"انها تحب الاحتراف و تحترم من يتقن عملَهُ حتى لو كان نشالاً " انعام كجه كي ، طشاري صفحة 14

شكر و امتنان
عزيزتي وردية ، اشكرك جدا لأنك عرفتِني على انعام كجه جي. انا اعرفها منذ فترة طويلة ، لكنكِ أنتِ من أعاد تعريفي بها بالطريقة التي كان يجب ان اعرفها . هذا العرفان بالجميل لم يكن بمستطاعي تمريرَه خلسةً على ضميري دون اعترافٍ مخجل حاولت دون جدوى تجنب الافصاح عنه : انني لم اقرأ لها سابقاً ايَّ عملٍ روائي . ليس هذا فحسب ، بل أن شعوري بالتقصير تعمّقَ كلما قرأت لها اكثر. اذن ، لك يعود الفضل بأنني قرأت حتى الان : سواقي القلب ، طشاري و الحفيدة الامريكية و سأسعى لأقرأ المزيد بكل سرور.
حصلت على نسخة من هذه الروايات بفضل صديقةٍ "شاطرة" لم تتطشر مثل حالينا، انت و أنا أو حال انعام نفسها و دكتورة وردية اسكندر و عائلتها الكبيرة و كثير من ابطال روايات انعام كجه جي . فهذه الصديقة التي تحسن التنقيب بصبر لا تزال مقيمة في بغداد وقد تعرفت عليها عن طريق الفيسبوك ، نفس صاحب الفضل الذي جعلنا نحن نتعارف . و هكذا حين رجوتُ هذه الصديقةَ ، بدفع غيرِ مقصودٍ منك ، ان تجد لي روايات انعام كجه جي عثرت لي و لنفسها على الروايات الثلاث اياها. و قبل ان اكمل قراءة واحدةٍ منها ، كانت هي قد فرغت من قراءتها جميعا .اما ما حصل لي بعد قراءة الروايات هو : انني وجدت نفسي اعرف انعام كجه جي اكثر مما اعرفك. ربما في هذا نوعٌ من القسوة و لكنه الواقع .
مرت علي الكثير من الاعمال الجميلة
اود ان اشير قبل ذلك الى امرٍ ذي علاقة. لقد قررت منذ فترةٍ طويلة نسبياً أن اتوقف عن الكتابة عن الآخرين و لقد نشرتُ على صفحات الفيسبوك موضوعا تحت عنوان "صوت من لا صوت لهم". اشرت فيه الى خيبة توقعاتي فيما يخص المبدع العراقي و أضفت: لقد قررت ان اكرّس وقتا اكثر لنفسي.
خلال هذه الفترة مرت عليّ العديدُ من الروايات و الكتابات الابداعية و اللوحات الرائعة ، راودني ازاءها شعور بأنني ارتكب خيانةً بحق الواجب الاخلاقي، بأن تمر اعمالٌ جميلة و رائعة دون ذكر ، لكني بقيت على العهد الذي قطعته على نفسي و لم اكتب عن احدٍ حتى هذه اللحظة. الذي حصل هو أن الروايات الثلاث جعلتني اتنصل عن الالتزام الذي قطعته لنفسي.

روايات انعام لم تترك لي خياراً. كأنما روايتها هي ما كنت ابحث عنه. سوف اكرر العبارة هذه ايضا في سطور لاحقة، وجدت فيها صفاءً و نقاء نادرا. الوقت الاوربي المزحوم و كثرة المشاغل جعلاني احفظ الروايات على ثلاثة انواع من الأجهزة : على هاتفي النقال ، على التابلت و على حاسبتي في البيت . اقرأ احيانا اثناء تنقلي بوسائط النقل العامة و احاول ان اسجل في ذهني ملاحظاتٍ على غرار ما افعل في البيت حين اسجلها على الورق .
