لا جدال بان الكتب المنشورة بالعربي التى تتعاطى مع الشأن المعماري هي شحيحة.& أما الاصدارات التى تتناول التخطيط واشكالياته وهمومه، فهي على مايبدو نادرة جداً. وتشي هذه الحال، من دون شك، بنقص ابيستمولوجي، رغم ان العمارة والتخطيط يفترض بهما المقدرة على& نسج علاقات متنوعة ووثيقة مع الحياة اليومية لجميع سكنة المدن..والارياف. هل يعزو وجود هذة الحالة لان العمارة تعد من قبل كثر ممارسة "نخبوية" شأنها شأن التخطيط، وبالتالي يفسّر مثل هذا "النفور"، أو يوضّح مثل هذا "الاقصاء" المعرفي غير المبرر الذي "يسري" في جسد الثقافة والمعرفة العربيتين؟. قد يكون ذلك. وقد يكون باعثه "تقاعس" المعماريين والمخططيين انفسهم عن القيام بدورهم المنتظر في "عرض" مهنتهم و"اسرارها" على الملأ بصورة صريحة وبشفافية هو السبب لوجود تلك الظاهرة؟. واياً يكن الامر، فان الحالة التى تسم نشاط تنويعات النشر العربي واصداراته، لا تسر. علماً بان غياب النشر الخاص بالشأن المعماري والتخطيطي، مثلما يخص مؤسسات النشر الحكومية، فانه يطال دور النشر الخاصة ايضاً. ثمة عزوف، لا نجد مسوغاً له، "يهمين" بسطوته على حركة النشر المعماري والتخطيطي. ولهذا، فان اية محاولة للنشر في هذين الميدانين، ستحسب& بكونها ظاهرة صحية واسهامة في كسر "جمود" النشر النوعي وانجاز واضح في مجال الحقل المعرفي والمهني في آنٍ معاً. وكتاب الصديق المعمار والمخطط "علي نوري حسن" (1944)، يدخل في دائرة "كسر" الجمود الحاصل في مجال النشر المهني. انه من ضمن الكتب التى تتحدث عن هموم المهنة التخطيطية و"تروي" قضاياها بلغة سلسة وواضحة، وبسرد مفعم بحب المهنة والفخر في اختيارها كاختصاص، قدم له المؤلف كل طاقته وجهده ومعارفه واجتهاده ..وفي احيان اخرى كاد ان يهبه "حياته"، بكل ما تعنيه تلك الكلمة! نحن نتحدث عن كتاب "خواطر من الماضي: مذكرات مخطط معماري وخواطر تخطيطية من بلاد الرافدين" لمؤلفه "علي نوري حسن" (بيروت/ لبنان، سنة 2014 بـ 504 صفحة، وبغلاف سميك).
منذ البدء، ينشد مؤلف الكتاب الى تحديد الاهداف، التى حثته على تأليف كتابه. انها، ببساطة، اهداف واضحة ومفهومة.. وواقعية، يحتاجها المرء لسد النقص المعرفي الذي "... تعانيه المكتبة العراقية في موضوع.. يخص المدن العراقية وممارسة تخطيطها.. والاهمال الذي واجهته سواء قبل تأسيس الدولة العراقية والحكم الوطني او بعده.."، كما يكتب في مقدمة كتابه. لكنه ايضا يسعى وراء اصدار كتابه "..لتثبيت حق مضيعّ، او ذكر من نسيهم الزمن، وأهملهم المجتمع، من شخوص حورب بعضها، بل مسّ دائرة الخطر والدخول في محذورها.. ندعو الله ان نكون قد وفقنا لذكر بعض الحقائق خوفاً من ضياعها واختلاقها بالباطل ودفنها في متاهات النسيان، ونعتذر سلفاً ان كنا قد نسينا او اغفلنا بعض الإمور، وسبحان من لا ينسى.." (المقدمة: ص13-14).& اذاً، سيكون <الجانب الشخصي> سواء كان "متكلماً اول" ، او "متكلماً عنه"، هو المعيار الذي يهتدي به المؤلف لسرد خواطره، وما لاقاه من أحداث ضمن سيرورة حياته المهنية التى لايزال يمارسها، منذ ان تخرج معماراً عام 1966، من كلية الهندسة بجامعة بغداد. وهذه "الخواطر الشخصية"، الواسمة لنصوص الكتاب بسمة خاصة، يجعل منها المؤلف بمثابة "شهادة شخصية" عن ما "جرى" له، وما "حدث" لزملائه المخططين الذين يكتب عنهم بتلك اللغة الحميمية التى تجعل من قارئ الكتاب (وبغض النظر عن مهنته ونوعية معارفه)، شاهدا على ما تعج به الدوائر الرسمية العراقية من اساليب ادارية متخلفة، و"تقاليد" وضع الشخصيات غير الكفوءة في مناصب لا تستحقها، وغير مؤهلة لشغلها، فقط لانها تنتمي الى ذلك الحزب، او الى تلك الفئة او الطائفة، فضلا على ما يمكن ان يصادفه المرء من مضايقات ادارية وازعاجات مهنية لا تخطر على بال!
