في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، فارًّا من التهجّمات العنيفة التي كان يتعرّض لها بسبب تعاطفه مع النازيّة، خصوصًا في بداياتها، أدّى الفيلسوف الألماني الكبير مارتن هايدغر زيارة إلى فرنسا، التي كان مفكّروها ومثقّفوها الكبار يجاهرون بإعجابهم الشديد بفلسفته الوجوديّة، غير أن صاحب "الوجود والزّمن" فضّل عدم الإلتقاء بالفلاسفة في بلاد ديكارت.

ومصحوبًا بصديقه ومترجمه إلى اللغة الفرنسيّة، جان بوفريه، اختار زيارة الشّاعر الكبير رنيه شار، الذي كان يقيم آنذاك في مسقط رأسه "ليل سور-سورغ" في جنوب فرنسا بعيدًا عن صخب باريس.

وفي القرية الصّغيرة، والهادئة، التقى الشاعر بالفيلسوف. وتحت شجرة كستناء وارفة الظّلال، حول طاولة وضع عليها الجبن والخبز الأسود، دار حوار طويل بينهما حول الشعر والفلسفة. وكما هو معلوم، كان هايدغر عاشقًا للبعض من مشاهير الشعراء الألمان من أمثال هولدرلين، وغيورغ تراكل، وشيلّر، وراينار ماريا ريلكه، وعنهم كتب دراسات في غاية العمق والأهميّة.

ومن المؤكّد أنه كان معجبًا أيضًا برنيه شار. وهذا ما يفسّر حرصه على الإلتقاء به، والتحدّث إليه. ولا شكّ في أن رنيه شار كان مطّلعًا على فلسفة هايدغر، وعارفًا بماضيه النّازي. مع ذلك لم يبد أيّ تردّد في استقباله هو الذي كان قائدًا لحركة المقاومة خلال الإحتلال الألماني لبلاده. وقد دوّن جان بوفريه وقائع ذلك الحوار العميق بين الفيلسوف والشاعر، ليكون وثيقة مهمّة وأساسيّة في ما يتّصل بالعلاقة بين الفلسفة والشعر.

وقد كتب جان بوفريه يقول: "الفكر في معناه العميق حوار. وهو يسعى إلى أن يتموْقع من خلال الحوار مع أولئك الباحثين عن موقع، والذين هم المفكّرون منذ البدء. أرسطو من هذا الجانب، وحتى الجانب الآخر هو حواره مع أفلاطون. والحوار الهيغلي (نسبة إلى هيغل) هو مسعى إلى الإنفتاح على كلّيّة الكلمة. غير أن الكلمة ليست كلمة الفكر أكثر قدمًا من كلمة المفكّر.

وفي البدء رنّت الكلمة الشّعريّة. وكلمة هوميروس التقت بالمهمّ، والأساسيّ قبل طيرقليطس. وهي مؤسّسة لفضاء عالم، هو العالم الأغريقي، حيث ولدت الفلسفة. وقبل الفلسفة، فتحت الكلمة الشّعريّة الفضاء الذي فيه واجهت الآلهة البشر، كما يقول هزيود. ويواصل جان بوفريه كلامه قائلًا: "الحوار لا يسعى أبدًا إلى الحطّ من قيمة الآخر، والتّنقيص من شأنه مثلما تفعل الفلسفة في إدّعائها بأنّها تضيف إلى مجمل إنقاصاتها، آستيتيقا تجعل الشعر في النهاية موضوعًا لتفسير الفلسفة، وإنّما هو - أي الحوار - يثابر على السّماح له بأن يكون.