حدث مرةٌ اثناء القراءة في حافلة أن وصل بي الانفعال حداً اني صرخت صرخة حسبت انها مكتومة و اهتز جسدي: الله ، ماذا تفعل هنا انعام ؟! جالت في عيني دمعة ، ثم شرعت اتلفت لكي اتأكد من انني لم اكن مرصوداً من احد .
الخشية من أن يرى احدٌ دموعي هي خشية سخيفة لم اتخلص منها رغم انني انتقدتها و انّبتُ نفسي عليها مراراً. حدث هذا خصوصا حين قرأت الصفحة 173 و ما بعدها من "طشاري" حين تذهب السيدة المسيحية سهيلة تبحث عن جثمان ابنها "رعودي" الذي اختُطف وقتل و بقي مصيرُه غيرَ معروفٍ حتى تم دفنه من قبل جهات الطب العدلي كمجهول في مقبرة النجف و حين تجد الأم قبر ابنها مستدلةً عليه بصورته المثبتة على القبر ، في هذه اللحظة و فيما غطي الحفارون الذين بدءوا باستخراج الجثة المتحللة انوفهم . ماذا فعلت الأم؟
"ارتمت على التراب الناشف و صرخت و مرّغت وجهها فيه. يسحبها الكاهن و يوصيها بالصبر. تتربع جانباً و قد نشف ريقُها و دمعها و تتابع الدليل و هو ينبش القبر مع القس العجوز. يكممان انفيهما و يخرجان جثة مكفنة و متربة . يتعاونان على نقلها الى السيارة . تهب سهيلة و تحتضن ابنها ، تريد أن تشق الكفن و ترى وجهه. الرائحة تملأ المكان و هي تلثم و تصيح :
ـ افيش ريحتك طيبة حبيبي . "
لا ادري ان كنت قد قرأت هذا المقطع و لا ادري ما هو رد فعلك . لكني اتساءل كيف شعرت انعام نفسها حين صاغته؟
اعتقد ان ألمنا المزمن قد تكثف هنا بشكل نادر.
أسماء ، أماكن و ضمائر ...
عبرت انعام بأبطال رواياتها خارطةَ العراق من الموصل الى بغداد و من بغداد الى الديوانية ، وفي طريقها مرت بطوائف و أديان و عقائد بطريقة قرصت فيها آذاننا. لقد بحثت هي عن كل ما هو طيب و وجدته ، بسيطا و تلقائيا دونما اي افتعال. و حيثما حلت نجد انها أشّرت خصالاً تناسيناها محتفلين
بمهرجان الدم . لم يكن ابطالُها من ملّة واحدة او من مكان واحد : كانوا مسيحيين ، مسلمين ، ارمن ، مندائيين ، علمانيين ، كفرة . كانوا شيوعيين ، بعثيين قوميين . كانوا من الموصل و بغداد و السماوة و الديوانية . لكنها عرضت الموقف بحيادية فلم تنساق و راء ايّ انفعال و كراهية في سردها لمأساة قومها و لم تنحاز ابدا لأحد. مزواجةٌ جمعت الاحتراف و التسامي، ضمنت لها انها حفظت توازنها في زمن صعب . و رغم ذلك لم تكن هي "حياديةً"، بل منحازةً للإنسان الذي نُسي كجوهر امام هجوم الهويات اللانسانية. هي اعتبرتهم عراقيين و تأسفت لهم كبشر. هذا انضباط يفصح عمن خلفه، عن القلب الذي احب بنقاء . لم يكن ذلك ممكنا لو انها انساقت خلف مطبات السياسة ، العراقية منها على وجه الخصوص. مرت انعام على اختلاف العقائد السياسية لابطالها دون انحياز و لكنها ضمّنت سردَها عرضاً لخصائص بما يكفينا لكي نقرر ، إن شئنا، اين يكمن الخلل.
انها تكتب بقلبها ، تكتب بمحبة وقلبٍ صافٍ خالٍ من العقد و تلتقط الجوهر في الفعل الانساني و اذا ما كتبت عن افعال قبيحة مؤلمة فإنما لكي تضعها ازاء الضد، فتُظهر لنا كم هو جميل فعل الخير .
