مجموعة "الطاردة" التي أسّسها سيرغي بوبروف ونيكولاي أسيف وبوريس باسترناك، اُعتبرت، في نظر بعض النقّاد، تيّاراً مستقبلياً، فقط لأنّها كانت تركّز أيضا على مواضيع مدينية والسّرعة التكنولوجية، ولأنّها كانت تضمّ مساهمات لعددٍ من المستقبليين المتناحرين، وعلى سجالات مع المستقبليين، بينما، في الحقيقة، هي مركّب خليط من الرّمزية، المستقبلية والتقاليد الكلاسيكية، إلا أنّها متمرّدة على الرّمزيين الرّوس. فها هو زعيم المجموعة سيرغي بوبروف يوضّح، في مقدمته لديوان آسيف: "لا يمكن للرّمزية الكونية أنْ تنضب، لكن رمزية الأمس ها هي تنضب أمام أعيننا في الكتب الأخيرة لقادتها"! وموقف كهذا كان يعتبر آنذاك موقفاً مستقبلياً.
لم تعش هذه المجموعة أكثر من سنتين. لم يدّع أيُّ واحد من مؤسسيها المستقبلية قط، ولم يحتجوا على تسمية "المستقبلية" التي كان النقاد يُطلقها على نشاطاتهم. لكن من خلال نقدهم اللاذع لـ"مستقبلية زائفة"، يظهرون كأنّهم هم المستقبليون الحقيقيون!
كانت المجموعة تشرف اولا على دار نشر عنوانها "ليريكا" وقد صدر عنها عدة دواوين من أهمها ديوان باسترناك الأوّل "توأم في الغيوم"، ولبوبروف "بستانيون على الدوالي"، ولنيكولاي اسيف "القيثارة الليلية". وكان تأثير الفكر الألماني هو السائد بين المجموعة، باستثناء موقف بوبروف المتأثر بالفكر الفرنسي. وهناك هدف وراء تسمية مشروعهم "الطاردة": فصْل الدّسم الشعري عن كتابات بدون قيمة، فالطاردة هي آلةٌ تُسْتخدَمُ، بقُوَّةِ الطَّرْدِ المركزيّ، لفَرز الدَّسَمِ عن الحليب.
وضم الكتاب الجماعي الذي أصدروه عام 1914، تحت عنوان غريب Roukonog "العَضُديّ القدم" (حيوان لافقري يعيش في المياه الضحلة)، بياناً مكتوباً على شكل قصيدة عنوانه "الأنشودة التُربينية". وتوسّط الغلافَ بيتان شعريان وزّعا على الطريقة الطوبغرافية المستقبلية، أيّ بحروف متفاوتة الحجم:
"في قلب الرصيف الصخري ثم نغمة
قِرّي عيناً ايتها الطاردة".
واستهلوا عددهم الأوّل هذا، بنعي رحيل أحد مؤسسي مجموعة الأنوية المستقبلية إغناتييف (انظر الفصل الخاص بهذه المجموعة) معتبرين أنه هو "المستقبلي الرّوسي الأوّل وشهيد المستقبلية"، ونشروا اربع قصائد له مع مقدمة.
كما تضمّن الكتاب "ميثاقهم" المضاد لمجموعة "إهليا" بلغة عدوانية كلّها سب وشتم، وتهديد، موضحين أن أعضاء إهليا" "مدّعين زائفين... وأنّهم، كما وصفهم قائد الجيش المستقبلي مارينيتي نفسه، أثناء زيارته في موسكو، ماضويون". وقد وقّع "الميثاق" نيكولاي أسيف، سيرغي بوبروف، اليا زدانيتشيف وبوريس باسترناك.