لذلك يقول رنيه شار إنّ "هايدغر هو أوّل فيلسوف لم يحاول أن يفسّر من أنا، وماذا أفعل". هايدغر ينصت أكثر ممّا يفسّر. ومن هذا الإنصات الذي يلامس حدود الصّمت، تولد محاولة التّواصل من دون جواب، إذ إنّ الجواب كان قد حوّل ما يمكن التفكير فيه إلى مشكلة، أي كما يوضح ذلك لايبنيتز، إلى مقترح يترك جزءًا منه فقط للبياض... تمامًا مثلما نحن نطلب العثور على مرآة تلتقط كلّ انعكاسات أشعّة الشّمس في نقطة واحدة. والشّاعر هو بالتّأكيد تلك المرآة، لكن من دون توجّب العثور عليه. ولأنه لا يتوقّف أبدًا عن التّواري، والتّخفّي بهذه الطريقة، لذا فهو خطر على الفكر، لكنه خطر لا ينفي الخلاص".

ويرى جان بوفريه أن هناك ثلاثة مخاطر تهدّد الفكر: "الخطر المدهش والمنقذ، وهو مجاورة الِشّاعر، والإقتراب من نشيده، والخطر الماكر، والأشدّ حدّة وشراسة هو الفكر نفسه، إذ عليه أن يفكر ضدّ مقاييسه، وهو ما لا يفعله إلاّ نادرًا، والخطر الضّارّ والمفسد الذي يشوّش كلّ شيء، أي أن يتفلسف". وهنا يستشهد جان بوفريه بجملة لهايدغر فيها يقول: "الحوار مع الشّعر، إذا ما كان حوارًا ينطلق من الفكر، يكون دائمًا خطرًا يهددّ بتعكير صفاء القصيدة الشعريّة عوضًا من أن تترك لها روعة صوتها".

لذلك، يكون الحوار بين الشاعر والشاعر أقلّ خطرًا من الحوار بين الفيلسوف والشّاعر. وهذا ما تثبته حوارات شعراء من أمثال هولدرلين، ورونسار، وفيكتور هوغو، مع الشّعراء الإغريق، أو الرّومان. كما تثبته حوارات رنيه شار مع شعراء آخرين من خلال البعض من قصائده عن رامبو، وبودلير، وملاّرميه. غير أن الشعر يمكن أن يتحاور مع الفكر من دون أن يفقد جمال صوته، وصفاء كلماته. وهذا ما تعكسه قصيدة بارمينيدس المحّمّلة بالعديد من الأفكار الفلسفيّة والميتافيزيقيّة.

ويمكن للشعر، بحسب رنيه شار، أن يكون مولّدًا لأفكار فلسفيّة من خلال ما يسمّيه "التّدمير العرسيّ"، الذي مارسه رامبو بحيث لم "يعد الشعر يوقّع للفعل، بل أصبح ساًقًا له". ويضيف جان بوفريه قائلًا: "البون الشّاسع بين الشعر والفكر قد يعود إلى أن الشّعر كان موجودًا، في حين أن الفكر لم يشرع بعد في التّفكير، أو بالاحرى لم ينبثق الفكر إلاّ لكي ينحدر إلى الفلسفة، أي إلى الميتافيزيقا.

الحوار مع الشعر لا يمكن أن ينطلق إلاّ من فكر بالكاد يكون محتملًا. والشّعر يمكن أن يكون فكرًا متحرّرًا أخيرًا من الميتافيزيقا ومن آلة مفاهيمها. ولا يمكن أن تكون القصيدة معبّرة عن نفسها، وعن ماهية الشعر إلاّ مع هذا الصّنف من الفكر". ومرّة أخرى يستشهد جان بوفريه بهايدغر الذي يقول: "مصير العالم يعلن عن نفسه في أعمال الشّعراء من دون أن يكون قد ظهر وتجلّى كتاريخ للوجود".

كما يستشهد برنيه شار الذي يقول: "مع كلّ انهيار للحجج والبراهين، يجيب الشّاعر برشْقات من المستقبل". كما يقول: "الشّعر هو من بين كلّ المياه الصّافية أقلّ من يبطئ عند انعكاسات جسوره". أمّا رامبو فيقول: "الشّعر الحديث له بلاد داخليّة سياجها هو الوحيد الدّاكن. لا راية تخفق لوقت طويل فوق طوف الجليد هذا، الذي بمشيئة هواه، يهب نفسه لنا، ثمّ يستدرك. غير أنّه يرشد عيوننا إلى البرق وإلى حيله العذراء"...