عبورها الاماكن على احوال ابطالها مر بالتوزع على خارطة الوطن دون فقدان الخيط الرابط المشترك رغم تنوع الثقافات و الاثنيات و الاصول . كانت باحثة ماهرة عن المشتركات بين الناس الطيبين.

....مقابر
في نحو العام الذي تلى الرابع عشر من تموز، و ذاكرتي لا تزال طرية، ازالت السلطات مقبرة اليهود التي تقع في بعقوبة عند الشارع المؤدي اليها من بهرز ، لم يبقَ لهؤلاء الموتي الكثير من الاقارب لينقل رفاتهم فظهرت عظام و جماجم اختلطت بالتراب الذي نُبش و سوّي و اقيم في المكان كازينو انيق . و حين قرأت "ام البروم" لبدر شاكر السياب لاحقا تذكرت الاموات الذين داستهم اقدامنا و نحن نختلف الى الكازينو فنلعب الدمينو او البليارد أو نصخب عابثين محتفلين بالحياة.
رأيت قوافلَ الأحياء ترحل عن مغانيها
و لكن لم أر الامواتَ يطردهّن حفار
من الحفر العتاق و يترع الأكفان عنها أو يغطيها
لم تمضِ سوى شهور حتى طالت يد السلطات مقبرة المسلمين العتيقة عند الامام ابي محمد و رغم أن هناك الكثير ، كما يُفترض ، من اقارب الراقدين الا ان جماجم و عظاما ظهرت و امتزجت بالتراب. و بقيت ببالي صورة صبي يحمل في يده جمجمة و يعاملها كلعبة . و على التراب الممزوج بالعظام و الجماجم البالية اقيم مستوصفٌ و بيت للطبيب المقيم. مستوصف لتصليح الاحياء يجري على قدم و ساق
على مرأى و مسمع من جماجم و عظام الراحلين الذين اُقلقت راحتهم ، و بين هؤلاء و أولئك طبقة رقيقة من الخرسانة ليس إلا.
قبور ليهود و مسلمين و مسيحيين لم يكن لها حرمة و اعتبار و تنتهك رقدتها الابدية و كأن ارض الله الواسعة لم تعد واسعةً، و كأن لا خيار آخر الا بإقلاق راحة الموتي.
تكتب انعام أن الحكومة وضعت يدها على مقبرة الكلدان قرب ساحة الطيران و المتر المربع يساوي ما يساوي " كانت الحجة الرسمية أن الشروط الصحية لا تسمح بوجود مقبرة تلوث البيئة في قلب بغداد" و اذاع الراديو نداء للأهالي لكي يذهبوا و ينبشوا قبور أهاليهم و ينقلوها الى خان بني سعد و هناك خصصت الحكومة مقبرة لكل طائفة. حكومات تضحك دائما على شعوبها. هنا في برلين ، المكان الذي اكتب فيه هذه السطور توجد مقابر عديدة في قلب المدينة و بأعداد كبيرة حتى ان الكثير من الشوارع قد سُمّي على اسماء المقابر.
من منا اتعظ ؟ طالت يد السلطة يهوداً ، مسلمين ، مسيحيين و طبعا طوائف اخرى ما ان تراءت لها المصالح الضيقة التي زينها الطمع و قصر النظر و الافتقار للاخلاق. كم مِن الامثال نحتاج لكي نعرف ان من يحتقر كرامة مواطن عراقي من هذا الدين او ذاك ، من تلك الطائفة أو تلك، لن يردعه شيءٌ من ان يشمل بها الكل بدون استثناء. هكذا تبعثر الموتي كما تبعثر الاحياء. و من عاش و لم يمت في العراق مات في الغربة ودفن هناك .
سُليمان الذي عمل كمحامٍ للكنسية فشل في استصدار قرار من المحكمة بإيقاف ازالة المقبرة في ساحة الطيران، لكن اسكندر الحفيد حل المشكلة بطريقة اخرى ، اقام مقبرةً الكترونية لكل افراد العائلة ممن تفرقت بهم السبل على اصقاع الارض و جمعهم في مكان واحد، في " مقبرة افتراضية".
