واصل الروائيون المناقشة والمكاشفة والبوح برؤاهم وأفكارهم في جلسات ملتقى الرواية العربية في دورته السادسة "دورة الروائي فتحي غانم" والذي ينظمه المجلس الأعلى للثقافة بمصر، حيث قدموا شهاداتهم وتجاربهم وتصوراتهم للعالم الروائي وما يحمله من أبعاد ودلالات، وقد شهدت الجلسة التي أدارتها الكاتبة إقبال بركة، شهادات وتجارب لروائيون من لبنان والسعودية ومصر والجزائر والمغرب، أكدت ثراء مفاتيح الكتابة الروائية وخصوصيتها من بلد عربي لآخر.
بداية قدمت الروائية اللبنانية بسمة الخطيب شهادة دالة تكشف خصوصية تجربتها مع الكتابة، قالت " يقال إن يدًا واحدة لا تصفِّق. الجميع يعرف هذا. ليس قولاً عن التعاون كما علمونا في المناهج المدرسية المهترئة، بل هو عن تناغم التلاقي، والاستجابة للإشارات (الواضحة او الخفيَّة) في إيقاع يملك منطقه الخاص وغير العلمي، ولا يجدي بالتالي توقُّعه، يدًا نحو الأخرى بحيث ينتج اللقاء صوتًا، هو هنا رمز للمُنجز الفني الإبداعي. فإن كنت من هواة "التصفيق" ولا تملك سوى يد واحدة، لأنَّ الثانية، التي يفترض أن الطبيعة طوَّرتها لك لتصمد في صراع البقاء ومعاركه... تلك اليد الأخرى تمسك عكازاً يمنعك من السقوط، ويبعد الحصى الكثيرة المزروعة في طريقك، ولدت لتجدها في انتظارك، وتعوِّض وهن قدميك الذي ورثته، سواء لخلل في كود جينات جنسك أو عرقك أو عقيدتك أو تركيبتك النفسية... خلل جعلك من بين الأقلِّ حظًا في العالم في تحقيق ذاتك. إن كنت بيد واحدة، لن تستطيع أن تصفِّق، ولكن يمكنك الكتابة، ستكون العملية أبطأ، وأكثر تعسُّرًا.. قلائل هم الذين يكملون (كجحافل السلاحف البحرية التي تفقس معًا وتتجه نحو الزبد الأبيض لينقلها إلى حياتها وسط أعداء شرسين، فلا يصل منها سوى قلَّة قليلة (كنت واحدة منهم، ولكن في الطريق، تحوَّلت تجربة الكتابة لأجل الشفاء وإيجاد اليد الأخرى، إلى تحدٍّ جديد، إذ تواجهت مع مأزقها الخاص، خاضت معركة هويتها، من خلالي وفوق مسرح حياتي الشخصية لا الافتراضية، صارت إحدى أزماتي، وكان عليَّ أن أختار بين تركها والعودة بأقل خسائر ممكنة، أو المتابعة والمقامرة بالكثير مما انتزعته عنوةً وبجهد مهول لنفسي... وهذه حكاية قد لا يهتمُّ كثيرون لسماعها بقدر ما يهمُّني أن أحكيها لقلَّة قليلة تجاهد للوصول إلى مركب النجاة الصغير المتهادي في الزبد الأبيض".

