كان فخري كريم وسعدي يوسف صديقين لسنوات طوال، إلى أن تخلى يوسف عن هذه الصداقة، مهاجمًا كريم وأصدقاء آخرين، واتهمهم بالعمالة لأجهزة المخابرات، متغنيًا بالدواعش في قصائد عدة. لم يجد فخري كريم بدًا من الرد والإيضاح، منتظرًا عودة الصديق الضال.

فخري كريم

"كان صديقي سعدي يوسف نقطة ضعفي في الوسط الثقافي الحزبي والديمقراطي مثل آخرين اجتهدت في الاهتمام بهم واختيارهم لاعتباراتٍ ثقافية وسياسية. وكانت تلك مثلبة عليَّ من بين الأسباب في الاستهدافات التي نالت مني، طوال سنوات نشاطي السياسي، الحزبي والإعلامي والثقافي". هكذا يصف الصحافي والكاتب العراقي فخري كريم، صاحب مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون، علاقته بالشاعر والكاتب العراقي سعدي يوسف.&

تعود العلاقة بين الرجلين إلى النصف الثاني من ستينيات القرن الفائت، وبشكل خاص في بداية السبعينيات، مرورًا بسنوات عمل يوسف في القسم الثقافي لـ"طريق الشعب"، وبعد الهجرة إلى الخارج.

لم يتردّد كريم، كما يقول، بالاستجابة لكل طلبات صديقه، "بما في ذلك إيواؤه ورعايته وإحاطته بمناخ يكفل له نشاطه الإبداعي، محتفيًا به قامةً إبداعية، وشخصية ديمقراطية، بغض النظر عما كان يعتقده البعض من سجايا، من تعالٍ وذميمة واستهدافٍ لأصدقائه المقربين، وأكاد أجزم أنني طوال سنوات رفقته لم أتعرض له بسوء أو أتناول سيرته أو أردّ على شتائمه واتهاماته حتى كتابة هذه السطور".

من تحت الرماد

يقول كريم إن العراق أُمتُحِن على امتداد التاريخ بطاقة شعبه ومبدعيه في الصبر على المكاره والويلات، وقدرته على الانبثاق في كل مرّة من تحت&الرماد، ليؤكد إنه يستعصي على الرضوخ لكسر إرادته وإطفاء جذوة تطلعه إلى النهوض في مواجهة كل تحدٍ وعسفٍ وإقصاءٍ.&

لم يغب المثقفون العراقيون في مراحل النكوص والعسف، إذ بلغت تحدياتهم حد التضحية بالنفس بوسائل تفوق أحيانًا طاقة الإنسان على &تحملها، لكنها استعصت على تطويعهم. إثر انقلابه الدموي الأول في ٨ فبراير 1963، كانت رموز الحركة الثقافية والإبداعية في كل ميادينه هدفًا مباشرًا للتصفية الجسدية والسياسية لإفراغ المجتمع العراقي من نخبه. وكان يوسف بين من استهدفهم الانقلابيون، لكنه ظل يرمم مكامن ضعفه الإنساني في مواجهة التعذيب ويستعيد عافيته الإبداعية، ليؤكدأن التعذيب قد ينال من جسد الإنسان، لكنه يعجز عن انتزاع روحه ويكسر إرادة الحياة والخلق منه.&

يروي كريم أن يوسف نهض من كبوة ضعفه الإنساني مستعيدًا ما حاول المعذِبون انتزاعه من عافية الحياة والخلق وهو في منفاه الأول الذي انتقل اليه بعد إطلاق سراحه من معتقلات البعث، ثم في سنوات انضمامه من جديد إلى الحركة الثقافية بعد عودته إلى البلاد في مرحلة الوهم السياسي الذي طال الحزب والقوى الوطنية، وانضمامه إلى أسرة تحرير جريدة الحزب "طريق الشعب"، وأبدع قصائد ودواوين تؤكد ريادته الشعرية. لكنه لم يجد سوى الرحيل خيارًا لتجنب الانكسار ثانية، مهاجرًا إلى مناف قسرية، مواصلًا عطاءه الثقافي والإبداعي، مساهمًا بقلمه وقصائده في معارضة النظام والنضال في إنهاء سطوته.&

