يكتب الشاعر محمد تركي النصّار قصيدة مختلفة بمغامرتها اللغويّة التي تسعى أن تكون في مساحة غير محدودة من الخيال الناسج للصورة الشعريّة الصعبة المختلفة الفنطازيّة أحياناً وليست الأليفة المحسوسة ، فالكتابة عند الشاعر تبدأ من لحظة غريبة وغير متوقعة لا يمنح فيها أي دلالة أو اِيحاء لتفكيك قصيدته التي يشحنها بعوالم تبدو وكأنها عصيّة على الفهم لا تبحث عن معنى واضح يصل إليه القارئ ببساطة القراءة الأوليّة العاديّة , بل الأمر مختلف فالمعنى لا يأتي بعفويّة القول التي تكون في أغلب الأحيان في مفتتح القصيدة بل اِستنتاجاً لاحقاً يتأتى من القراءة المتأنيّة الثانيّة والثالثة للقصيدة مجتمعةً كمنظومة من الصور والمعاني والدلالات حيث تتعدّد موضوعات القصائد بين الراهن الواقعي والمعرفي غير الراهن ومستوياتها اللغوية وقاموسها غير المحدود من الكلمات التي يحرص الشاعر أن يستخدمها دون تردّد منشغلاً ببناء قصيدة تغلّف لغتها قشرة خارجيّة حينما تنزعها تظهر لك قشرة لغة أخرى لحين بلوغ لحظة اِكتمالها وهي اللحظة التي تشبه الخيط غير المرئي أو المحسوس الذي يشد أجزاء القصيدة التي تظهر فجأة إلى السطح مثل كنز في العمق مغطى بالرموز والاِيحاءات مثلما وجدت في مختاراته الشعريّة الأخيرة بعنوان " سهواً على مصطبة الظلام " الصادرة عن الاِتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق _ بغداد للعام ألفين وعشرين والتي تنوعت فيها القصائد المكتوبة بفترات زمنيّة مختلفة ومتباعدة كل فترة لها حساسية لغويّة مختلفة بمعناها ودلالتها الفلسفيّة حسب ظروف الكتابة الواقعة تحت تأثير تلك الحقب الزمنيّة الماضيّة الغنيّة بتجاربها المتنوعة والخاضعة لسلطات قهريّة جعلت الكثير من الشعراء يجرجرون القصيدة إلى وديان ليست لاِشباعها لتقول بل لاِسكاتها لتصمت خوفاً من بطش النظام السياسي الذي كان ينظر للشعر باِعتباره سلاحاً للدعايّة الرخيصة المرتبطة بأبواقه التي تحرص على تسميته تسميّات ضيقة خارج معنى الحداثة المفتوح الذي كان
قد أخذ الشعر إلى مستويات من القول والتنظير المختلفين والمتمردين خاصة قصيدة النثر التي كانت تسعى لخلق اِيقاع داخلي يختلف عن أنماط الشعر المعروفة كي تصنع لها جمهوراً متميّزاً بذائقته وفهمه للشعر الذي يخاطب الذهن ويحاوره بدهشة جديدة وأدوات مبتكرة.
في نهاية قصيدته بعنوان " سهو أورفيوس " من مجموعة " تنافسني على الصحراء "
يقول الشاعر : "تبقى الخشبة قائمة على هذا المسرح
بين الشخوص بلا عيون
وحيداً أفرق بين العربة والطين
وألقي نظرة وداع على حلم بروميثيوس الإنسان
وتبقى اللغة تنزف أطلالاً وكواكب ذاهبة في
جحيم قديم
حتى ينتهي الشاعر بالقول في ذات القصيدة :
" يبقى الذهن
خارج هذه الوردة
"خارج هذه الرغبة الشائهة
وهي اِنحيازاً للعقل الذي ينتصر على الرغبات والاِغواءات بسلطته التي تحاول أن تكون يقِظة أمام أخطارها متمثلة بالوردة التي يستخدمها الشاعر هنا رمزاً للمكيدة التي تجرجر الروح للهلاك كما حدث في اسطورة أورفيوس الذي قتلهُ سهوهُ في الغابة حينما كان يبحث عن زوجته وحبيبته يوريديس وهو الموسيقى الذي تصغي له مخلوقاتها المتعددة بحبور وسلام وأيضاً يتطرق الشاعر لشخصية بروميثيوس سارق النار من الآلهة ليمنحها للبشر ذلك الاِله المحب للبشر صانعهم ومعلمهم الأول والذي يرثي حلمه الذي لم يتحقق بصناعة بشر قادرون على خطف العالم من الآلهة الذين يستخفون بهم وكأنه يتحسّر ويتذكّر حلمه الشعري في اعادة صياغة هذا العالم المشوّه من خلال اللغة التي تسعى إلى تفكيك انساقه ومسيرته التاريخيّة القائمة على أخطاء لم يستطع ممن سبقوه من الشعراء أن يصححوها ،كل شاعر بموهبته التي توقفت ناقصة بعض الشيء أو انطفأ زيت سراجها بفعل الطبيعة التي تراقب لاِحكام قبضتها الأبديّة حتى لو اِستدعى الأمر اِسترداد المخلوق لحاضنتها باِعلان موته