طقوس الكتابة
وحلق الروائي المغربي عبد العزيز الراشدي في فضاءات حالة الكتابة عنده وطقوسها، قال "في أثناء تشكُّل النص الروائي، تسكنني الفوضى فأترُك لنفسي حريتها، وحين أجلس لأعيد ترتيب الصور أفكر في بناء النص. أكتب مثل رسام في خُلوته، يضع الفرشاة على هذه اللوحة وينتقل إلى أخرى ثم أخرى. أكتب عادة أشياء كثيرة في الوقت نفسه، فصولاً كثيرة تتأرجح بين يديَّ وشخصيات كثيرة تنمو في خاطري وأمكنة عديدة أبنيها بدأب دون أن تكتمل يوما. أُطلق ما يُشبه جيشًا من الأرانب في حقل الكتابة، ثم أعيد تجميع الأساسي في الوقت المناسب. حين أعمد إلى جمعها تفرُّ بعض النصوص وتموت، بينما تتطوَّر أخرى وتنمو.. الكتابة عندي، تشبه حركة الأرانب في حقل، أُطلقها في حقل الروح الشاسعة وأراقب.. أكتب أكثر من نص في الوقت ذاته، وتنمو النصوص في اتجاهات مختلفة بوتيرة مختلفة؛ من النصوص ما ينمو، ومنها ما يموت لأن شروط الحياة لم تتوفر له، ومنها ما يظل تحت بصري لوقت طويل حتى يغدو متعبًا فأتخلص منه كيفما اتفق.. أحب أن أكتب وأنا أتحرك، أعني حين تتشكَّل الصورة الأولى للنصوص، غالبًا ما أكون ماشيًا أو في القطار أو الحافلة أو السيارة، لا يناسبني الجلوس في المقهى أو المكتب وانتظار الكلمات، الجلوس يأتي في ما بعد، بعد أن تتشكل معالم النص، أعيد تركيبه بما يتوافق ومزاجي، أشذبه وأنقِّحه كعلاقة إنسانية".
وأضاف "أكتب أحيانًا في الفراش ..غالبًا ما أكتب النصوص متفرِّقة، كلمة من هنا، وإحساس من هناك، وحين أجلس لصياغة النص أستعين بمُزق الأوراق التي تراكمت لديَّ في حالات متعددة.. لا أكتب ليلاً، ولا أحب الجو القائظ لأن طفولتي في الصحراء خلقت لدي إشباعًا، أحب الضباب الكثير والمطر اليسير، وهو جو يهيِّج حاسة الكتابة لديَّ، وقد كتبتُ صفحاتٍ كثيرة في دول ومدن يغطيها الضباب والمطر. أحب الصباحات على الخصوص، ولحظة الغروب، وأحب البحر حين يكون خاليًا من الناس خصوصًا في فصل الشتاء. قد أكتب في الضجيج، وسط المقهى إذا تشكَّل النص كما قلت سلفًا ولم يعد يحتاج سوى الصياغة النهائية، وقد أكتب في سكون الغرفة أمام حاسوبي، وقد يُتعبني الضجيج كما قد يُتعبني الصمت.. أكتب أيضًا حين أخسر شيئًا؛ حين أخسر حبيبةً أو صديقًا أو لحظةً لن تعود.. لا أكتب حين أربح شيئًا، لأنه لا شيء يحتاج وقتذاك إلى تعويض. بهذه الطريقة، يجد القارئ الذي يعرفني شخصيًا، داخل نصوصي، حيواتي التي لم أعِش، طموحاتي التي لم تتحقَّق، وأحلامي التي تسرَّبت من بين الأصابع...حين أكتب الرواية، لا أستحضر أحدًا، بل أستحضر قلقي وفرحي وفوضاي. وعندما أجلسُ لتنقيح النص وتشذيبه أستحضر "الكاسر الذي يقرؤني".

القمع والحرية والرواية
وتساءل الروائي حمدي الجزَّار ماذا يقول الروائي عن القمع والحرية في العالم العربي الآن؟ ماذا يقول عن علاقة فنه الروائي بالحرية في مجتمعه، وماذا يقول عن الرواية والحرية؟ لعله يبدأ من تعيين الزمن الذي نعيشه، ويحاول وصفه بدقة وصدق. وقال "في مصرنا العزيزة أدى القمع والفساد والاستبداد إلى الثورة، وكانت "الحرية" زهرة شعارات ثورة 25 يناير، ووردتها: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية. الثورة فتحت أحشاء المصريين وقلوبهم وعقولهم، وحدثت أعتى مواجهة بين طلب "الحرية"، وطلب "العبودية"، بين ثقافة وقانون "السمع والطاعة" وثقافة "حرية الفرد" و"الإبداع"، انفتحت المواجهة الشرسة، التي أعتقد أنها حسمت في 30 يونيو".
