في إصدارها الجديد "لملمة أوراق تبعثرت- سيرة ذاتية " الصادر عن دار الكتب العلمية ـ بغداد 2019 تعود بنا الروائية الفلسطينية (سلوى جرّاح) إلى سنوات البئر الأولى وتروي لنا متكئة على ذاكرة كبريتية مشتعلة بالتفاصيل لم يغب عنها حتى اسم مستشفى الولادة في حيفا وهي العكاوية الأصل لتحكي لنا سيرة حياة تبعثرت سنواتها بين مدن المنافي (عكا المدينة الأم، غزة، طرابلس، بيروت، البصرة، الفاو، الرمادي، كركوك، بغداد ،القاهرة، دمشق ولندن)، سيرة ذاتية ملامحها الواضحة هو ثالوث مصائبي؛ الاغتراب القسري عن الوطن والأهل، إثبات الذات رغم التقلبات السياسية التي أقل ما يقال عنها أنك على أسخن بقاع الارض غلياناً بالانقلابات، وبدايات متكررة من الصفر في كل انتقالة .

تمضي الجرّاح في بناء السيرة وتؤثث المشاهد بالشخوص والأمكنة بحبكة سردية سلسة، عتباتها سنوات العمر مبتدئة من سنة الولادة 1946 وصاعداً. لم تثقل على القارئ بتكنيك الاستحضار أو الاسترجاع الفني (الفلاش باك) أو القفز على السنين للتمسك في حدث وتناسي أحداثاً أخرى، بل أخذت القارئ من الأسطر الأولى إلى معايشة مصير عائلتها وجعلت منه متفرجاً لا يقوى على الانسحاب قبل إكماله قراءة الكتاب المصنف إلى اثنتي عشر فصلاً دون عدّ المقدمة.

سلوى الابنة البكر، والدها (ذا النون أنيس جرّاح) المهندس في شركة نفط العراق في حيفا عمله تشغيل وصيانة الإتصالات اللاسلكية، بداياته شاب وسيم ذو صوت رخيم يدندن على العود ومن عائلة لا يحبون تزويج بناتهم للأغراب. والده (أنيس) درس المحاماة في اسطنبول وعاد يعمل في دوائر حكومة فلسطين وحين تقاعد عن العمل صار يقضي معظم وقته في مكتبة جامع الجزار الشهير بعكا.

والدتها (إسعاف نجم الدين جراح) هي الوسطى بين شقيقتين مريم ودعد، ولها شقيق وحيد يكبرها ببضع سنوات هو الخال عادل. كانت حين تتحدث عن أبيها تقول مفاخرة: " أبوي كان عنده مطحنة في أول سوق عكا ". شخصيتها تنبئ بطيبة وأريحية رغم ما عانت من وفيات مواليدها المتكررة وغربتها عن أهلها واتخاذها دور الأم والأب معاً عند غياب زوجها بسبب ظروف عمله، وهذا ما عانته الابنة سلوى أيضاً. ومن ضريبة الغربة، هناك مشهد ترويه سلوى حين أراد والدها إبلاغ زوجته بموت والدتها الجدة حميدة، لم تسعفه شجاعته واختار أن يبلغها الخبر وهي وسط ضيوف علّهم يكونون عونًا له.


"لملمة أوراق تبعثرت- سيرة ذاتية " الصادر عن دار الكتب العلمية

عائلة الجراح توزعت بعد النكبة على ثلاث دول عربية، لبنان وسوريا والأردن. حصة جدتها وخالاتها كانت بيروت، عمتها حكمت و بعض أقارب أبيها ذهبوا إلى دمشق، أمّا عمها وباقي العمات فالْتَجَؤُوا إلى الأردن. وهكذا تفرق شمل العائلة التي اعتادت الحياة في مدينة صغيرة يعرف أهلها بعضهم ويتشبثون بمدينتهم حتى ليقال من باب المزاح: إن العكي إن غادر إلى مدينة الناصرة القريبة، يحلف بغربته!