ربما تأثر

يظن فخري إن يوسف ربما تأثر "بما تأثرنا به من سقوط مسلمات وتغيّر خيارات وانهيار الدولة العراقية، وتفكك أجهزتها ومؤسساتها، وإن بترابط ٍبنيوي مع اختزالها وتجسيدها في سلطة الفرد الطاغية والعائلة المتسلطة، حتى قبل إسقاط النظام وتسيّد خيار الحرب وما أعقب ذلك من فرض الاحتلال الأميركي على العراقيين دون إرادتهم، بل على الرغم من معارضة أغلبية الأحزاب والقوى والشخصيات التي كانت في أساس العملية السياسية التي أسقطت نظام البعث، لاعتبارات وأهداف مختلفة".

ظل يوسف حتى لحظة غيبته الشعرية وتحوله السياسي المفاجئ محط اهتمام الوسط الثقافي - وحتى السياسي الشيوعي والديمقراطي -وتقديره، ولم يبدر من أي مثقف ما يسيء له.

يروي كريم: "كان بيتي مقامًا له، ومكتبي مكتبًا له. وأينما كان يحل في بلدان الشتات، لنزوة أو لحظة إنزعاج، كنت أسارع للسفر إليه وزيارته ومحاولة تأمين ما كان يرغب. وحال تبرّمه من مكان إقامته، وهي كثيرة، كان يتصل بي تلفونيًا أو يبعث لي بضعة سطور، معبرًا فيها عن الرغبة في القدوم إلى حيث أكون، وما أن يصل حتى يجد شقته ومستلزمات&عيشته كما ينتظر ويريد، وحده أو برفقة زوجته ومن يكون بصحبته. ولم يتخلف أحد من مثقفينا عن رعايته واحتضانه، وحتى تحمّل نزواته وتبّرمه".

شتم وتجريح

يسأل كريم: "ما الذي غيّر شاعرنا؟ وأي تفسير مقنع يبرّر ما وصل إليه،سياسيًا، بل وشعريًا، فصار كمن تلبّس شخصية أخرى، أو شال عنسويته قناعًا كان يخفي حقيقته التي لم ندركها. ولم تؤخذ عليه كما اليوم مواقف وتسلّكاتٍ كان التمعّن فيها قد يؤكد أن التغير الجذري الذي صار إليه مسلكه وتحوّله لم يكن مباغتًا كليًا؟"

بات التساؤل - بحسب كريم - ينمو بين أقرب أصدقائه ورفاقه وزملائه حول ما آل إليه من تحوّل فاق كل تصور. يقول: "بقدر تعلق الأمر بي،فإن لحظة استدارته نحو الضد مما كانت عليه علاقتنا الممتدة منذ النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي بشكل خاص اختصرتها رسالة من سطر واحد: فخري، هل أُشتم في جريدتي؟ ولم أجد ما أرد به عليه، لأن "المدى" كانت قد نشرت في العمود الأسبوعي للراحل فوزي كريم ردّه على يوسف الذي تعرض له بما لا يليق بحوار ثقافي، ولم أجد فيه مسًّا أو تعريضًا أو سبابًا وتجريحًا. كنت أعتقد انه عتاب في صيغة تساؤل بلاغي من شاعر صديق، يبدو فيه رافضًا أي جدلٍ معه أو جرأةٍ على مناقشته والرد عليه. لكن تبيّن ما لم يكن يخطر ليّ على بال، إذ لم يعُد ليوسف من شاغل سوى الإمعان في شتمي والنيل مني حد التجريح والمس بعرضي وعائلتي وتاريخي في قصائد أو كتابات يتفنن فيها بتوظيف المفردات الشتائمية التي لا تليق بشاعر بوزنه وقامته". وكان يوسف رئيسًا لتحرير "المدى".