وقال الجزار "الحرية هي أكبر موضوعات الرواية، لأنها أحد أهم الموضوعات الوجودية الأساسية في حياة كل إنسان، الموضوعات التي تخص الإنسان وحده في كل مكان وزمان منذ وُجِدَ على هذه الأرض، فالحرية لازمة لبحث الإنسان المضني عن لغز الوجود الإنساني، وعن العدل، والحب، والصداقة، والسلام، والسعادة. ومصادرة الحريات السياسية والاجتماعية، والرقابة على الأعمال الإبداعية هي في رأيي، أفكار وسياسات حمقاء تمامًا، ومدمرة للإبداع وللمجتمع وللناس وللمستقبل. إن الفن والحرية جوهر واحد، فلا وجود للفن بلا حرية، والكاتب هو بالأساس "الحرية ذاتها"، هو الإنسان عندما يتحرر من عبودية الزمان والمكان والمجتمع والعادة والتقليد، هو الغناء الحر والعفوية والتدفق في أقصى تنوُّرها وجمالها، لهذا تجده لا يعبأ سوى بالجمال فيما يبدعه، وهذه غايته ووسيلته ورسالته بل وجوده، ولا رقيب عليه سوى رقيبه الشخصي الذي اسمه "الفني"، "الجمالي"، "الأدبي"، وهو أعظم ضمير إنساني لأنه منبع الجمال".

هوامش شخصية&
وقال الروائي منتصر القفاش "منذ سنوات بعيدة تلازمني كتابة اليوميات، في البداية كنت أكتبها بالشكل المتعارف عليه: أن أسجل ما حدث لي في يومي مع تأملات متناثرة. لكنني تدريجيًا شعرت بأهميتها عندما وجدتها دائمًا هي الملاذ الذي أستطيع أن أحاور فيه، ليس فقط الحدث اليومي، بل ما أتلمسه وأحاول أن أتعرف عليه أو أصل من خلاله إلى بداية ما.& طبيعة العلاقة بين الرواية واليوميات تشبه علاقتنا بأحلام اليقظة. في تلك الأحلام نحلم بما نشاء ونهوى ونتخيل أنفسنا كيفما نرغب. وقد يتحقق بعد ذلك جزء من تلك الأحلام لكن تبقى دائمًا أجزاء كثيرة تخايلنا وتظل حليفنا في وقت الجدب وربما تولِّد أحلامًا أخرى، ما يتحقق منها ينضم بدوره إلى تاريخنا المعلن، والباقي يظل شاهدًا على أن في الحياة الكثير مما لم يتحقق بعد.. ومن خلال كتابة اليوميات تفهمت كيف تبدو كتابة تجربة عادية مجردة من كل "الإغراءات" الفنية، تجربة تكاد تكون "ملقاة على الطريق" بالفعل، وفي الوقت نفسه أستطيع أن أتكشف أن هذه العادية هي مجرد تمويه أو ستار يخفي وراءه مستويات أخرى أكثر عمقًا".

رهاناتي الكبيرة
وفي شهادته كشف الروائي الجزائري واسيني الأعرج عن كثير من رؤاه ومنها "كانت رهاناتي الكبيرة في هذه السيرة كمشروع كتابي، واضحة، لأن المعلومات الحياتية والذاكرة بكل ثقلها، لا تكفي، فهي تحتاج إلى سند فني حقيقي يحملها ويحتويها ويخلق جسرًا بينها وبين القارئ. فقد حاولت العمل بكل جدية واحترام لذكاء القارئ، على كتابة نص لا يقطع علاقته بالأدب. فهي في النهاية سيرة أديب وليست سيرة مناضل خاض حروبًا ومعارك انتصر فيها وغيَّر مجرى التاريخ، أو شخصية اجتماعية معروفة عملت بكل جهدها على تغيير المنظومات السائدة والظالمة، أو رجل مال اشتغل في بنك معروف وهز بتجربته النظام المالي القديم والمتهالك. لهذا فالصفة الأدبية لها ما يبررها منذ البداية، وشكلت بالنسبة إليَّ انشغالاً مهمًا في الفكرة والصياغة واللغة. الهاجس الأدبي لتشييد نص سيري ليس أمرًا ثانويًا، بل هو في صلب الرهان".