سنحتاج كشعب مشرد الى الكثير من المقابر الافتراضية لكي تلم شملنا.

لغة و معاجم
يرد ذكرُ المعجم او "المنجد" على وجه التحديد لدى انعام في ثلاث مناسبات على الاقل ، في "سواقي القلوب"و "طشاري" ثم اثناء لقاء تلفزيوني معها. توجد اشياء لها دلالاتٌ ليست بعابرةٍ ، فسُليمان (والد الراوية و الاخ الاكبر لوردية اسكندر و خال هندة ابنة وردية المقيمة في كندا) عارفٌ مدقق باللغة العربية و يوصي بها: تكتب انعام في الصفحة 63 عن سُليمان إنه "عشق اللغة منذ يفاعته. كان يرى في امتلاكه لناصيتها تأكيداً لانتمائه، و هو السرياني، الى الهوية الوطنية". و كما شاء هو ، اصرت هي
دائما على كتابة الضمة على السين لكي تمنعنا من أن نلفظ الاسم على خلاف ما رغب و على نحوِ ما صحح لمن لفضوه مخالفا.
هي تتذوق اللغة و تستطعم مذاقها. تطربها الكلمة كنغمة و الجملة كمعزوفة. الايقاع المسترسل ينظم جميع الروايات في نسيج واحد. "كم كنت احب التمهل في المطالعة و تذوّق وقع الكلمات" الحفيدة الامريكية.

الهوية الوطنية ، همّ سليمان!
لو ان سُليمان و امثالُه رسموا مصائر العراق لما و صلنا الى هذا التشظي الدموي. كان ادراكُه لجوهر الامر واضحاٌ بشكل مبكر. بحث سُليمان عما هو مشتركٌ، جامعٌ و موحِّد، لانه شاء ان لا يضيع الوطن و يتطشر ابناؤه و احفاده.
السعي المحموم لتسفيه ثقافتنا يغفل حقيقة ان الثقافة ليست انتماء اثنيا و أن الثقافة هي ظاهرة متعددة الوجوه مما يلقي علينا أن نشتغل عليها لتأكيد ما هو اصيلٌ فيها و انساني و بالتالي مشترك . ففي كل مكانٍ حلت فيه وردية المسيحية الموصلية النازحة الى بغداد و العاملة المقيمة في الديوانية ، توفرت امكانية لاستعراض الثراء الجميل لأوجه الثقافة العراقية و اعادة تأويل الموروث و كيف ان اوجه الثقافة هذه ليست بطبيعتها ميالة الى التصادم بل العكس الى التكامل . لكن الحماقات كانت اكبر من حكمة سُليمان. بدأنا بالخطوة الاولى فأُريق الدم الاول لكي يُراقَ بعده الثاني و الثالث و الرابع حتى صرنا "طشاري" بين ميت و مهجر.
اثناء الهجوم عليها في الحرب العالمية الثانية قال هتلر عن روسيا انها "عملاق سيقانه من خزف". تعبيرٌ شاعري عن حماقةٍ أودت به. لست بصدد ملاحقة الدلالة السياسية للعبارة ، انما لهذا : اذا ما شئتُ ان استعير الصورة التي رسمها هتلر، اجد ان الهوية الثقافية تحملها ساقان هما اللغة ، فلا هوية بلا لغة. على أن العربية لأسباب كامنة في خصائصها لم تكن من خزف كما شاء لها البعض في مطلع العهد الجديد. المهاجمون ، الخصوم الالداء لسُليمان ، يصقلون لغتهم و يحسّنون فيها لكي يهاجموها و ينتقصوا منها. يستخدمونها هي على احسن ما يكون ضدها. و كما حصل في الحقبة التي اعقبت سُليمان كان هناك دأبٌ غريب على تحطيم الذات.
