حوار محمد الحمامصي/&ترجمة الشاعر سليم العبدلي: ولد الشاعر نيلس هاو (١٩٤٩ ـ ..) في شمال الدنمارك وعلى الساحل الغربي منه، مواجها للجزر البريطانية، وفي المناطق الريفية، حيث يعتاش معظم الناس هناك على الزراعة، وترعرع في هذه الأجواء التي كان لها الأثر في صياغة قيمه ومثله الحياتية، خاصة تلك التي تخص العمل والصدق فيه والجد والمثابرة في الحياة. ولكنه سرعان ما ضاق بمحدودية الريف الثقافية، وما أتم عامه السادس عشر حتى رحل، واتجه ليكتشف العالم.
نيلس هاو شاعر وكاتب قصص قصيرة. سافر إلى عدد كبير من دول العالم في أوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية. ترجمت أعماله إلى العديد من لغات العالم كالإنجليزية والإسبانية والبرتغالية والهولندية والبولندية والتركية والإيطالية، ومؤخراً إلى العربية، صدرت له خمسة دواوين شعرية وثلاث مجموعات قصصية، وقد فاز بالعديد من الجوائز، يعيش في العاصمة الدنماركية "كوبنهاجن" مع زوجته عازفة البيانو المنفردة كريستينا بيوركو
في حوارنا معه أعرب نليس هاو عن سعادته جدا لأن الشاعر سليم العبدلي قد ترجم قصيدته "مقص السيكار" كونها تعرض نشأته في الريف الدنماركي، وبعيدا عن العاصمة. وقال "في الريف نمت لدي أولى الانطباعات عن الطبيعة والعمل في الأرض ومع الحيوانات، كل ذلك كان له أثر في مستقبلي ولا يزال له معنى في حياتي، وفي ثقافة الريف التي تسودها المثابرة في العمل وجدية الدين نمت جذوري الروحية. هناك على الساحل الغربي للدنمارك لا تزال تعيش والدتي، وقد بلغت الآن التسعين من عمرها، وتصر على تلك القيم والآفاق التي عاشت طيلة حياتها عليها:
مقص سيكار كانت هدية جدي لي
في مناسبة عَماد التثبيت وأنا في سن الخامسة عشرة.
كانت الهدية ذات نوعية راقية، من الخشب الماهوني والفولاذ.
وآمال جدي فيّ كانت عالية أيضا.
جدي، كان عضوا في مجلس المحافظة، وعضوا في إدارة البنك،
ورئيسا لجمعية المستهلكين، وواحدا من أفراد الجيش الشعبي
-& رؤية سيكارا فاخرا كانت دوما تملأه بالسعادة،
في وسط القرية بنى بيتا،
وهناك في غرفة مكتبه كان يجلس، ومن شباكها المطل على الشارع،
كان يتابع ما يحدث وهو يدير أعماله ويدخن سيكاره. وبغض النظر عن
مكانة القوم كان يُحيّ الجميعَ بنفس تحية الإحترام، عارضاً عليهم
سيكاراً من تلك العلبة الخشبية، في جانب الهاتف.
كان مقص السيكار أداة لا يستغني عنها.

خيبتُ ظَنه دون شك، فلم أنل أي أهمية
وما يتعلق بالتبغ، لم يكن لدي أي طموح. ولم أصبح عضوا
في إدارة البنك
وبرأس ملئ بأحلام طائشة تركت القرية وأصبحت
واحدا من ثرثاري كوبنهاجن. الكلمات نعمة، ولكن، إلى أين تؤدي بنا؟
الحب والاحترام هما ما أخذت من العائلة.
في العادة لا يمكن الحصول عليهما.
توفى جدي قبل أن يشاهدني محققا لأي شئ في حياتي.
***
مقص السيكار لا زلت أحتفظ به، وبتمرين بسيط يمكن لي
أن أفتح به زجاجات البيرة، ذلك ما أجيد فعله.
في لحظات خاصة مع ذاتي أشعر بالعار.
فلا ينفع أن أقول له الآن: ياجدي العزيز، لقد غيروا العالم،
والتدخين لم يعد مسموحاً به، وحتى مدير البنك يقف اليوم خارج المبنى
وتحت المطر ليدخن في الخفاء كطالب مدرسة صغير سيجارته.
لا جدوى في ذلك. واعتذار ساذج كهذا ليس له أية قيمة، فما شأني
بكل هذا. فأنا من حقق فشلي.
***
جدي ينظر إلي في ريبة من مكانه في السماء، وهو
يقطع نهاية سيكاره الهافاني، ثم يبلله بشفتيه
ويشعله بولاعة الطاولة الثقيلة التي صُبَّتْ في حجر الجرانيت.
بعطفٍ يَقبرُ كلامي المشوش في سحاباتٍ كثيفةٍ من
دخانِه الفاخر. لا ينطق بشئ، ولكنني أعلم بما يدور في ذهنه، وفي داخلي
ليس لي إلا أن أعطيه الحق.