الجدة حميدة أم (إسعاف) شخصت بإتقان وجع التغريبة الفلسطينية، تتذكر حفيدتها سلوى أن أهم طقس عند الجدة على الإطلاق هو إخراج ذاك المنديل المطرز، تخرجه من الجرار، وتحمله إلى سريرها، تجلس بهدوء وتفك عقدته وتخرج منه رزمة من المفاتيح، تتدلى من شريط حريري أبيض، تغلق كفها عليها ثم تطلقها من قبضتها وتروح تتأملها وتقلبها بين يديها وهي تقول بصوت مرتجف: "هذا مفتاح بيتنا بعكا، بيت جدك نجم الدين الله يرحمه، وهذا مفتاح مطحنته اللي كانت في أول السوق"•

تنقلت سلوى بحكم عمل والدها بين غزة، البصرة، الرمادي، كركوك وبغداد وتحكي عن كل دار سكنته عائلتها كيف كان تصميمه، أثاثه وجيرانه، محاولاتها السيزيفية المتكررة في دخول مدارس تفاوتت بين المتواضعة والأهلية بنظامها النموذجي ولم تنج من إرسالها وحيدة وهي لم تزل طفلة إلى مدرسة الشويفات خارج بيروت.

تذكر مدن العراق بكثير من الحب وتصف كركوك: "كانت كركوك في الخمسينيات، مدينة صغيرة على قدر كبير من الحداثة، شوارعها منسقة تتوسطها مساحات مزروعة بالورد وشجيرات الآس"•

أمّا بغداد فقالت عنها: أحببت بغداد حبًا لا فكاك منه" وأمّا البصرة والفاو فقد عشقت نخلها واتخذتها أيقونة لا تضاهيها جمالًا كل اشجار العالم .

تتماوج مشاعر القارئ بين حزن شفيف وهو يطالع مكابدات عائلة فلسطينية تحاول أن تتشبث بالحياة وسط تلاطم الأقدار في بلد كالعراق. تذكر النشيد الوطني مليكنا المفدى عندما كان الزمان ملكيّاً ومن ثم سنوات الزعيم إلى أن طالعتهم صورته الشهيرة في مبنى الإذاعة والتلفزيون في الصالحية دليلاً على نهايته، وأحداث الشواف التي طالت والدها وشاية قرروا احتجازه ليلة واحدة بتهمة التخابر، تذكر الجرّاح مشهد اعتقال والدها بكثير من التفصيل وكأنك موجود بينهم، على النقيض من ذلك للجرّاح حس فكاهي لم يغب عنها، كان يظهر بين الأسطر مما زاد في سيمائية المشاهد وبدت الشخوص حقيقية حين تتكلم بلهجة عراقية خالصة على لسان أحدهم أو حين تذكر شقاوتها كطفلة مثل مشهد الدعاء حين اعتادت النساء فتح صدر الثوب وقول (إلاهي وأنت جاهي …….) وعندما أرادت امتلاك صندوق خالتها لجماله وهي لم تزل طفلة قالت لها خالتها سأعطيك إياه بعد موتي. ما كان من سلوى إلا أن فتحت صدر ثوبها وقالت (إلاهي وأنت جاهي تموت خالتي مريم !) .

تواصل الجرّاح سردها لعثرات الدراسة وذهابها إلى القاهرة للتقديم على جامعات الطب في كافة الجامعات المصرية وعودتها إلى بغداد بعد يأسها من أن تكون طبيبة وفق رغبة عائلتها، أكملت في بغداد في جامعة الحكمة دراسة الأدب والفلسفة وعلم النفس، لتعمل بعدها مترجمة في شركة نفط العراق والتحقت بعمل مسائي في تلفزيون بغداد لترجمة أفلام وثائقية قصيرة للأطفال وإضافة التعليق عليها بصوتها، في محيط عملها التقت بشريك حياتها العراقي (مصباح غازي عسكر كمال)، بعد تنقلات وظيفية قررت انتقالها للعيش في لندن عام 1977 حيث عملت لمدة عقدين من الزمن في هيئة الإذاعة البريطانية.