يذكرنا المؤلف بان كتابه معني بصيغة& وبأخرى لـ "تثبيت حق مضيعّ". ولهذا فهو يمنح مساحة واسعة من سرده، لمحنة زميل له تعرض لخطر الموت في بلد لا يراعي كثير إهتمام للمهنية ،او الاخلاص، او الكفاءة، او حتى الاحساس بالتعاطف والشعور الانساني. يكتب "علي نوري" عن ما لاقاه الدكتور نعمان الجليلي (1922-1994) المخطط العراقي المعروف (الذي يصفه المؤلف بصفات جد ايجابية& استأهلها عن جدارة)، من مصائب ومعاناة وآلام لن يستحقها بتاتا، في مواجهة "اتهامات" غير صحيحة، وغير عادلة، ومختلقة تماما، اودت به عند أعتاب "محكمة الثورة" المرعبة سيئة الصيت، التى نصبها البعثيون، حكام العراق السابقون، للنيل من خصومهم. لم يكن الجليلي سوى موظف نزيه، ومختص ومهني عالي المهنية ومخلص لعمله ولمهنته. لكن ذلك كله لن يشفع له& في زمن العراق السابق، لان يتهم وان يسجن وربما (يعدم!) وان يفصل من وظيفته. كل ذلك كان بالنسبة الى المؤلف، امرا ليس فقط مؤلما وصادما، لكنه راه غير مفهوم ايضاً، وحتى عبثيا كلياً، خصوصا وان الذي اوصل الجليلي الى ابواب المحكمة التعسة، هم زملاء المؤلف والموظفون العاملون عند دائرة رئيسهم! وهذه احدى "اللقطات" العديدة التى سعى المؤلف لان "يوثقها" في كتابه، كنوع من الادانة لتلك الاعمال التى لا يمكن تفسيرها او تبريرها باي حال من الاحوال. انها جزء من "سرد" للحياة المهنية التى عاشها وعايشها المؤلف في "دائرته" العتيدة. في الكتاب ثمة صفحات عديدة "تحكي" فصول هذه القصة الاليمة. بل انه يرجع اليها في امكنة عديدة من كتابه، فقط ليقدم لنا كيف تكون مصائر الناس، احياناً، معلقة بحبل واه، تتأرجح بين الحياة.. والموت! ان التذكير بهذه الحادثة الشنيعة، بمثل ما جاءت في& "خواطر" علي نوري "الماضية"، لهي تنبيه واستنكار لتلك "الثقافات" التى زرعتها الديكتاتوريات كسلوك مدان في المجتمع. ليست هذه واقعة وحيدة، يشجبها المؤلف في سرده. ثمة "شخصيات" اخرى في الكتاب، تبدل وتغير اتجاهاتها، وفق مصالحها الذاتية، من دون اي وازع اخلاقي. بالنسبة الى المؤلف الذي سعى طيلة حياته ان يعمل باخلاص وتفان وباستقامة، بالنسبة له لا يقدر ان يتصور بان اؤلئك الذين يتحدث عنهم يمكن ان يكونوا مخططين مخلصين او حسني النية. انه يربط المهنة بموقف اخلاقي. وصفحات كتابه، او بالاحرى "خواطره التخطيطية" مترعة بهذه الهواجس.
نقرأ في كتاب "خواطر من الماضي" عن كل ما يهم التخطيط. وكيف تتم اجراءات التخطيط، وما هي معوقاته. لكن الاهم في رأي الكاتب هو "الشخصيات" التخطيطية التى اجترحت ذلك النشاط المهم والاساسي والمؤثر تأثيرا عميقا على سلوكيتنا وعملنا وحياتنا والمشكلة لـ "مورفولوجية" مدننا وقرانا.. ولهذا فهو يفرد فصول عديدة من فصول كتابه الثلاثة عشر، لتلك الموضوعة: موضوعة المخططين. نقرأ هناك عن الاسماء اللامعة التى شهدتها الممارسة التخطيطية العراقية. انهم ليسوا فقط باختصاص معماري (ولو كانوا غالبيتهم كذلك)، فمن بينهم المهندس المدني، والاقتصادي والمختص في علم الاجتماع والجغرافي، وطبعا الاداري، الذي يعول عليهم كثيرا في تحقيق السياسة التخطيطية. ومن ضمن الاسماء التخطيطية التى يشيد بها المؤلف في كتابه، نطالع اسماء مثل: عبد الله احسان كامل ونعمان الجليلي، وعادل صالح زكي ومظفر الجابري، ونمير زينل ووليد حلمي وعماد الهاشمي وعادل سعيد هادي وهادي سهل النجم وغيرهم.