** من الطبيعي أن يسعى كل كاتب الى الوصول إلى أكبر عدد من القراء، كذلك أؤلئك الذين ينتمون إلى لغات أخرى. هنا نود أن نتعرف عن رأيك في الأدب المترجم، وهل تقصده في قراءاتك، وكيف كانت بداياتك مع الأدب الأجنبي؟.
** كشاعر تمثل القصيدة لي حالة شخصية خاصة، حوار بين الشاعر والقارئ حول الوجود وخباياه، وعندما نتحدث عن "عدد القراء" عند الشاعر، فإن ذلك يختلف تماما عن معناه عندما نتناول الرواية. كذلك فإننا على دراية تامة بأن القصيدة لا يمكن لها أن تترجم، ولكننا وفي نفس الوقت ندرك ضرورة ذلك، وهنا يكمن التناقض في الأمر وما علينا إلا العيش مع مثل هذا التناقض. لقد رجعت للتو من رحلة قصيرة إلى إيران، حيث كنت مدعوا من قبل إحدى دور النشر التي تفضلت بنشر مجموعة كاملة لي بالفارسية، وهناك إلتقيت بعدد من الشعراء الجيدين لم أكن أعرفهم من قبل. كل ذلك تم بفضل الترجمة التي هيأت لنا امكانية قراءة بعضنا وجعلتني أتأكد من أننا نشترك بهمومنا على الرغم من اننا جميعا نعاني من الوحدة اثناء الكتابة، وفيها يظن الكاتب أنه وحيدا في هذا العالم. أن الشعراء ليسوا إلا قبيلة مستقلة، ونحن فيها نمتلك مقومات فهم بعضنا البعض رغم أننا نمثل لغات مختلفة وثقافات مختلفة.
أعلم أنه بدون الترجمة لا يمكن للأدب الدنماركي إلا أن يكون فقيرا، وترجمة أعمال الكتاب غير الدنماركيين أمر مهم جدا لكي يستطيع الأدب الدنماركي الاستمرار بالحياة.

** من المعروف أنك من الشعراء الدنماركيين الذين ترجموا إلى لغات عديدة، ماذا يعني ذلك لكتاباتك؟
** أن ما أطمح له هو العثور على قارئ جيد، قارئ مستقل ومؤهل لتبني القصيدة وجعلها من ملكيته، وهنا أجد نفسي محظوظا لاتساع احتمالية العثور على مثل هذا القارئ في أعمالي المترجمة. فأنا ككاتب أوروبي أجد نفسي أسيرا للأبجدية اللاتينية، أجد قصائدي قد ترجمت وولدت من جديد بلغة أخرى، بأبجدية أخرى مثل العربية والصينية. إنها سعادة حقا، كتلك التي يجدها من يناسب عائلة جديدة، عائلة أكبر من عائلته. إنها سعادة دون أي شك، فمثل هذه العائلة تجلب لي هواء جديدا إلى الفقاعة التي أتواجد فيها في لغتي المحدودة. الكثير منا يكتشف أن العالم أكبر مما كان يظن، وأن الناس الذين ينتمون إلى ثقافات أخرى لهم أيضا أن يضيفوا إلى العالم بأفكار وفلسفات عميقة، فكلنا وفي النهاية ننتمي إلى نفس الحضارة الكونية، ولنا جميعا نفس القدر والمصير.