ويكتب الشاعر قصيدة " أمراض " من مجموعة " السائر من الأيام "
حيث يقول في منتصفها :
إذا كانت الأمراض لها هذا الجبروت
لماذا لم نبن لها قباباً ..كنائساً ؟؟
لماذا لم نذبح النجوم والقرابين لها ؟
لماذا لم نقم دونها القلاع ؟؟
"وتحصين ديارنا ضد جندها العتاة
ودلالة الأمراض هنا يستخدمها الشاعر للاِشارة للقوة الخفيّة غير المرئيّة القادرة على تغيير مسارات وأقدار البشر والفتك بهم وهي بجبروتها قوة هائلة توازي سلطة المقدس الذي يتحكم بمفاتيح الوجود وكلمة الأمراض في هذه القصيدة غير محددة بمعناها اللغوي وهي الوهن السريري والضعف بل سر الحياة الذي نعجز نحن البشر عن استيعابه أو فهمه كي نحصّن أنفسنا من ضرباته المتلاحقة منذ بدء الخليقة ساعة أدرك الاِنسان ضعفه وقلّة حيلته أمام جبروت الطبيعة وخفاياها ومازال يبحث عن تفسيرات مقنعة وهو الواقع بين سلطتين مختلفتين تتقاذفه وأعنّي سلطتا الخير والشر هذه الثنائيّة التي تحاول أن تشكله وتصنع تاريخاً لوجوده .
وبمعنى مقارب يكتب الشاعر قصيدة : "أكاذيب في محبرة " من مجموعة " حياة ثالثة "
حيث يقول : وأنتِ أيتها الأفعى المريضة
أيتها الحياة
تسبحين
في دموعنا
باحثة عن خطأ ناقص وأمل مجروح
عند أبواب الجحيم
أبوابنا الساخطة
وتخلدين بمهارة ناعمة
إلى نومنا البارد
تلدغينه بضوئك السام
وتسحلين الفريسة
ودلالة الأفعى في هذه القصيدة تعيد مفهوم الاِسطورة التي تتحدث عنها باِعتبارها رمزاً ملعوناً ساهم في القاء البشر في غياهب الأرض بعدما كانا وأقصد آدم وحواء يعيشان في الجنة حسب المفهوم الديني التوّراتي لبدء الخلق
رغم أن الدراسات الدينيّة الفقهيّة الحديثة تقول بأن الجنة هي الأرض ذاتها التي طردا منها آدم وزوجته حواء يعني انتقلوا من اعلى الأرض إلى أسفلها لكن الشاعر هنا يحاول أن ينعت الحياة بصفات الأفعى الناعمة التي تنتظر فريستها بصبر وتأني حتى تنقض عليها وتسحلها حسب قوله وهي صورة قاتمة لمعنى الحياة يجردها من معطياتها الأساسيّة كونها مستقراً للعيش حتى لو كان هذا العيش مؤقت ما على الكائن ليس سوى أن يعثر على الديمومة مثلما فكّر الأولون بالخلود رغم أن فكرة الخلود اِرتبطت بالأفعى حسب أقدم الملاحم المكتوبة التي وصلتنا وأقصد ملحمة الاِله كلكامش .
وإلى القصيدة الذاتيّة بعنوان : " غيمة عابرة " من مجموعة " حياة ثالثة "
مأخوذاً بهذا النور المسحور
أقلب بين يدي الطرق
كدراهم قديمة
وأربط الآلام
بأطياف الخوف
وأتعالى وحيداً
وشاهقاً
مثل غيمة عابرة
قصيدة جميلة بصفائها وخفتها وعمقها كذلك بعدد كلماتها فالوقوف أمام طرق مختلفة يدل عليها بصيص نور مسحور يجعل الكائن في حيرة من أمره وهو الذي يضمد جراحه بأطياف خوفه كطائر ليس أمامه سوى الطيران من جديد والتحليق وحيداً إنها غربة الكائن الذي لا يحتمل ثقل الوجود مما يجعله يتلاشى عالياً.
كذلك هذه القصيدة التي لا تختلف بجمالها عن قصيدة " خيول " من مجموعة " تنافسني على الصحراء "
كما كتب الشاعر :
"لدى هذه الخيول الرابضة خلف جدرانها المتقاطعة
متسع للصهيل لاِستدراج الذكريات
لتلقى اليقظة كحادثة طارئة تستحق التأمل
ولديها عدد كاف من الأسابيع
أسابيع الفكاهة والعزلة أيضاً
إذ تتهيأ لتأويل القش باِزاحته
فوق تل الأيام الفائضة
"ولدي مايجعلني سائس هذه الخيول
إن جمع المتضادات من الكلمات أضفى جمالاً على القصيدة : خيول يقابلها جدران متقاطعة , متسع للصهيل واِستدعاء للذكريات . اِزاحة قش مع تل الأيام , يقظة مع تأمل ولربما تكون هذه القصيدة من القصائد الصافية التي تدل على أسلوب الشاعر الذي بدا منذ مطلع الثمانينات بقصائد مختلفة عن بقية الشعراء وتتميز هذه القصيدة بلغتها الواضحة رغم الغرابة التي تحيط أجواءها المفتوحة على أكثر من معنى فالشاعر في متن القصيدة
هو سائس الخيول ومربيها وكذلك مروّضها الذي يسعى لاِطلاقها يوماً ما.

