلول الليل، حيث هناك مكان يصلح للمبيت، وهناك ايضا تواعدوا مع بقية الجيش القادم من بلاد الجريد لنجدة اهلهم في طرابلس. حملة من الفي جندي قادمة من قفصة، وسيكون هناك جيش شعبي ممن تم جمعه من احواز القيروان، سيكون هو ايضا حاضرا في الموعد، افراده من عناصر الجيش غير النظامي، جاءوا بدافع الحمية الوطنية والغيرة على مذهبهم الاباضي متطوعين بجيادهم وسلاحهم وارواحهم.
لا اخبار من الجبهة حتى الآن، ولا احتمال لوجود اية اخبار في المدى القصير القادم، فالمعركة لم تبدأ على الارجح الا صباح الامس، ولا امكانية في مثل هذا المدة المحدودة لحصول اي حسم، او ظهور نتائج تسفر عنها المعركة، وتصل اخبار عنها قبل بضعة ايام. وما يتمناه الوالي هو ان يكون لجيشه شرف المساهمة في حسم المعركة لصالح الدولة الاباضية.
لاحظ ابنه عبد الوهاب،ان والده يكثر من الالتفات إلى الوراء، وفي عينيه حسرة، وعلى وجهه تعبير كدر وضيق، فلم يشأ ان يحرجه بالسؤال عن حالة القلق التي تساوره، واراد ان يطمئنه على الاسرة فقال باسما:
ــ أريد ان أطمئنك أنني رتبت لوالدتي ان تنتقل من القصر هي وأروى وكنزة، وتتخذ سكنا قرب الشيخ نصر الدين، تحسبا لاي طاري يحدث للقصر، اثناء غيابنا في الحرب. فاطمئن يا والدي ان كان هذا ما يقلقك.
ــ تعرف يا عبد الوهاب ان كل امورالبلاد تستحق القلق، لانها مهددة بهذا الزلزال القادم، فنسال العون والنجدة من الله.
كان الطقس مواتيا، خريفيا، والشمس لم تكن قاسية، وسحب يختلط لونها الابيض بلونها الرمادي، تعبر من فوقها، فتخفيها لبضع لحظات قبل ان تبزغ من جديد، دون ان تصدر عنها اشعة تصنع قيظا، لهذا لم يكن ثمة حاجة للمقيل في غابات النخيل الكثيفة والكثيرة التي تعترض طريق الحملة، فتابعوا مسيرتهم ليتوافق وصولهم إلى مكان اللقاء مع نهاية النهار. وكان عليهم عندما وصلوا ووضعوا احمالهم عن الجياد والابل، ان ينتظروا قليلا جيش قفصة وجيش المتطوعين، اذ لم يحن وصولهم الا منتصف الليل، ومع ذلك فان موعد استئناف السفر لم يتغير، بقي كما سبق تحديده، ارتفع اذان الفجر، يصدح به اكثر من جندي، في اكثر من مكان، وبدات الاحمال والسروج تعاد إلى ظهور الدواب.
