لا توجد لغة تستطيع أن تدون كل ما يدور في مخيلتنا مثل لغة الشعر ، فهي القادرة على ترجمة أحاسيسنا بذات النبرة المتخيلة لدينا بتراكماتها العاطفية والوجدانية ، ويرى عزرا باوند الشاعر الأمريكي أن على المبدع أن يبقى في حركة دائمة ومستمرة وأن يتغير مع الحياة ويغير حتى أسلوبه في الكتابة وطريقه الذي يتبعه ككاتب ، ويقول : " أنت تحاول أن تترجم الحياة بطريقة لايملها الناس ، وتحاول أيضاً أن تدون ما ترى " ( 1 ) ، أما الكاتبة والناقدة الإنكليزية ديزي هلديارد فقد لخصت كل ذلك بجملة غاية في الفخامة حيث كتبت تقول :
كتابة الشعر قصف عنيف في مدلولاته وتأثيراته ( 2 ) ، هذه المقدمة كانت ضرورية للدخول في قلب نص الشاعرة العراقية سجال الركابي " إبه زوربا ... أخشى الخسران " الذي استرعى انتباهي وهي تتلوه علينا في جلسة رائقة من جلسات جمعة المتنبي في بغداد :
قبل المنعطف الاخير بوهلة
&والجهات السبعِ غشّاها خِمار
&فركتُ غشاوة قلبي
&كان الضوء يكتسح الفضاء
&اقواس المطر يداً بيد تدور
&وهو في وسطها... بعنفوان جرأة
&وجلجلة ضحكتهِ المتهورة حد الإغواء
&زوربا... ... &يُطوِّح كتفيهِ
&تُصفرُ الحياة تمرُّ في كفيه
&زوربا ... ... كيف انبثقتَ!
ونحن ننهي قراءة هذه الأبيات يحضرني قول مهم للناقد العراقي بشير حاجم أسوقه هنا لأنه يمثل الركيزة الأساسية في بناء القصيدة خاصة الحديثة منها : " هناك ثمة أهم خمس فاعليات نصية على بنية القصيدة هي الأسلوبية ، الإيقاعية ، الدلالية ، الشعرية ، اللسانية " ( 3 ) ، ولو أردنا أن نحتكم أياً من هذه الفاعليات قد احتوى عليها هذا النص لوجدناه يحتضنها جميعا وهي لعمري تطور كبير يمكن أن يحسب للشاعرة الركابي بعد تجربة شعرية طويلة تكللت بهذا الاشتغال الناجح وبهذا النص المبتكر الذي وظفت من خلاله رمزاً علق بذاكرتنا هو " زوربا " الذي سحرنا برقصته وهو يخطو بها على أنغام ميكيس ثيودوراكيس معلناً فرحه الدائم ، ولأن إيقاع القصيدة هو أحد فاعليات النص الشعري الذي ذكره ناقدنا حاجم والذي جاء بصورته التنافرية ليلبي الضرورة الشعرية كما هو حال الكثير من قصائد الشعر الحديث ، ولكون هذا النص قد وظف رمزا خلده الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس قبل أكثر من إحدى وسبعين سنة حين صدور روايته باليونانية وبعد ذلك بالإنكليزية عام 1952 ، فإننا أمام واقعة ترويها امرأة شاعرة عن حبيب غادرها منذ سنوات وبقى طيفه عالقاً في الذاكرة ، يتجسد أمامها ، لا يريد مفارقتها ، يزورها على الدوام ، يذكرها أن للألم مفازة سرعان ما تنتهي إلى جنة خضراء ، يقودها إلى فرح غامر يراقصها وكأنه زوربا معلنا فرحه أمامها ، إلى هنا يبدو الإيقاع مسيطرا على مجريات النص من خلال حركة كلماته وجمله وجرس لفظه المتواتر لتنقلنا الركابي إلى صورة أخرى مكملة لما بدأته في أول القصيدة حيث تقول :
انتظَرَكَ الظِلّ والضياء
&ازدحمَ بوار الأحلام ِ
&تفتّتَ الغناء مساقاً لنحيبهِ
&جلستُ ودرويش وخوليو
&ازدردتُ نفّايا الأعراف
&وبقايا انسان ملتصقة على عتبه الدار
&وشظايا... لم أُخفِ تذكار أثرها
&من سقف غرفة
&نومي
هنا لم تكتفي الشاعرة أن تشير لزوربا كونه الخيال الجميل التي استظلت بذكراه بل ذهبت أيضا إلى الإشارة لمحمود درويش والمغني الإسباني خوليو إغليسياس وكأنها تجمع بذات الوقت الشعر مع الموسيقى فلكل منهما إيقاعه الخاص وتأثرها بهما جاء نتيجة حتمية لإحساسها وذوقها العالي بالقراءة والاستماع &كذلك ، كما أنهما شكلا مدخلا إلى ما يشبه الأسطورة في حياتها ودائما ما تكون متهيئة للإحتفال بهما منذ أن كانت طفلة كما تقول :
قلب شفَّ مِن سحق اللامعقول
&تتسلّلُ من أكمامي طفلة
&تقفز ضاحكة
&اليكَ
&تتبعها أُخرى وأُخرى
&يتناغمن ... بميلانٍ يصفّقنَ مَعَك
&أكفّهنَّ
&الصغيرة تتأرجح عالياً
&وأنتَ تُناديني :
تجرّدي من غيوم الغموض
&اتركي سفوح القطيع
&تسلّقي شلّال الاندحار
&راقصيني وانبلاج الغدِ
&نُزهرُ
&ربيعين
&بعد فوضى
&الجفاف
ورَمَد البلادة
هكذا تأخذنا الركابي لتضعنا أمام حوارية شعرية جميلة لتعود مرة أخرى تناجي زوربا الذي أضحى خيالا جميلا لعواطفها المعلقة بذكرى حبيب أسرع بالرحيل & :
إيهِ زوربا ... انتظرتكُ
&أين كنت ؟ َ
أخشى الصاعقة
&تذرني شجرة محترقة
&صابَها مسَّ مِن فوضاكَ
&عِدني
&أن تحطّني على الأرض برقّة
&بمهارة طيار في هبوط اضطراري
&أخشى تهشّمَ رموش الحلم
&أخشى الخسران....
وأنا هاجعةٌ...
قبل إغفاءة
&المنعطف الأخير. .
وسيكون من المثير للاهتمام وضع مقارنة بين ما هو متخيل وحقيقي وضعتنا الشاعرة سجال الركابي في دائرة نصها هذا ليس فقط على المستوى الذي ذكرناه بالاعتماد على المصادر الثلاثة ، بل على ثقافتها المتوارثة وحسها المرهف وصنعتها المحكمة للعبارة الشعرية التي وجدتها وصفة متكاملة فهي تسجيل واقعي لامرأة كانت لها ذكريات وآمال عريضة كتبتها بإيماءات قريبة من الذات مليئة بالشجن .

&حاشية /
1 – كتاب " اسئلة الشعر " ترجمة أحمد الزعتري ، دار أزمنة .
2- الملحق الأدبي لصحيفة التايمز اللندنية .
3 – بشير حاجم : " بنية علائقية ؟! هذه نظريتي " .