وبما ان الكتاب قد عنونه المؤلف بـ "خواطر من الماضي: مذكرات مخطط معماري.." فان صفحات كثيرة منه يكرسها المؤلف لسيرته الخاصة، ذات الاهتمامات المتعددة. ويسجل "علي نوري" عمله وانجازه المهني، وهو انجاز حقيقي: مرموق وعالي المهنية، كما اراه، شخصيا، وكما اعرفه جيداً(جراء مواكبتي وصحبتي الطويلة له). يسرد "علي" كثير من النجاحات التى حققها، لكنه ايضا يذكر، وبمرارة، عديد المعوقات و"المنغصات" والمشاكل المفتعلة التى صادفها اثناء عمله الرسمي الذي امتد لعقود. انه، في الحقيقة، تسجيل صادق وامين لما مر به هو ومجايليه، ايضاً، من المعماريين والمخططين. فمن خلاله، من خلال سيرته المهنية ، يمكن الاطلاع على هموم جيل كامل، ُكتب عليه ان يكابد نتائج وتبعات التغييرات الدرامية الكبرى التى شهدها وطنه، هو الذي كان شاهدا "تخطيطياً" مخلصا ونزيهاً عن ما جرى من احداث. ولهذا فان الكتاب، وكما اشرت سابقاً، يقرأ بمتعة، بيد انها متعة، لا تخلو، بالطبع، من فوائد. لقد قدم "علي نوري حسن" صفحات مليئة بالافكار والمعلومات& العديدة، التى تنثال انثيالا غزيراً لتضيف معارف نوعية وجديدة& للقارئ المختص ..وغير المختص.
عندما علمت بان "علي نوري" مقبل على اصدار كتاب تخطيطي، يسجل فيه ما مر به،& من احداث& وما صادفه من وقائع اثناء عمله الطويل في مجال التخطيط، سارعت في الكتابة اليه (رسالتي مع رسائل اخرى وثقها المؤلف ونشرها في الكتاب اياه كملاحق)، منوها بضرورة ان يكون الكتاب المستقبلي حافلا بصور فوتوغرافية توثق مختلف الظروف والحالات التى مرّ بها المؤلف. لما للتوثيق وللوثائق من أهمية مفصلية في تثبيت النجاحات وتأشير الاخفاقات، ايضاً، لتفاديها مستقبلا. وما يمكن ان يوفره وجود التوثيق، من تسهيلات في الرجوع اليه، سيما وان مجتمعاتنا، دأبت على "مسح" والغاء ما تم عمله مسبقاً، وظلت، تبعا الى ذلك مرغمة في البدء من الصفر عند منعطف التغييرات الكبرى التى شهدتها البلاد مراراً في السنين الاخيرة. و"علي نوري" معروف عنه حب التوثيق والامانة في تسجيل الاحداث، وامتلاكه لارشيف تصويري ومهني غني وواسع. لكن الكتاب نشر بمصاحبة صور، وودت ان يكون حجمها اكبر مما نشر، وان تكون نوعيتها احسن من ذلك. لا اعرف تحديدا طبيعة المعوقات التى قد يكون& صادفها المؤلف اثناء طبع كتابه، سيما وان مكان الطبع بعيدا عن سكناه. كما وددت ان يكون "التخطيط" حاضرا بقوة، سواء كان ذلك الحضور عبر الرسومات والتخطيطيات (التى نشرت بتواضع في الكتاب)، ام في النص الكتابي. فكثير من الصفحات تتحدث احيانا عن "اجراءات التخطيط" وليس عن "التخطيط" ذاته. ربما كان ذلك بدافع طبيعة الكتاب الذي عنونه المؤلف بكونه "خواطر ومذكرات& تخطيطية ". وهو بهذة الحالة، يدفعنا الى الاقتناع بوجة نظره انطلاقا من نوعية مرامي& وطبيعة اهداف كتابه. وهنا ، في رأيي، تكمن& مهارة المؤلف وخصوصية الكتاب!

د. خالد السلطاني معمار واكاديمي
&