وكان المطلوب هو ان يحثوا الخطى باكثر مما في طاقتهم، فالمعركة التي بدأت منذ صباح الامس، تحتاج إلى دعمهم ومددهم، والوصول إلى ارضها باسرع ما في امكانهم، فلكل دقيقة حسابها، وفعلا كانوا يجهدون جيادهم، ومن خلف الجياد، كان اهل الابل يبذلون اقصى جهدهم لارغام الابل على المواكبة، فلا تتخلف عن الركب، الا انه عند الظهر، وقريبا من التخوم التي تفصل التراب التونسي عن التراب الطرابلسي، راى الوالي ابن رستم ومن يسيرون معه في مقدمة الركب، زوبعة غبار قادمة نحوهم من جهة الشرق، ثم اتضح ان تحت زوبعة الغبار، جيادا تصنع باقدامها التي تنهب الارض هذه الزوبعة. تقدم عبد الوهاب مسرعا لملاقاة الكوكبة القادمة، وهو شاهر سيفه، وتبعه نعمان الحارس، مقتديا به، شاهرا سيفه مثله،


يسبقان بقية الركب، يستطلعان سر هذه الكوكبة من الفرسان التي تركض بالاتجاه المعاكس لهما، وبسرعة خارقة كانهم في سباق او مطاردة. وسمعا عند اقترابهما منهم، اصواتا تصدر عنهم كانها صوت مناحة، ثم اتضح الصراخ مع اتضاح صورة الفرسان، يرتدون زي جيش القيروان، وكان الصراخ ياتي ممزوجا بكلمات تندب مقتل الإمام ابي الخطاب. ولم يكن هؤلاء الفرسان غير فرسان الاستطلاع الذين ارسلهم الوالي ابن رستم لمعرفة اخبار المعركة، واقفلوا راجعين حال ان سمعوا وهم يبلغون طرابلس، خبر المصير الفاجع الذي لاقاه امام الدولة، وعرفوا دلالة هذا الموت وما عناه من هزيمة وانكسار لدولتهم.
كان اكثر الناس تأثرا هو الوالي الشيخ عبد الرحمن بن رستم. كان يدرك بحدسه ان فاجعة ستحصل، لكن خبر استشهاد صديقه ورفيق حياته الإمام ابي الخطاب صدمة لم يستطع ان يتجلد امامها. كان وجهه المسفوع باشعة شمس الظهيرة، قد ازداد احتقانا، فصار داكن السواد، كثير التجاعيد التي تشابكت تلاقي بعضها بعضا وتعانق بعضها بعضا، وتوصل بين مناطق حول العينين واخرى فوق الحاجبين وشبكة تحت الذقن وحول الفم، تفاجا بها كل من رآه وهو يجهش البكاء، وكأن هذه التجاعيد لم تظهر الا هذه اللحظة، وكان قد هبط عن جوا ده، وامر الجيش بان يتوقف للراحة واعادة تقييم الموقف، وانتبذ مكانا قصيا، يفرغ فجيعته في البكاء، قبل ان ياخذ قائد فرقة الاستطلاع للحديث على انفراد، فنقل له تفاصيل ما عرف من احداث المعركة. نعم جاء ابن الاشعث في جيش مزود بكل امكانيات الدولة العباسية، قوامه اربعون الف مقاتل، وهو ضعف اعداد جيش الدولة الاباضية، وضعف عتادها واماكناتها، لان ابا جعفر المنصور الذي مني جيشه بهزيمة سابقة على ايدي هذا الجيش، اراد هذه المرة الا تتكرر الهزيمة نفسها، خاصة وان ابا الخطاب هو الذي اقتلع حكم الدولة العباسية من طرابلس واخذ مكانه، نعم كان جيش ابي الخطاب معبأ بالعقيدة، وجاء مؤمنا بما تقوله الاية الكريمةquot; كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرةquot; لذلك