يُعتبر سيرغي بوبروف أكثرهم تبحراً في أوقيانوس الشّعر الرُّوسي والأوروبي معاً، وبالأخص الشّعرية الفرنسية. فكان يطلق عليه "رامبو الرُّوسي"، ووعد أنْ يترجم أعمال رامبو إلى الروسية. وبما أنّه كان تلميذ الشّاعر الرمزي اندريه بيلي، فإنّه بات أكثر الشعراء الروس الجدد آنذاك تعمقاً في الأوزان والإيقاع. وقد حافظ، على عكس أستاذه، على أنْ تكون تنظيراته في مفهوم "الغنائية" وتجاربها الوزنية، خالية من كل تفسير تصوّفي ومُضمر ديني، مُقيماً نظريته على أسسٍ عِلمية، وبسبب هذا التوجّه العِلمي، أُعتبر مستقبلياً. وقد ابتكر المنهج التحليلي لاستقصاء النّص الشّعري. وجاء باكتشاف جديد ألا وهو "الفضاء الغنائي". ففي نظره، هناك "في كل لحظة معطاة، سُّلّم مؤدٍ من الشّاعر إلى القارئ يولد: فمن القصيدة تولد سلسلة سلالم مشابهة تنتشر باطّراد بين الشّاعر والقارئ، محدثةً، إنْ جاز التعبير، فضاءاً غنائياً مُعيّناً". و"الغنائية" هذه، التي يعتبرها بوبروف الجوهرَ الرُّوحي للشعر، "ليست جنساً شِعرياً كما الدراما والملحمة، وإنّما هي العنصر الأساسي للشعر، إنّها وسيلة الإبداع الأساسية ومصدرُه. إنّها الجزء الثالث إضافة إلى الشكل والمضمون. هناك انقطاع في منتصف العملية الإبداعية يسبّبه النّشاط الغنائي للنفْس، فيولّد الشعر.. وإلا سيتدهور الشِعر إلى مجرّد اشارات لمحاكاة المضمون أو الشّكل... إنَّ الشّعر الذي يفتقر إلى "النوعية الغنائية لهو شِعرٌ مرفوض". وقد أثّر هذه المفهوم كثيراً في فن باسترناك الشعري، كما سنرى ادناه.
أما نيكولاي أسيف فشعره يتميّز بموضوع المدينة السمينة ومصورة بأسلوب يحاكي قصص هوفمان. فمثلا نقرأ في قصيدة عن رجل يخرج من واجهة محل، وفي أخرى رحلة ليلية بسيارة مصورة بمبالغة بيانية مفرطة. تتخلّل شعر آسيف ثيمات تتعلق بالجنون وبأمداء كالسّماء. وقد انفصل بعد سنة عن مجموعة "الطاردة" لينخرط في نشاطات مايَكوفسكي المستقبلية، خصوصاً في مرحلة "جبهة الفن اليسارية".
على أنّ بوريس باسترناك يُعتبر هو الأكثر قرباً للمستقبلية منهم، والأذكى شعرياً، فديوانه الأوّل الذي تغافله النّقاد عند صدوره هو الأكثر أصالة من دواوين مجموعة "الطاردة".
نشر باسترناك في الانطولوجيتين الجماعيتين الأوّليتين لمجموعة "الطاردة"، مقالين سجاليين، عنوانهما "ردود فعل وايزرمان" و"الكأس السوداء"، وهما مقالان يمنحان تبرير ربط اسم باسترناك بتاريخ المستقبلية الرُوسية.
ففي مقاله "الكأس السوداء"، يقول باسترناك، بعد أنْ يتوجّه بالشكر الى كلّ الشّعراء السّابقين من رمزيين ومستقبلين، "إنّ السّرعة والاضطرار ليس بالمعنى العامي الشائع أيّ عبادة التكنولوجيا والآلات والسيارات السريعة، وليس بمعنى يجب أنْ تكون السرعة موضوع القصيدة. وإنّما بمعنى المعالجة المقتصدة للزمكان – أي اضطرار داخلي ينقله الشّاعر إلى الاشياء مهما كانت. ولا علاقة لهذا الاضطرار مع نوع آخر من التسرّع أو التصوّف. وإنّما اضطرار الفنان الذي يجد نفسه بتواتر، أنّه مكلّف بمهمة حقيقية، من قبل العصر الذي يعيش فيه".
وعلى عكس الرّمزيين الذين كانوا يضفون قيمة كبيرة على الرّموز، فإنّ مستقبلية باسترناك تعطي قيمة أكبر للذات "الغنائية". فالغنائية-الشعر، في نظر باسترناك، جاهزة الآن كمبدأ مستقل. وتدعى أيضاً "الأصالة". ويعرّف باسترناك الأصالة بأنها "متكاملة، متميزة، إنّها وظيفة التفكير الدقيق الأساسية. لها الميزة نفسها التي للموضوعية والدقة... إنّ الشّاعر الوجداني الذي تكون الأصالة هذه فعّالة في عمله، يتعامل مع الراهن بطريقة"، يسمّيها باسترناك، "انطباعية الأبدي... شاعر كهذا يدوّن الأشياء بحيوية حدوثها في الحاضر المطلق والأبدي".