تخص الجرّاح مرحلة عملها في هيئة الإذاعة البريطانية على أنها أكثرها أهمية وتحقيقاً للذات، وتفرد فصلاً كاملاً تروي فيه تجربتها الفريدة حيث تقول، دُعيت إلى لندن صيف 1977 لغرض أداء امتحان الترجمة والكتابة والصوت، للحصول على وظيفة في القسم العربي في (بوش هاوس) البناية ذات البوابة الحديدية يحرس مدخلها تمثالان كبيران وعلى الواجهة عبارة تقول (للصداقة بين الشعوب الناطقة بالإنكليزية) همهمت قبل دخولها (يا رب رضا الوالدين) وكان على ما يبدو رضاهم وفيراً لتحقق مسيرة عمل ناجحة على مدى عقدين من الزمن ويزيد.

في البداية، عملت في عدد من البرامج كمشاركة خارجية في قراءة المواد بعد أن اكتشفوا أن صوتها إذاعي ونطقها سليم واضح. انتظرت في عملها ثلاثة سنوات لتمنح وظيفة (مخرج) وكان العمل يبدأ بقراءة موجز الأخبار من أستوديو الأخبار بعد أن تدق ساعة بيغ بن الشهيرة دقاتها معلنة وقتها بتوقيت غرينتش.

بعدها بعام نقلت الى قسم البرامج لإعداد أول برنامج اذاعي (لكل سؤال جواب). تقوم فكرته على الإجابة على اسئلة المستمعين عن شخصيات تأريخية وأحداث ومعلومات عامة ثم طُلب منها إعداد و تقديم برنامجاً جديداً يهدف الى جذب الشباب للاستماع إلى البي بي سي ويتحدث عن طموحاتهم اسمه ( مع الشباب ).

كان القسم العربي يمتلك مكتبة ضخمة من التسجيلات على اسطوانات كبيرة الحجم جداً مضغوطة على خلفية نحاسية، تدور بسرعة كبيرة بحيث أن الأغنية التي يبلغ طولها عشر دقائق تحتاج لاسطوانة كاملة. هذه الاسطوانات كانت وسيلة التسجيل الوحيدة قبل اختراع الشريط الممغنط، وسجلت عليها مئات الأغاني والأحاديث والمقابلات. وقد عملت مع زميلها الراحل ( هاني العربي ) في بداية الثمانينيات على نقل تلك الأسطوانات على شرائط واكتشفوا كنوزاً من التسجيلات القديمة التي تعود لثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، محمد عبد الوهاب، يقدم برنامج ما يطلبه المستمعون من أغانيه وأم كلثوم توجه رسالة إلى الشعب المصري أيام حكم الملك فاروق، والدكتور طه حسين يكتب الأحاديث الثقافية للبرامج الأدبية، ويوسف وهبي وأمينة رزق يشاركان في التمثيليات الإذاعية ويتحدثان عن تجربتهما المسرحية والسينمائية.

مع بداية التسعينات بدأ عصر الكومبيوتر في العمل الإذاعي بكل تفاصيله. بدأت بتقديم برنامج حي على مدى ساعتين أطلق عليه اسم (البرنامج المفتوح). كانت الجرّاح ومجموعة صغيرة من الزملاء والزميلات يتناوبون على إعداده وتقديمه. كان برنامجاً يتناول أحداث العالم بعيداً عن التحليلات الإخبارية والسياسية وتتخلله أغان وأخبار الرياضة والكثير من الحوار الحي بين مقدميه.

ثم قدمت برنامج (الواحة) الذي يستضيف شخصية مرموقة ويضعها في عزلة لتتحدث عن نفسها وأحلامها وتختار كتاباً ومقطوعة موسيقية تؤنس وحدتها. التقت الجرّاح في هذا البرنامج العديد من الشخصيات المهمة من المخرج الشهير يوسف شاهين والمطربة صباح ونزار قباني ونضال أشقر، إلى سميح القاسم ومظفر النواب، ومحمد رشدي والروائي يحيى حقي ونجم السينما أحمد مظهر.