بدأ جيش ابي الخطاب الهجوم بقوة وبسالة وتصميم اكيد على النصر، وحدث ما افرح قلوب الجيش الاباضي، فقد راى فرار جيش ابن الاشعث امامه، فسار خلفه يطارده بالسيوف والنبال والسهام، وجيش ابن الاشعث يتوارى خلف الانظار، فتوقف الجيش الاباضي، يرقب الافق الذي اختفى خلفه جيش الاعداء منهزما. فايقن انه النصر، وان الله القى في قلوب جيش المعتدين الهلع والخوف، وانهزموا خاسئين مدحورين. عاد جنود ابي الخطاب إلى اماكنهم، فقد كانوا يسيطرون على منطقة عامرة بالمياه، ارادوا الاحتماء بها، ولا يريدون جيش ابن الاشعث ان يستدرجهم لتركها. ومضى الوقت، دون ان يتجدد ظهور الجيش الغازي، واعتلى المراقبون الاشجار والتلال، فما عادوا يرون اثرا لذلك الجيش مما اوحى لهم بانه فعلا قد عاد ادرجاه يائسا. واحسوا ان من حقهم ان يفرحوا بانتصارهم، وان يتحرروا من حالة الاستنفار التي ظلوا عليها لعدة ايام، خاصة وان جيش الدولة الاباضية كان اغلبه جيشا من الفلاحين المتطوعين، ممن تنقصهم انضباطية الجيوش النظامية، فكان سهلا ان يركنوا إلى الاسترخاء، ولا يابهوا بما قد يصدر اليهم من توجيهات بالحذر والاحتراس، وكانوا قد جاءوا قاطعين تلك المسارب الصعبة هبوطا وصعودا من هضاب مناطق نفوسه وشعابها، قبل ان ينتهي بهم المطاف في تلك المواجهة في تاورغاء بمناطق الوسط. وكان هذا الإهمال والإسترخاء والإحساس بالامان، هو ما اراده جيش بن ألاشعث، هو الفخ الذي نصبه للجيش الذي طلع عليه في البداية طلعة اسد هائج، مستنفر الأظافر والأنياب للفتك والافتراس، فلم يكن تراجعه سوى خديعة، ولم يشأ الا افراغ لحظة الزخم والحماس والقوة من قوم يعرف انهم جاءوا معبئين بقوة الايمان، عندما ادعى بانه تخلى عن المعركة، ثم مستغلا حركة ريح مواتية، انطلق في حركة سريعة لينقض على جيش ابي الخطاب، وهو في هذه الحالة من الاسترخاء، بل ان الإمام نفسه قتل، كما روى شهود العيان، اثناء الصلاة، فهو كما قال قائد فرقة الاستطلاع للوالي الشيخ ابن رستم، نصر الخديعة والكذب والتزوير، وليس نصر المواجهة والجدارة والرجولة. وابلغه ان الحديث يدور عن 12 الف شهيد، وان من بقى على قيد الحياة توارى هاربا في الجبال او اختفى في الصحاري، وانه لم يعد هناك جيش يرد جحافل ابن الاشعث عن طرابلس ولا عن اي حاضرة اخرى من حواضر الدولة الاباضية.
ــ نعم.
قال الشيخ ابن رستم، الذي ظل يستمع ذاهلا مصدوما لا تفارق عينيه الدموع، وصوته يرتجف انفعالا وحزنا:
ــ انه الانتقام الانتقام. ابوجعفر المنصور لم ينس ان الإمام ابي الخطاب قبض على عامله في طرابلس، وارسله اليه مهزوما معزولا يخب في جلاليبه حافيا، ليقيم دولة المذهب الاباضي.
وكان بقية جنود الاستطلاع قد نقلوا تفاصيل ما حدث لجنود الحملة الذين انهمروا هم ايضا في نواح وعويل، ومناحة تنعي موت الدولة الاباضية.