كما أنّ مدينة باسترناك لم تُستمد من مصادر أدبية، وإنّما من وعي مديني درامي يضلّل اللُّغة. ووصفها برسالة الى بوبروف: "ستفهمني إذا سمّيت الواقع - ومن المفضل الواقع المديني – بالمعنى الذي كنت اتكلم عنه، أيّ منصّة غنائية. المدينة كمنصة مسرح تتنافس وتدخل في علاقة تبادلية مأساوية، مع قاعة الكلمة، اللُّغة، التي تبتلعنا".
وفي نقده لشعر تشيرشنيفيتش "الذي يكتب وعينُه على السوق"، أشار باسترناك في المقال الثاني "ردود فعل وايزرمان"، إلى "إنّ اصل استعارات تشيرشنيفيتش يكمن في حقيقة التشابه، أو احيانا، في الروابط المبنية على التشابه، وليس على المجاورة". ويعتبر باسترناك هذا خللا كبيراً في العملية الإبداعية. إذ يجب على الشّاعر أنْ ينتقل من الاستعارة السائدة التي تعتمد التشبيه أبداً والنقل فيها يطّرد على حد واحد وعلاقة واحدة أساسها التشبيه، إلى فضاء المجاز المرسل المبني على الملابسة، وحيث الارتباط بين المنقول منه والمنقول إليه، ليس مطّردا على وتيرة واحدة بل تتعدّد علاقاته. وفي نظره، "فقط في ظاهرة المجاورة (المجاز المُرسَل)، يمكننا أنْ نجد الميزات المتأصلة للقسر والدرامية الذهنية، التي يمكن تبريرها على نحو استعاري".
وفي الحقيقة إنّ ديوان باسترناك الأول: "توْأم في الغيوم" (والغريب أنّ باسترناك نفسه تجاهله فيما بعد وندم على نشر ديوان غير ناضج)، كان فاتحةً لاستخدام المجاز المُرسل كتقنية أساسية في كتابات باسترناك كلّها. ذلك أنّ "توْأم في الغيوم"، كما وضّح جان كلود لان، "يبلّغنا سلفاً بالمكوّنات الأساسية لفنه الشّعري: استعارية غزيرة، استخدام مستمر للاضمار الذي يتيّه القارئَ بغياب مفاجئ لكل تمهيد؛ استخدامِ كلمات معجمية او نادرة فقط من أجل قيمتها الصّوتية من دون مبرّرات دلالية، تشابكِ الثيمات المعقّد أو دوافع متناقضة مما يخلق وهماً واقعياً متشظّياً متصادماً ومتحركاً محجوزاً في ديناميكية العاطفة الغنائية". لقد حاول باسترناك التوليف بين محاولات المستقبليين في أَتْمَتَة automatization اللُّغة الشّعرية، ووجهة النّظر الرّمزية القائلة إنّ اللُّغة الشّعرية تمثّل جوهرَ العالم الذي يشعر به حدسياً الشّاعر.
كان رومان جاكوبسن على حق عندما شخّص كتابات باسترناك، على أنّها تنطلق من المجاز المُرسل: "إنَّ قصائد باسترناك تشكّل عالماً حيث المجاز المُرسل يدرك وجوداً مستقلا"، ويوضّح في مقالته عن باسترناك: "مهما كانت الاستعارات التي يستخدمها باسترناك ثريةً ومنقاة، فليست هي الموجّه، ولا تحدّد الثّيمة الشّعرية. إنّما الفقرات الموسومة بالمجاز المُرسل، أي ليست تلك الاستعارية، هي التي تضفي على عمله >تعبيرا خاصاً ليس عادياً<. ذلك أنّ غنائية باسترناك، في الشّعر وفي النّثر، مشبّعةٌ بمبدأ المجاز المُرسل، يسيطر عليها التداعي بالمجاورة. على عكس شعر مايكوفسكي حيث أنا الشّاعر هي التي تهيئ المُحرّك الشّعري، فإنّ أنا المتكلّم، في شعر باسترناك، تم دفعها إلى الخلف. لكن هذا مجرد اِبعاد ظاهري- فبطل (ضمير المتكلم) القصيدة الأبدي حاضر هنا أيضا. إنّها مجرّد حالة حضور على نحو مجازي مُرسل. كما في فيلم شارلي شابلن "إمرأة من باريس" حيث لا يمكننا أنْ نرى ايّ قطار، لكننا نشعر بوصوله من خلال الانعكاسات التي يلقيها على شخصيات الفيلم المتجمهرين في الرصيف. – كما لو أنّ هذا القطار شبه الشفاف، وغير المرئي، يمرُّ بين الشاشة والمشاهدين. الشيء نفسُه يحدث في شعر باسترناك، فإنّ الصور المحيطة تعمل كانعكاسات متجاورة؛ كتعبيرات عن أنا الشّاعر، لها طابع المجاز المُرسَل."