كتبت هندة لامها : "قد تقولين أن الغربة علمتني تنميق الكلام... فهل تنسين انك كنت حريصة على أن لا تقل علاماتي في اللغة العربية عنها في العلوم و الانكليزية؟ جئت لي بذلك المدرس الخصوصي ... كنت تشفقين عليّ من تشدده ... (كان) يُقسم أن يجعلني بنت مالك في النحو ... كنت تتباهين بي امام خالي سُليمان و تطلبين منه ان يمتحنني في الإعراب" ص 55 ـ 56 من "طشاري".
و في الحفيدة الامريكية أجد ان انعام تعبر عن نفسها حين تكتب على لسان زينة : " أمرٌ واحد كنت واثقة منه هو ان عربيتي لا تشوبها شائبة... (أبي) لم يكن يشتري لي الالعاب التي تناسب عمري لأن "المطاردة الشعرية" كانت لعبتي المفضلة معه " ص 20
الاهتمام باللغة العربية مبثوث كحدث سردي في كتاباتها و لكنه ايضا كأداة، كفن و طريقة تعبير رفيعة.
لغة انعام تتجلي في ثلاثة عناصر : البساطة ، الصدق و التلقائية. هل يترتب عليّ ان اختزل فأحذف "بساطتها" و ابقي على "صدقها" ؟ اجد أن الصدق يقود الى البساطة ، لأن الصدق نفسه بسيط. طورت انعام لغتها عبر ترجمة مشاعر نبيلة. بحثت دائما عن المفردات الاسهل و دمجتها في تركيبات سامية استجابةً لرفعة مشاعرها و افكارها. الفرادة في انها قد تعلمت الكثير و كان قسم من الذي تعلمته قد جاء عبر المعاجم التي احبتها ، لكن دون ان تترك لأحدٍ أن يملي عليها اسلوبه أو ان يؤثر عليها بشكل طاغٍ . لقد نهلت من منابع الذات الصافية التي لا مواربة فيها و لا تستر .
ما أن يكون المرء مواربا حتى تتسلل المواربة و المخاتلة الى لغته و انتقاءه للاحداث، و لسوف تنتقل الينا هذه الامور من خلال القراءة ، سوف نشعر ان بيننا و بين الكاتب حاجزاً و أن ابطاله غرباء عنا، ليسوا منا انما تم تصنيعهم من حروف و كلمات و ليس من دمٍ و لحم.
ربما يكون كل شيء قد رُتب عند بعض الكتاب على ما يرام و لا تشوبه شائبة بالمعنى التكنيكي المحض، و لكن الافتقار الى الصدق سوف يجعل الأمر يبدو مرتباً على غرار مؤامرة. في دخيلة نفسها انعام كما هو الامر مع بطلاتها و ابطالها هناك نقاء نادر . و اصحاب النقاء ليس لديهم ما يخفونه حتى عن انفسهم . سيساعد هذا النقاء كثيرا في مجال الابداع ، و لكن للاسف نادرا ما ساعدنا في حياتنا اليومية.
و هكذا وجدت انعام نفسها انها انتقت ما تحتاجه دون أن تسمح لافتعالٍ ما أن يُعكّر صفاء ما تشعر. هي لا تفتعل اللغة و بعيدة كل البعد عن التصنع و الاقحام غير الضروري. رغم اهتمامها بالمعاجم فإن المعاجم لم تلعب دورا سلبيا في اسلوبها كما حدث و وجدت الأمر لدى كاتب تابعت كتابته . كانت لغته "مفرطة" في صوابها و لكن ايضا في اصوليتها. توجد لا شك "اصولية لغوية" . اللغة حية تتغير كل يوم و المعاجم جامدة قاسية. ما يؤشر ان لغة انعام قد استمدت ، حين الضرورة، بعض موادها الاولية من المعاجم دون ان تترك لها ان تسطو على اسلوبها. فالأسلوب هو المشاعر و هو نمط التفكير و يجب ان يكون اسلوب ما اكتب لي وحدي ، خاصا بي ، متدفقا من شخصيتي و موائما لمشاعري.