** لقد قرأنا بالعربية وبفرح كبير ديوانك "عندما أصبح أعمى" كذلك عدة قصائد في المجلات والصحف العربية. ماذا جلبت هذه الترجمات لك، وهل ترك نشرها وردة الفعل العربية على كتاباتك التالية أثرا؟
** في البداية، إنني سعيد أن هذه الترجمات جلبتني أنا إلى القارئ العربي وضمتني إلى الأدب العربي العريق، وأنا سعيد أيضا أن ديواني ترجم الى العربية على يد شاعر عربي، الشاعر جمال جمعة، كما هو الحال لقصائدي الاخرى، حيث قام بترجمة عدد منها الشاعر سليم العبدلي وعدد آخر الشاعر نزار سرطاوي، وأنا ممتن لهؤلاء الشعراء الذين كرسوا جزءا من وقتهم الثمين لترجمة هذه الأعمال، وأتاحوا لقصائدي أن تكون مؤهلة للظهور في صفوف الأدب العربي. وما حصدت من تجاوب القارئ العربي زادني معرفة، وعلما بالعالم الخارجي، وقد أثر بدون أي شك في كتاباتي وأعطاها مكانا أثبت مما كانت عليه سابقا.
إن العالم العربي اليوم يمر بمرحلة فريدة، مرحلة تحول، مرحلة يمكن لها أن تنهي ما رسمته لها فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى قبل مائة عام، حينما سقطت الأمبراطوريات القديمة، مثل العثمانية وأمبراطورية النمسا والمجر والأمبراطورية البلجيكية وروسيا القيصيرية. في الوقت نفسه ظهرت دول جديدة، والعالم ولليوم يعيش تبعات تلك المرحلة. أن مائة عام ليست بالوقت الطويل في عمر التاريخ، ومع ذلك نشهد اليوم سقوط ما يسمى بديمقراطيات وظهور آخر جديدة، سقوط دكتاتوريات متأصلة وظهور آخر بدلها، وكل هذه التحولات أدت والضرورة إلى ظهور قوى دينية وسياسية جديدة. ورغم أن القصيدة عموما بعيدة عن مثل هذه الأمور وليس لها أي مصلحة هنا أو هناك، يجد الشاعر نفسه جزءا من النقاش العام: أين نجد نفسنا الآن وإلى أين نحن ماضين؟.

** ماذا يعني لك العمل مع مترجم أعمالك رغم أنك لا تلم بمعرفة لغته؟
** إنني أعشق هذه العملية، وبما أنني أعتبر قصائدي جزءا من لحمي ودمي، فإنني أطمح أن تترجم محتوياتها كاملة إلى اللغات الأخرى، هناك حيث أجد لي صوتا في اللغة الجديدة. وبذا فهي عملية خلق لإطار يضم الشاعر وقصائده ويعطي له الصوت الحقيقي. ولذا فإنه من المهم جدا لدي أن أكون قريبا من المترجم، رغم أني لا انتمي الى لغته، املا ان ننجح سوية في نقل النص وايجاد الاطار اللائق به.
إنني أؤمن بأن الأدباء، ومهما طال عمرهم الأدبي، لا ينجحون بكتابة أكثر من 5ـ 10 أعمال مهمة، ولذا فإنه من الأساسي في هذه العملية أن تنبعث من جديد النواة الأصيلة في عمل الكاتب بنفس الأصالة التي جاءت بها في لغة الأم. أن القصيدة بنت اللحظة، والقصيدة تولد في كل قراءة لها، ونحن جميعا نحمل حفنة من القصائد الثمينة في قلوبنا نمضي بها طوال حياتنا، وهذا هو حلم الشاعر، أن تستطيع بعض من قصائده أن تصل إلى قلوب القراء لكي يحملونها معهم طيلة حياتهم.

** هل تنوي اصدار مجموعة جديدة بالعربية؟ أم هل لديك مشروع في هذا الصدد؟
** في الأردن يعمل الشاعر نزار سرطاوي الآن على نقل قصائد جديدة لي إلى العربية، وأطمح أن يصدرها في كتاب جديد قريبا، ربما هذا العام، حيث ستغمرني الفرحة باستمرار الوصل مع القارئ العربي.

** هل من كلمة خيرة؟
** اسمح لي أن أمد يدي من خلال هذا الحوار لأصافح القارئ العربي، في وقت تكثر فيه همومنا وما يقلقنا في الوضع الراهن للعالم، حيث تحيطنا التناقضات من كل جانب. إن الكثير من هذا الهم لا نستطيع أن نغيره، ولكن لنا أن لا ننسى أن نعيش وأن نحب وأن نضحك.
&