وفي قصيدة " غروب " من مجموعة : "مالا يحتمله النص "
يقول الشاعر : "والحروب تحججت بالتاريخ
وزادت شخوصها
يشبهوننا بأسماء أخرى
في ميادين تتناظر
لأن الندم غنيمتنا
الأقل اِختصاصاً
لأن السرابات اِستوطنت كلماتنا
بحكم التكرار
فتلبدت الأنهار السعيدة
وسئمت الأمطار الغريبة
حتى نهاية القصيدة :
حين تنتهي الكارثة
منْ دفن حواسنا
لأننا لم نكن يوماً
أيها السادة
إلا شهوداً محذوفين
إلا خرساً ثرثاراً
يمشي بين حشد ملتبسين
في سعيهم الناحل
"باِتجاه الحياة الثالثة
يرصد الشاعر هنا اِستمراريّة الحروب التي تتوالد من بعضها ليدينها بقوة وكأنها حكاية لايتوقف نسجها من جديد ما يتغير ليس سوى شخوصها التي تتبدل أدوارهم وأسماءهم عبر التاريخ هم المتبارون دائماً في ميادين مختلفة والشاعر ومن معه هم الشهود الذين لا مكان لهم سوى السكوت، الاِقصاء الذي يتعرض له المبدعون على مر التاريخ لا يختلف في أدواته التي تغيّب كل من يقف بوجه سلطاتها لكن الحلم بالسلام لا يتوقف عند الساعين إلى اِيقاف الخراب بالسير حشوداً نحو الحياة رغم أن الحشود في قصيدة الشاعر يصفهم بالملتبسين والحياة بالثالثة وأعتقد قصد الحربيين الماضيين في بلاده اللتين كلما اِنقضت حرب منها جاءت حياة جديدة سرعان ما تتوقف لتبدأ من جديد
وكأنها حيوات متعددة كل حياة لها مسمى خاص بها كونها تولد بعد موت، وبذات الألم يكتب الشاعر قصيدة :
" سهو على مصطبة الظلام " من مجموعة " حياة ثالثة "
جاء فيها :
نبحث عن أسد بابل
هشمته ريشة النار الفاسقة
في الماء الذي يرثي السبايا
في زقورة الدم
في ريش الحمائم يتعثر بين النخيل البعيد
في القصب يسود
كأغنيّة
وعصفورين مشنوقين
تحت شجرة شبقة من شدة الخراب
في الجملة التي لم يقلها الغائب
فسقطت من لحاء اللغة
في كل هذا
"وفي يدي التي تتهجى اللغات
حتى نهاية القصيدة الطويلة:
أرمم روحاً منخوبة بالطلقات
وأربت على كتف حيوان يائس قربي
"وأتماثل للطيران
هذه القصيدة يدوّن الشاعر فيها صرخته المدويّة باِحتجاج كبير يخلل كل مايرى من مسميات وأفعال وأنشطة ذهنيّة أو محسوسة مرئيّة تحيط به من خلال تسميتها بصفات مختلفة تعكس حجم الخراب والدمار والعطل الحاصل هناك وهو الشاهد الذي لا يستطيع سوى الحلم وسط هذا التناقض العظيم الذي عليه كشاعر أن يحيا فيه ليكمل طريقه بعدما وجد نفسة جالساً سهواً على مصطبة الظلام وهي المصطبة التي لها اِيحاءات سورياليّة عميقة وجميلة فالظلام فضاء مفتوح غير ملموم ومحدّد بينما المصطبة كيان محدّد بزواياه ووجوه الظاهر للعيان لكن رغم ذلك جعل الشاعر من الاِستراحة في الظلام مكاناَ معيناً بحد ذاته ونقطة للبوح بكل ما جرى ليكمل قصيدته
بالنهوظ من جديد والطيران.
يبقى الشعر درساً عميقاً في فهم الحواس وتفسير الظواهر التي تنتصر على الكائن وتغلبه في أحيان كثيرة ولكل شاعر عدته وقوسه التي يصيب بها في الظلام ربما ينجح أحياناً ويخطأ في أحيان أخرى لكنّها حرفته في الأخير التي لا يجيد غير مزاولتها وحلمه البهي الناصع الذي يحاول أن يضيء سواد العالم بكلمة ربما تكبر لتتفوق على مداها وتعلو على سمائها.

ملبورن