تميز الانتقال بين الفقرات و المواضيع بالسلاسة أو "بالتسليم و التسلم"، أي ما يشبه ما اصطلح عليه "حسن التخلص" في الشعر العربي و الذي اشار اليه في مواقع عدة البرقوقي في شرحه لديوان المتنبي.
و حسن التخلص هو الانتقال السلس الذي لا يتم عن طريق انكسارٍ او فجوة بين حدثين انما دخول الشاعر على غرض جديد في شعره بالتمهيد له بما سبقه . تكتب:
"كأن موظفي الداخلية يتسلون بألقابنا و سلالاتنا. يتعمدون أن يخطئوا في كتابة اسمائنا و اسماء آبائنا و اجدادنا، نكاية بحامل الجواز العازم على الهرب من البلد المنكوب."
ثم تستمر في الفقرة التي تليها كما يلي:
"و "المنكوب" كنية لمغنٍ ريفيٍ يتفنن في اطلاق مواويل اللوعة الآهات...... "
و في الصفحة 132 من "الحفيدة الامريكية " تكتب : أمي " تشيح بوجهها عني و تواصل الغناء مع الكاسيت "كلمن يسوقه حليبه .... كلمن يرده حليبه".
ثم تنتقل الى الغرض و تكتب :
"لم يردّني حليبي الى بغداد"
فهي امريكية من اصول عراقية تتطوع كمجندة في الجيش الامريكي الذي تمتنع ان تعتبره جيش احتلال، ربما حتى السطور الاخيرة. و "حليُبه يردّه" عند العراقيين تعني أن اصله و تربيته تمنعانه من فعلةِ سوءٍ. و حين يكون الانسان ذا تربية جيدة يقول العراقيون عنه "حليبُه طاهر".

الصور
الصور المتتابعة التي رسمتها انعام بالكلمات كان في بعضٍ منها مزاوجة بين صورة و شعر . ففي طشاري تصف سكنا ضيقا : "الاستوديو الذي كانوا يعيشون فيه نهاراً بشكل عمودي و ليلاً بشكل افقي". و نقرأ ايضا:
"حل الخريف بكل غواياته اللونية و اختفت الأرصفة تحت اوراق الشجر. و تواطأ كناسو الشوارع مع تجليات الطبيعة فتركوا ذلك البساط الملون يغطي ارضية باريس كأنّ الواحد منهم فنان انطباعي بالفطرة" سواقي القلوب ص 93

كلمة عن الحفيدة الامريكية
عالمٌ قائم بذاته. رغم ان هناك مشتركاتٍ كثيرةً مع "طشاري" و "سواقي القلوب" لكن هذه الرواية تميزت بموضوعها الذي هو مفارقة بحد ذاته كما ان هيكلها ، الذي هو جوهر كل رواية ، متينٌ . فزينة التي تروي هي مهاجرة عراقية الى الولايات المتحدة تعمل في الجيش الامريكي كمترجمة لتذهب الى
بلادها الاصلية كجندي احتلال. لكنها طبعا لا تعترف، على الاقل في البداية، بهذه الحقيقة انما تسوق لنفسها قبل غيرها حججاً في ان قوات الولايات المتحدة هناك إنما هي قواتُ تحريرٍ جاءت لتخليص البلد من ديكتاتور دموي و لإقامة "الديمقراطية" . لكن الامور لم تجرِ كما تهوى ، فالجذور التي تحاول زينة التنكر لها تسمم حياتها و تقتحم عالمها. فهي مزدوجة الشخصية ، الأولى ، زينة الجندية في وحدة من وحدات الجيش الامريكي الموجودة في العراق و التي "تزيّن" لنفسها فعلتها ، و الثانية زينة المؤلفة التي تدخل على حياة زينة الجندية و تزعجها و ترى فيها ببساطة مجندة في جيشٍ، ليس محتلا فحسب، انما هو جيش محتلٌ لبلادها و ليس بلاداً أخرى ، حيث مسقط رأسها و حيث تربى كل افراد العائلة منذ القدم العريق. و رغم ان زينة المؤلفة كانت قليلة الحضور و لكن حضورها كان محرجا و حاسما ، اذ تضع بين الفينة و الاخرى امام زينة الجندية حقائق تنافي قناعتها كجندية امريكية و تؤكد لها فيها بأنها لم تقم بالعمل الصحيح و تذكرها بوقائع التاريخ و مصائر المحتلين. تحاول زينة الجندية ان تطرد زينة الاخرى من حياتها . تقول : " تريد هذه الكاتبة الغريبة أن تغتالني لكي تنال إعجاب النقاد الحمقى و سياسيي التلفزيونات و وطنيي زمن العصملي" ص 34.