وحين تقاعدت زميلتها العراقية البصراوية ( أولغا جويدة ) التي تكن لها صداقة ورفقة طيبة بدأت بإعداد برنامجها الثقافي ( موزاييك ) وكان فرصة للانطلاق في عالم الأدب والسينما والمسرح، إحدى حلقات البرنامج التي أعدتها من القاهرة من معرض الكتاب، عن أزمة الكتاب العربي، تضمنت مقابلات قصيرة مع كل من نجيب محفوظ وعبد الرحمن الابنودي وأحمد بهاء الدين وجمال الغيطاني ويوسف القعيد ولطفي الخولي.

أما البرنامج الذي أحدث ضجة كبرى حين كسرت الجرّاح تابو الجنس أذيع عام 1994 اخذت من خلاله المستمعين في جولة إلى خمس دول عربية تونس والمغرب ومصر والأردن والبحرين، لإجراء مقابلات مع أطباء ومتخصصين في الدراسات النفسية والاجتماعية لمشاكل الجنس، إضافة للناس العاديين من مختلف الأعمار وضرب رقماً قياسياً في عدد الرسائل التي وصلت البرنامج.

عدا حضورها لأعوام متتالية مهرجان المسرح العالمي في مدينة أدنبرة، ومهرجان الموسيقى العربية في القاهرة لنقل متعة المسرح والموسيقى وبرنامج (ندوة المستمعين) الذي كان منبراً لاستعراض أفكار المستمعين الذين يراسلونه ويبعثون له باختياراتهم من الشعر والأدب والجد والهزل. مع نهاية صيف عام 1993، اختار القسم العربي أن يكون جناح البي بي سي في معرض دمشق الدولي، الذي زاره مئات المستمعين، الباص اللندني الشهير ذا الطابقين.

بعد سنوات البي بي سي أهتمت بالسرد الروائي بعد تقاعدها من العمل الأذاعي فأصدرت عام 2005 أولى رواياتها والتي عنونتها ب "الفصل الخامس" تلتها رواية "صخور الشاطيء" عام 2007، ورواية "بلا شطآن" عام 2012 ورواية "صورة في ماء ساكن" عام 2014 ورواية "أبواب ضيقة" في عام 2015 ورواية "أرق على أرق" في عام 2016.

بقى سؤال اخير، هل زارت الجرّاح مدنها الحبيبة، كانت على أبواب الخمسين من عمرها حين زارت عكا لأول مرة. وقفت عند مدخلها القريب من جامع الجّزار مشدوهة تكاد لا تصدق ما تراه. وحين خطت في شوارعها، انهمرت دموعها وهي ترى أمامها كل حكايات جدتها حميدة وأبيها وأمها. جامع الجزار وسبيل الطاسات كما كانت تصفه أمها ومطحنة جدها في الزاوية عند مدخل السوق. والبحر والصخور التي يؤدي إليها السوق العتيق. وخان العمدان الذي حكت عنه أمها الحكايات و(فستقية) آل جراح التي تضم رفاتهم، من قال أن وجع الغربة يمحوه حجيج الوطن. و كان الدمع رفيقها ايضاً عندما ذهبت لبغداد بعد عام 2003.

اختتمت الجرّاح سيرتها بالمسك حين أردفت فصلاً أخيراً أسمته (ملحق الصور)، كانت قد اعتادت كل كتب السيرة إدراج صور شخصية لأصحابها غالبيتها إما ضبابية أو حجمها ضئيل تغيب عنه التفاصيل، لكن الجرّاح أتحفت كتابها بالصور البديعة في تقنيتها وإن مضى عليها نصف قرن لكنها تشاهدها بوضوح كأنها لقطة مضى على التقاطها دقائق.