وأوضح "كثيرًا ما سئلت لماذا تموت أو تُقتل بطلاتي في النهاية. لم أنتبه لهذه الحالة إلا لاحقًا، عندما توغلت عميقًا في السيرة. من أوجاع رجل، حتى أصابع لوليتا، تشذ عن القاعدة روايات محدودة منها مملكة الفراشة، كل الشخصيات النسوية تنطفئ فيها تحت ماكينة الظلم القاسية. هناك لحظة تثبت حقيقة يمكن لعلم نفس الأعماق الفردي أن يفسرها بشكل أكثر إقناعًا. لا يتعلق الأمر بالعاطفة فقط ولكن أيضًا بالأدب. هذا الموت يجد بعض تفسيراته في النهاية المأسوية التي وصلتني عن مينا، التي في اللحظة التي ظنت فيها أن الحياة عادت إلى مسالكها الطبيعية، تفاجأت بالموت الفجائعي وتراجيديا النهايات القدرية التي تليق بشخصيات الملاحم الكبيرة. لهذا كانت مساحة مينا واسعة لأنها شكلت داخلي عاطفيًا ولغويًا بقوة من حيث لا تدري، وربما أيضًا من حيث لا أدري. أتفهم الكثير من قرائي الذين احتجُّوا كثيرًا على العلاقة مع مينا، لكن هل نختار حياتنا كما نريد؟ كانت لعبة الصراحة في هذه النقطة بالذات كلية وقاسية، إما أن أرويها كما لمستها، وكما أردتها، وكما تخيلت نهاياتها التراجيدية أيضًا، أو أهملها جملةً وتفصيلاً".

في مختبري
وقال الروائي السعودي يوسف المحيميد "منذ روايتي الأولى (لغط موتى – 1996) وحتى روايتي الجديدة (غريقٌ يتسلَّى في أرجوحة – 2015) وأنا أحلم بشكل روائي مختلف، وأسعى إلى جذب القارئ بتكنيك مباغت، وإيقاعه في فخّ سردي جديد، ففي تلك الرواية الأولى، المكتوبة بضمير المتكلم، عن روائي مبتدئ يتحدث عن فشله كلما حاول أن يكتب روايته الأولى، نظرًا إلى محاصرة الشخصيات له في أثناء الكتابة، ليس الأحياء فحسب، وإنما حتى الأموات الذين يشاكسونه كلما حاول أن يكتب سيرة أحدهم؛ كنت وقعت في غواية الفكرة بحد ذاتها، ولم أستغرق طويلاً في الشكل المستخدم، فقط جعلت خيط السرد ينساب، ويزيغ أحيانًا، حتى نجحت إلى حد ما في خديعة القارئ، وقد أوهمته بأن النص بين يديه هو مجرَّد مقدمة للرواية، ولكن في العمل التالي، أدركت بأنه لا بد من الدخول في لعبة الشكل، والتقنيات الروائية الجديدة، بمغامرة أكبر، فجاءت (فخاخ الرائحة – 2003) بثلاث شخصيات مختلفة، يبدأ السرد متشظيًا، يحتفي بكل شخصية على حدة، ثم يجمعها المكان في لحظة زمنية ما، لتعود الأحداث من جديد، متنافرة في مسارات سردية مختلفة".
وأضاف "أحب أن أتعامل مع طاولة الكتابة، التي تصير أحيانًا مختبرًا، كبيت صغير أعرفه جيدًا، فكلما شعرت أن هذا البيت أصبح ورقًا، هدمته وأعدت بناءه من جديد، كي يعود بشخصياته ووقائعه إلى الحياة، صحيح أن التقنيات السردية تؤثر كثيرًا في بناء الشخصية، وصناعة الحدث، لكن تركها تشرد أحيانًا، تتشقلب، وتركض وتلهث وتتلفت، هو ما يحفز على ابتكار التقنية المناسبة.
وأوضح المحميد "معالم النص التي أؤمن بها، هي أن هناك ملايين الشذرات من الحكايات المتنافرة، لكنها قابلة لأن تروى معًا، هذا التشظي قد أجد معه طريقة ما، ليصبح نصًا متكاملاً، كلّ شيء في الحياة قابل لأن يُروى، ولكن هذا يعتمد على قدرة الروائي، ودرجة حساسيته البصرية تجاه الأشخاص والأحداث والكائنات والأشياء، والتقاطه لكل التفاصيل الصغيرة، التفاصيل الغائبة غالبًا عن أنظارنا، وهذا ما حاولت سرده في روايتي الأخيرة "غريقٌ يتسلَّى في أرجوحة".
&