الروائية الفلسطينية الأردنية " ليلى الأطرش " تستحوذ على حاستك الأدبية النقدية مما يجعلك لست في حرج أن تقرأ وتكتب عن عمل لها بعد صدور طبعته الأولى بستة أعوام، حيث صدرت الطبعة الأولى من عملها الإبداعي " نساء على المفارق " في العام 2009 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمّان، وأعتقد أنّه لا يوجد أي خلل في الكتابة عن عمل إبداعي بعد سنوات من صدوره،& وهذا العمل الإبداعي الذي أنا بصدده بعد هذه الأعوام الستة يفرض ذاته عليّ كقارىء وعلى الناقد أيضا، خاصة أنّه يقدّم معايشة حياتية واقعية مع نساء على مفارق شوارع متعددة في مدن مختلفة، مما يضع القارىء والناقد أمام سؤال عن هوية أو فنّية هذا الكتاب، هل هو تقارير توثيقية لشخصيات نسائية عايشتها الكاتبة أم يمكن اعتباره صفحات من سيرتها الذاتية؟. و في رأيي كقارىء أنّني في هذا العمل الإبداعي أمام شخصيات نسائية جئن ضمن سرد روائي في غالبية صفحات الكتاب مما يعطي البعض الحق في أن يعتبر الكتاب رواية& تعتمد على سبع شخصيات هنّ النساء اللواتي قدمتهن الكاتبة في فصول كتابها – الرواية السبعة. والتشويق الحاصل في هذا العمل أنّه يتنقل بك من مدينة إلى أخرى أتاح للكاتبة عملها في تلفزيون قطر أن تدخل مدنا عديدة أبدت في بعضها جرأة تجعل القارىء يخاف عليها. تتنوع الشخصيات السبعة في سلوكياتها وأدائها مما يجعلك تعايش مجتمعات مختلفة عبر ممارسات هذه الشخصيات رغم اختلاف المفارق والطرقات التي قابلتهن الكاتبة عليها، مما يجعل الشخصية تمتزج بالمكان فإذا أنت في رحلة تتنوع فيها الشخصيات والأمكنة والعادات والمعتقدات. فمن هي هذه الشخصيات النسائية اللواتي التقتهن الكاتبة على مفارق الطرقات في مدن عديدة مختلفة؟.

"مريم" ماسة الكاميرون في مدينة بيتسبرغ الأمريكية
"مريم عبد الباقي" الفتاة الكاميرونية " قوامها رمح لم تستطع أرض أفريقيا أن تحجز انطلاقه، فمضى سادرا خارج الحدود عن ذات يحققها" ص 13 . هي الشخصية النسائية الأولى التي التقتها الكاتبة على مفارق الطرق في مدينة بيتسبرج الأمريكية إحدى مدن ولاية بنسلفانيا، أثناء وجودها هناك خريف عام 2008 للمشاركة في مؤتمر أدبي مع عشرة من مشاهير كتاب أمريكا. تصوير شخصية مريم عبد الباقي اختلطت في نكهة المكان الذي دنّسه المستوطنون الجدد القادمون لسرقة الثروات على حساب اقتلاع كل براءة في المدينة. احتلت مريم عبد الباقي ومدينة بيتسبرج وعادات أهل الكاميرون موطن مريم الأفريقي 26 صفحة من الكتاب من الصعب تلخيصها، لكن فنيا يمكن تسميتها "قصة قصيرة - طويلة " أو "مشروع رواية" حيث تدهشك المعلومات عن المكان الأمريكي والأفريقي وشخوصه وعاداتهم ربما لا يعرفها إلا المتخصصون. مريم هي صورة ملايين المريميات اللواتي يعشن ترددا و قسوة خلفيتها الإنغماس في حياة حضارية جديدة جئن إليها، أم يستمرنّ نتيجة الخوف المجتمعي المتخلف في المحافظة دون قناعة على عادات ذلك المجتمع الذي شخصّته الكاتبة عام 2008 وإذا بنا اليوم بعد سبع سنوات نعيشه جميعا مريم الأنثى وكافة الذكور القامعين لها ومثيلاتها فارضين عليهن ثقافة موروث ثقافي ديني متخلف من الصعوبة التمرد عليه بدون ثورة تعليمية تربوية تنسف الموروث المتخلف بكل أنواع ثقافاته.

