تسنت لي فرصة زيارة محترفها في بيروت, والاطلاع على مجمل تجاربها الفنية في مجالات التخطيط والتلوين وصناعة المجسمات والتراكيب المختلفة, وعلى الرغم من التباين في اعمالها, من حيث انتخاب المواضيع وصناعة الاشكال وتوظيف المواد المختلفة, غير ان ثمة ترابط ووحدة انسجام تؤاصر بين جميع اعمالها, حتى بدت لي اعمالها وجدران وارضية مشغلها عبارة عن لوحة واحدة مؤلفة على نحو (بانورامي) وعلى درجة عالية من الاثارة البصرية.
اتصور, بان الفنانة (منى نحلة), اختارت السكن في عالم الفن, وارتضت ان تعيش غمرة تلذذها في مزاولة الرسم واللعب بالألوان والمواد المختلفة على السطوح التي تجدها مناسبة لتجسيد مشاعرها واهوائها ورغائبها, فكيف لنا الدخول في عالمها وفض افواه المعاني واستخلاص الجدوى من اعمالها؟
في البدء, لابد لنا, من الكشف عن الية اشتغالها الفني, والكيفيات التي تسمح بتحرير المواد الخام على السطح الابيض, وعندما قلت: بان الفنانة اختارت السكن في عالم الفن, انما اطلقت شفيرة تؤمن لي حق التطرق للخصائص الفنية والتقنية وكذلك الرؤيوية التي تؤسس لها, وقد يبدو ان مزاولة الفنانة للتجريب الفني المستمر, اكسب تجاربها سمة الاحتراف الفني, والفنانة حتما تعرف نتائج اعمالها الفنية مسبقا, فليس هناك مصادفة ولا وجود للعفوية, وكل الاعمال الفنية وبما تنطوي عليه من مفردات صورية ووحدات اشارية واشكال وتعبيرات وسبل اداء ومضامين فانها مشغولة وفق حسابات مسبقة, والافكار لديها تتنامى باستمرار وتواصل منطقي حتى يستحيل العمل الفني اشبه بكائن حي, اذا جاز التعبير, يولد وينمو ويترعرع ثم يتناسل ولعله يموت, هكذا اتصور الحال وانا اتابع اعمالها وفق نظرة فاحصة وناقدة.
ان المطلب الملح للتلقي البصري, يكمن في ممكنات تكثيف قيم الفن اولا وقبل كل شيئ, وحين يتسائل ( ستولنتيز جيروم) هل يمكن عد هذا من الفن؟ واذا كان كذلك, فلنا حقوق مناقشته بشكل موضوعي لانه مؤهل ولانه يستحق وضع التقدير النقدي عليه.
يرى الباحثون ونقاد الفن المعاصرون, بان اي عمل فني يتضمن ثلاثة عناصر اساسية, المواد الملموسة (المواد الخام) والشكل والتعبير, وعندما توظف الفنانة (منى نحلة), مواد مختلفة مثل الوان الاكريلك والزيت وقصاصات الورق والقماش وبعض المعاجين الكثيفة وقطع الخشب او المعادن وسوى ذلك, انما تريد الوصول الى زيادة التعبير, وبصراحة, ان كل المواد الفنية وغير الفنية التي يتم استثمارها في بنى الاعمال الفنية, لا تكون سوى وسائط منتخبة للتعبير عما يجيش في خاطر الفنانة من رؤى ومواقف واخيلة وانطباعات وافكار, وعندما تصنع الفنانة شكلا او تقوض شكلا فانها تعمل على زحزحة المعادلات البصرية ورغبة منها في محاولات كسر الرتابة وتدمير الصيغ المالوفة في التلقي البصري, والشكل في احسن تعريفاته, يمثل حاضنة مناسبة للملة شتات الافكار والتصورات والاخيلة, ناهيك عن كونه يمثل المغزى الجوهري المعبر عن الذات الفنية, لا نقول بان الشكل يمثل الاسلوب او المنهج الذي يحدد مسارات الفنانة, بل ان بين سبل المعالجات للمواد المتداخلة في بنى الاعمال وبين صوغ الاشكال او ابتكارها نوع من الترابط المتنامي في العمل الفني, لاسيما اذا اخذنا بنظر الاعتبار العنصر الثالث (التعبير) وهو الخلاصة النهائية التي يبتغي الفنان تحقيقها لكي يبلغ غايته.