الشيوعي الأخير!

تبين لفخري، كما يقول، أن يوسف، أو الشيوعي الأخير كما يحلو له أن يطلق على نفسه، ربما من دون وعي منه، انتقل إلى أقصى التعصب والتطرّف الطائفي، "أذ لم يتورع عن اعتبار كل شيعة العراق عجمًا، والعراقيين كاولية، والكرد قرودا. ونشر قصيدة اعتبر فيها داعش منقذ العراقيين، والإرهابي الأفّاق أبو بكر البغدادي محرر العراق!".

يسأل فخري: "إذا كان يرى في كل هذا مواقف سياسية يحق له أنيدلي بآرائه فيها، فما الذي فعله هادي العلوي وكامل شياع وفائق بطي وفوزي كريم، وهم في رقدتهم الأبدية، ليكرس لهم شتائمه وينال منهم بلا تورع أو تحفظٍ يليق بمثقفٍ مبدع؟ وأي ضغينة تدفعه لينال من فناننا فيصل لعيبي الذي كان يعتبره ظاهرة تشكيلية عراقية تؤكد حضورها خارج حدود وطنه سوى كونه رسامًا فطريًا وفراشًا في سفارة اليمن الديمقراطية بباريس؟ وما الذي يستفز الشاعر سعدي يوسف ليمعن في التعريض بكل المثقفين والمبدعين، من زملاء ورفاق وأصدقاء الأمس، مثل عبدالكريم كاصد وفالح عبد الجبار وزهير الجزائري وعواد ناصر وهاشم شفيق وشاكر لعيبي وفاضل السلطاني والفريد سمعان ونبيل ياسين وفاضل ثامر وياسين النصير ومفيد الجزائري وحميد مجيد موسى ورائدفهمي وعبد الوهاب البياتي وعريان السيد خلف وسعاد الجزائري وغيرهم؟"

عميل لكل مخابرات العالم

يقول كريم إن يوسف لم يترك مثقفًا عراقيًا في بلدان اللجوء من دون أن يتّهمه بالجاسوسية، "مع أنه الوحيد الذي اختزل فترة لجوئه ليصبح مواطنًا بريطانيًا كامل الحقوق، ولينظم قصيدة يفخر فيها بتوني بلير، ويعتبر أن جنسيته الجديدة منحته الحرية والجرأة ليقول ما لم يستطع قوله قبل ذلك".

يضيف كريم أنه ليس في وارد استعراض ما استهدفه به من تهم بالعمالة للاستخبارات الأميركية والروسية والألمانية والسورية والعراقية،" وليتجنب نسيان جهاز مخابراتي تجندت فيه، اختزلها إلى عمالتي لك لمخابرات العالم، في آخر مقال له عن دوري في إجهاض جبهة ثقافية ديمقراطية، وقبلها باعتباري مسؤولًا مباشرةً عن انقلاب عام 1986 في عدن، وتشريد مئات الآلاف من مواطني جمهورية اليمن الديمقراطية، بأمر من دوائر الجاسوسية الروسية وبالتعاون مع أجهزة سوريّة. وفي احتفائه بتحرير الموصل من عصابات داعش، لم يجد ما يقوله سوى العبارات الآتية، وسأتصرف بحذف الكلمات النابية منها: مرتزقة الحشد وصبيانه أحرقوا، بقيادة عار السواعد [المقصود عبد الوهاب الساعدي]وبالتعاون مع الطيران البريطاني والكندي، الموصل".

يختم كريم قائلًا: "من وجهة نظري، يظل سعدي يوسف الشاعر الذي تغنّى بمآثر شعبنا وحزبه، وأظل أتطلع إلى أن يعود من اغترابه الموحش، وينهض من جديد!".