"ربى" فتاة سرقت حرب مخيمات بيروت صباها
اللقاء الثاني لسيدة الترانيم كان ضمن جولة أشبه بجولات المراسلين الحربيين الذين يختارون طواعية الذهاب لمناطق الخطر والحرب التي يتحاشاها بعض المراسلين إن أمروا بذلك حتى وإن خسروا وظائفهم فذلك أسهل من خسارتهم حياتهم في مناطق الرصاص فيها أكثر من الخيال، بينما سيدة الترانيم هي التي تقترح على " تلفزيون قطر" حيث كانت تعمل آنذاك، أن تذهب لبيروت لرصد نتائج ومخلفات مذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا التي بدأت في السادس عشر من سبتمبر 1982 أي بعد ستة عشر يوما من خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت بعد الإجتياح الاسرائيلي عام 1982& ومن بعدها حرب المخيمات الفلسطينية التي دامت حوالي ثلاثة سنوات ، وأوقعت ألاف القتلى والمصابين والمهجرين. هي تقترح ويتردد مدير تلفزيون قطر آنذاك الإعلامي " سعد الرميحي " في قبول الفكرة رغم اعجابه بها، فالفكرة تكاد تشبه رحلة مقصودة للموت، وعندما يلاحظ اصرار صاحبة الفكرة يوافق ، وكانت محظوظة لموافقة فريق إعلامي من التلفزيون القطري مرافقتها. تجاوبت شخصيا مع تقرير المراسلة الحربية هذه ( 24 صفحة ) لأنّني عشت جوانب مما رصده تقريرها حيث عشت حصار بيروت لمدة 88 يوما عام 1982 . هذه المراسلة تعرضت للخطر في أكثر من موقف مبدية شجاعة وصبرا يعجز عنه الكثيرون، وفي النهاية لم يخب رجاؤها فرغم رفض غالبية سكان المخيم الحديث عما جرى لهم من أهوال خوفا من القوى المحيطة بالمخيم& والمسيطرة على لبنان آنذاك ، إلا أنّ الفتاة الشابة " ربى " ابنة السادسة عشرة قفزت من بين الجميع لتحكي ما شاهدته وعاشته من رعب وخوف وجثث لا يحتمل الرجال مشاهدتها ومعايشتها..." ربى شاهد عيان، عرفت هذا بلا وثائق أو استقصاء، وسجلته معنا بطريقة عفوية، كانت تصرخ وتؤكد بأن أطرافا اشتركت في الجريمة، وأنّ الذبح كان على دفعات متلاحقة، وأنّ الموت كان يأتي أسرابا، وتواطأت جبهات لإبادة المخيمات " ص 61 . ثم عرفت تلك الجهات المتواطئة كما رصدتها تقارير عديدة ومنها تقرير هذه المراسلة الحربية وهي: القوات اللبنانية بقيادة إيلي حبيقة، وجيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حداد والقوات الإسرائيلية.

وتبقى خمسة نساء على المفارق،
هنّ " عزة يتيمة الرباط" و " راكبة من الدرجة الأولى " و " إمرأة من المنطقة الحمراء " و " قتيلة الشرف ". ولن أتحدث عن توصيف ومعايشة سيدة الترانيم لهؤلاء النسوة الأربعة كي أبقي شذرات من التشويق لدى القراء للبحث عن هذا الكتاب وقراءة سيرة تلك النسوة، وفقط لا يمكنني عدم تقديم نبذة عن السيدة الثالثة على المفارق وهي " ابنة السماء...جميلة ". ملايين من النساء العربيات يحملن اسم " جميلة ". ولكن هؤلاء الجميلات الثلاثة المقصودات في السرد المبكي للكاتبة هنّ من بطلات حرب التحرير الجزائرية : "جميلة بوعزة" و "جميلة بوحيرد" و "جميلة بوباشا ". وتروي الكاتبة جوانب من بطولاتهن من خلال جميلة واحدة منهن هي " جميلة بو باشا ". صفحات هذه الجميلة معاناة وبكاء عاشته غالبية مناضلات و مناضلي الجزائر في سجون الإستعمار الفرنسي..وصف لحظات لقاء سيدة الترانيم مع هذه الجميلة لا يمكن أن يوقف دموعك وأنت تركض وراء كلمات الدراما الإنسانية..." تتوقف..تغطي البطلة وجهها لتمنع صورا تترى، لم تحتمل البطلة استعادة التفاصيل، بينما يلح من حولها بنفاذ صبر أن تتجاوز قسوته وعنفه وجروح روحها وجسدها وتتحدث عما فعله المحققون بها..أن تستعيد الرهبة ببساطة وتواجهنا بها..تغرس وجهها الجميل في حضنها وتنفجر ببكاء متصل..نحتار ونرجوها أن تتمالك..تستحضر الماضي القريب، فيخنقها بوحها...تنتحب البطلة..وأغالب دموعي " ص 82. وأنا حقيقة وصدقا وأنا أنقل هذه الكلمات لم أتمكن من مغالبة دموعي. من الصعب تلخيص هذا الوصف السردي الروائي التوثيقي الذي يعبر عن ملكة وقدرة في التعبير لا يمتلكها كثير من الروائيين ، وهذا ما جعلني أصف روايتها " أبناء الريح " هنا في موقع إيلاف بأنّ بطلا الرواية هما " اللغة والبكاء ". لذلك أترك التفاصيل لمن يريد قراءتها مباشرة في "نساء على المفارق " كي يعيش صفحات من بطولات جميلات ذلك الوطن الذي قدّم قرابة مليون ونصف من الشهداء الجميلين والجميلات كي يحصل على حريته واستقلاله. حديث الكاتبة عن جميلة الجزائر وبطلها أحمد بن بيلا رغم أنّ ذلك جاء في 26 صفحة فقط ،& إلا أنّ نكهة الكلمات وطبيعة السرد والتوصيف تجعلك أمام مشروع رواية عن بطولات ومعاناة هذا الشعب الجزائري الذي أصبح مثلا عالميا في التضحيات والإصرار على نيل الحرية مهما بلغت التضحيات و عدد الشهداء.

"نساء على المفارق"
لسيدة "ترانيم الغواية" ليلى الأطرش، كتاب يستحق القراءة مهما مرّت سنوات على صدوره، حيث يختلط فيه السرد الروائي المشوق مع التوثيق لحالات مرعبة من أشخاص عاشوها وعانوا منها، وتقارير مراسلين حربيين يمتلكون جرأة فائقة في مواجهة موت محدق.
www.drabumatar.com

&