لعل استخدامها للعديد من المواد الخام, سمح لها باخذ كفايتها من الحرية, وكذلك عزز رؤيتها الاختزالية للمعاني التي تقبض عليها, وربما ان اعمالها تلزم زمنا طويلا مستغرقا حتى تتم, ولقد رايت في محترفها الفني الكثير من اللوحات المؤسسة بالالوان والخطوط والمواد المختلفة, بيد انها لم تكتمل بعد, ترى ماهو السبب؟&
اعتقد بان الفنانة (منى نحلة) تندفع للرسم برغبة جامحة, ولكن حالة معينة تصد جموحها, وتؤجل انطلاقتها, وتعطل حوارها مع ذاتها ومع ذات العمل الفني, والفنانة حين تشتغل على العمل الفني, لابد لها من اجراء حوار سري مع كل المواد التي تتعاطف معها, واذ لم يتم الحوار او تنقطع سلسة التامل والافكار فان مشرع اللوحة سيؤول للمؤجلات, وفي لحظة الق اخرى ستبث الحياة في العمل ليغدو معبرا ومثيرا للاعجاب.
لقد رسمت الفنانة بشرا ووجوها واجمة ومختصرة جدا, وتعتمل بين الوانها الكالحة خطوط قوية تتدرج الوانها بحسب ما يجاورها من الوان ويهما ان تدخل عنصر التباين والتضاد لكي تعلن عن الوضوح, ومن النظرة الاولى نكتشف طابع الحزن, ليس على خصوصية الوانها المعتمة وتعبيراتها الموحشة فحسب, بل وفي تلقائية خطوطها وفي اضفائها للعناصر المكملة الاخرى التي ترافق العمل الفني وتلتحق به كاضافة جديدة مثل وضع التماثيل والكراسي وسوى ذلك, انها قلقة وتفكر في كسر المعادلة البصرية وتعمل باستمرار على ترصين التامل, ولنا ان نتسائل: هل من الضروري ان تلحق باللوحة هذه التراكيب والاضافات؟ وهل يمكن لنا عد هذا الاجراء ضربا من التحديث واعلانا عن الجراة؟&
نعم, ان اعمالها الفنية تثير الاسئلة المريبة دائما, لكن حوافز القلق وطابع شخصيتها الجريئ وخبراتها الكبيرة في مجالي انتاج الاعمال الفنية والمشاركة في المعارض والملتقيات الفنية العربية والعالمية اتاح لها وضع ميزان حسي تشتغل بموجبه ما تراه مناسبا, ولو اننا تتبعنا معطيات الفنون الحداثية وما بعدها لتاكدنا بان هذه السبل من الانجازات الفنية, سبق وان تم الاشتغال عليها وبطرائق مختلفة, ولكننا نؤكد بان الفنانة (منى نحلة) شقت طريق وصولها لوحدها وبمناى عن تاثيرات الاخرين.
ان الحوافز الاكثر اهمية, تكون في مؤهلات العمل على تخليق وحدة الانسجام الكلية التي تجمع بين كل عناصر العمل الفني الواحد فلا الافكار الانتباهية ولا التعبيرات الموسومة بالاسى ولا الاشكال التي تصنعها ولا المواد الخام التي توظفها تكفي لانجاز عمل فني ناجح ما لم يكن مسوغا بوحدة انسجام كلية, ولو اخذنا بهذا المبدا وحاولنا اجراء التطبيق على بعض اعمالها فسنجد غلبة عنصر على عنصر اخر, اذ سنرى قيم التعبير تاخذ حيزا اكثر اهمية من الاشكال وربما نجد بعض الوحدات الصورية الزخرفية المنفذة على قوالب جاهزة وتحاول تضمينها, وفرضها قسرا وهذا من وجهة نظري, ترهل وزوائد لا ضرورة لها, واعرف بان الفن لا يمكن ان يكون جيدا من خلال الوصايا او الملاحظات حتى وان كانت نقدية, لان الفن يشبه الجذوة المتقدة في داخل الفنانة, فان لم تستطع تحويل طاقتها لصناعة عمل فني فانها ستحرقها, وبذا ينبغي على الفنانة ان تعتز باجراءاتها وتعتد بدكتاتوريتها وتعلن بثقة عن ذاتها المتمردة التي لا ترغب بالمصالحة مع الاخرين بدليل رسمها للوجوه التي تخفي التعبيرات المتوحدة &لتفصح عن الاغتراب والوحدة.
وعندما تنتقي الفنانة (منى نحلة) مواضيع المراة بكل تحولاتها وحركاتها فانها وبحكم نظرتها القصدية المسبقة تحاكي مواضيع محددة تستخرجها من حيز تذكرها وكل وجه, وكل جسد, وكل حركة, لها مدلولاتها المعلوماتية المختزنة في ذاكرتها المقترنة بالزمان والمكان المحددين.
ان الفنانة (منى نحلة) وعلى الرغم من طابع الحزن الدفين في رسوماتها, بيد انها تشتغل على الفن في صومعتها بعيدا عن مؤثرات الاخرين لتعبر عن صدقها وصراحتها مع ذاتها ومع العمل الفني الذي تنجزه وعندما تلح عليها فكرة ما, فانها تتصل بنجمتها ويعتريها صداع خفيف على ام راسها ثم ثقول في سرها لقد وجدتها.
&