لم تدم علاقة باسترناك بمجموعة "الطاردة". إذ سرعان ما شعر بانزعاج من الصّراعات والسّجالات بحيث أنّه لم يُعد نشر هذين المقالين السجاليين إبّان حياته في أيّ كتاب طبعه. لكن كانت لديه رغبة المساهمة بشكل حر وغير التزامي بيافطات المستقبلية وبرامجها، فقرر الاشتراك في "جبهة الفن اليسارية" (انظر فصل 10)، التي أسسها مايكوفسكي عام 1923، غير أن سرعان ما رُفِضت مساهماته. إذ لم يتفق مع المنضمين في هذه "الجبهة" ومن بينهم مايكوفسكي الذين يجادلون انّه ينبغي للشعر أنْ يلتزم بالقضايا السياسية الراهنة ويساعدون على أنْ يكون "التاريخ مستعداً لليوم التالي". لا يتضمّن نقد باسترناك لهم ازدراء للتاريخ؛ وإنما يشير فقط إلى "أنّه يجب على هذين النمطين انْ يبتعد واحدهما عن الآخر. فالتاريخ والشعر قطبان متضادان، كلاهما ساري المفعول، ولن يلتقيا ابداً. هذا الذي يهتم عن حق بالتاريخ له واجب يختلف كلياً عن واجب الشّاعر. ومع هذا يمكن أنْ يُطلق على هذا أو ذاك تسمية "الرائي"، بما انهما يصعدان معا ويرون طيف التاريخ؛ طيفاً مرعباً وغير بشري بحيث تكون مهمتهما السيطرة عليه. وما إنْ يعملان هكذا، حتّى يستوليان على قطعة جديدة من التاريخ، كالظفر بقطعة أرض، ينتقل اليها الناس البسطاء ويعيشون فيها على نحو بشري... إنّ شعب التاريخ بطل وراءٍ وعملُه جد حيوي: لكن واجب الشّاعر هو أيضاً حيوي. فالنّواحي الأكثر قيمة والرقيقة في الحياة الموجودة، يحزمها في قلبه الذي على شكل كأس أسود، كما لو انّه ينقلها الى منطقة جديدة تمَّ الاستيلاء عليها – المستقبل – من أجل الجميع".
ويبيّن باسترناك، أنَّ الشّعر معاكس للتاريخ (العمل السياسي العسكري والعملي)؛ وأنّ الشّعر يتأهّب للنوعية الأزلية من اللحظة الراهنة (مهمّة تتطلّب اقصى السرعة والاقتصاد والاعتناء)؛ ويعتمد الشّعر على الصّالة المصورة كمبدأ مستقل وكقوة؛ كما أنّ الشّعر يحتاجه الجميع. ويعتقد باسترناك إنّ جمالية الفنان تكمن في هذه العناصر الثلاثة: مفهوم الفنان لطبيعة الفن؛ دور الفنان في التاريخ؛ ومسؤوليته أمام التاريخ.
ويوضّح باسترناك "ثمّة سايكولوجية للابداع، مشاكل الشّعرية. أو من الفن كلّه، فقط تكوّنه هو المعاش فورا. وفي هذا الشّأن لا حاجة إلى وضع افتراضات. إننا نكفُّ عن إدراك الواقع. إنّه يتمثل في نوع من صنف جديد. ويبدو لنا هذا الصنف كشرطه وليس شرطنا. وباستثناء هذا الشّرط، كلُّ شيء في العالم مسمّى. فقط الشّرط هو ليس مسمّى، إنّه جديد. اننا نحاول تسميته. والنتيجة هي الفن". ("جواز مرور بأمان"، 1933).
&