انتهت الحرب، سريعا جدا انتهت الحرب،
وانتفت بذلك الحاجة لجيش يواصل المسير إلى البر الطرابلسي. لم يبق الان الا ان يبدأ الناس في هذه الديار جيشا وغير جيش الانهماك في صلاة الجنائز. امر الشيخ ابن رستم بان يدعى الحاضرون جميعا إلى صلاة الغائب على روح الإمام الشهيد، وبقية من قدموا ارواحهم فداء للوطن والعقيدة، وبعد الصلاة بدأ الجيش يفقد انضباطه، وكانت مجموعة المتطوعين اول من طلبت الإذن بالعودة إلى ديارها، كما كان هذا حال اهل قفصة ممن رأوا ان يقتدوا برفاقهم، اما قادة جيش القيران فقد كانوا اكثر التزاما، ولم يتحرك احد منهم الا بعد ان جاءوا يستأذنون القائد، بان لهم عائلات يريدون الاسراع بالعودة إلى تامين حياتها واقامتها، فالاجتياح قادم لا محالة، ان هي الا مسألة وقت، وقد ياتي باسرع من كل التوقعات. وكان الشيخ قد استشار ابنه عبد الوهاب وعددا من القواد في امر عودته إلى القيراون، وإن كان ثمة فائدة من هذه العودة، وكان الراي الغالب هو ان امر المقاومة بات غير وارد، ولا عودة له الا اذا كان هذا الامر واردا ليتولى قيادة هذه المقاومة، وطالما انتفى احتمال المقاومة، لانه لن يكون الا انتحارا اذا حصلت، فإن الافضل لسلامة المدينة واهلها ان يتم تسليمها في سلام وامان، دون حاجة إلى كوارث يوقعها جيش الغزو بها، اذا تم استفزازه واستتثارته. وفي هذه الحالة فانه ليس امام الإمام، الا ان يتخذ وجهة اخرى غير القيروان، يضمن فيه السلامة والامان، لكي يبقى رمزا لقومه واهله، ومناط امل ياتي مع خطط مستقبلية قد تحملها الايام على اجنحتها. وهكذا تقررمنذ هذه اللحظة ان يبادر بتوديع قادة الجيش، وان ياذن لهم بالعودة إلى مدينتهم، هم وجنودهم، راجيا ان يكون بينه وبينهم لقاء في موعد قادم، ومكان غير هذا المكان، وطلب منهم ان يدخلوا المدينة دخولا منظما هادئا، وان يعملوا على استثباب الامن والنظام، حتى وهي الان مدينة تعاني فراغا، قبل ان يتولى امرها العهد الجديد. برغم انهم جيش انتهت مهمته، وتم تسريحه منذ هذه اللحظة. وكان ايضا لحارسه النعمان، ترتيبات مع اسرته يريد ان يقوم بها، قبل ان يعود ليستانف المسير معه، فعهد اليه ان يطمئن على مصير العائلة، زوجته السيدة خديجه، وابنتيه أروى وكنزة، ولم ينس ان يوصيه خيرا بزهير، باعتباره فردا من افراد عائلته، وباعتبار امه التي تركته هناك، وخرجت مع الجيش لخدمته. واتفق معه ان يلحق به عند الميزابيين في الجزائر، الذين ينتسبون إلى قبيلة زناته البترية الامازيغية حيث له اعوان وانصاربينهم.
وهناك ستكون المحطة التي يتجه اليها، عارفا انه سيجد في قلعة شيخ البترية مكانا آمنا للاقامة والراحة وسيكون في امكانه الاستقرار لفترة، قبل ان يضع خطة للمستقبل، وراى الشيخ عبد الرحمن احد قادة الجند قادما اليه يقود جملا يحمل اربع قرب من الماء، وهودجا متواضعا بسيطا، تتبعه خادمته العمة ميمونة التي اصرت على ان ترافق الشيخ إلى حيث يسير.
وراكبا جواده، وقف فوق ثبة صغيرة يرقب الجنود يغادرون، تسح من عينيه العبرات، وتسيل فوق لحيته دون ان يعتني بتجفيفها، وابنه عبد الوهاب راكبا جواده يطوف بين الجنود، ويتفقد احوالهم، يودعهم ويوصيهم بالقيراون خيرا، ثم اعتنى بوضع بعض الامتعة فوق الجمل وامر ميمونة ان تمتطيه، تدخل الهودج وتضع الرسن في يدها تتبعهما، وقد باشر الوالي السابق لمدينة القيروان، مسيرة الهجرة والاغتراب، اختراقا لبلاد الجريد، وصولا إلى ارض الميزابيين معقل الامازيغ والعقيدة الاباضية، حيث يثق في وجود العزوة والحماية والانصار، وسيكون متيسرا ان يرسل إلى الجزء الباقي من العائلة للالتحام به هناك، اذا كتب له ولهم النجاة.

يتبع