و حين تحاول الجندية زينة ان تمارس عملها على الكومبيوتر فإن زينة المؤلفة تزاحمها عليه و تجلس لصقها " كأننا ثنائي يعزف مرغماً على بيانو واحد".
كان هذا المونولوج الذي يظهر علينا بين الفينة و الاخرى من الذرى في الرواية.
لم تكن اشكالية زينة الجندية يكمن في صراعها مع ذاتها ، مع زينة الكاتبة ، بل أيضا، و ربما قبل هذا، مع جدتها الوطنية الرافضة للاحتلال و التي رغم حبها الكبير لحفيدتها زينة تشعر بالخزي من عمل حفيدتها مع جنود الاحتلال.ان الجينات التي توارثتها العائلة ذات التقاليد العريقة في الوطنية و في رفض الاحتلال تحاول أن تفرض نفسها على زينة الجندية من خلال زينة الكاتبة.
و حين تستطيع زينة اخيرا من زيارة جدتها التي لا تزال مقيمة في العراق ببزتها العسكرية و بمرافقة جنود الاحتلال تُخرج الجدة البزة العسكرية العائدة لجد زينة حين خدم قبل رحيله كعقيد عراقي و تبدأ بتلميع نجومها. تقول زينة " تلتقط جدتي الخرقة ... و تفرك النجوم بكثير من الحنان".
تقول الجدة :
ـ هل نسيت يا زينة ؟ اليوم ستة كانون الثاني ... عيد الجيش (العراقي).

ذكريات
في ثنايا الرواية اماكن جميلة احببناها و بقيت عالقة في اعز الزوايا من ذاكرتنا. " نادي الفقير" ، " نادي المشرق " و كيف أن "فراكهم بجاني".
نادي الفقير الذي عرفته كان في شارع فرعي قريبٍ من مستشفى فيضي في السبعينات . في السبعينات سكنت مع عائلة مسيحية في شارع اصفر و كانت العائلة جزءا من عائلة أكبر. احتشدت بيوتهم في شارع اصفر او قريبا منه. و في المناسبات اصطحبوني معهم و الى نادي الفقير كفردٍ من افراد العائلة. كان نادي الفقير ينظم و يجهز كل شيء لإقامة مناسبات منها الافراح و الاعراس . كان كل شيء هناك جميلا حقا. و رقص الشبان و الشابات رقصة الشيخاني الرائعة و تعلقت اعين الصبايا بالشاب الذي ارتفعت و هبطت خصلات شعره الاشقر على ايقاع الرقص و الموسيقى. تقول لي حنّه : " انظر كم هو جميل !! ".
كان جميلا حقا و لكني كنت ارى الجميع جميلين.
أخيرا: كم عمل درامي و فيلم يمكن ان يخرج من تحت عباءة هذه الروايات الثلاث؟ أجد انني حين قرأتها ، كان الامر معي كما كنت مع روايات ارثر هيلي ، ازاء تتابع صوري مشوّق ، ازاء فلم .
شكرا لك مرة اخرى
ملاحظة : وردية شماس هي نفسها انعام كجه جي ، هذا ما اكتشفته متأخرا.

برلين 10.10.18