يُجمعُ مؤرخو الأدب ونقاده الكبار على أن اللبناني ميخائيل نعيمة (1889-1988) واحد من أهم رواد الثورة التجديدية والطليعية في الأدب العربي المعاصر خلال النصف الأول من القرن العشرين. وقد يكون فوزي سليمان على حق عندما كتب يقول :" ميخائيل نعيمة هو أحد رواد ثورة التجديد في الأدب العربي الحديث، وزعيم الحركة المهجرية في تحرير اللغة من الجمود، ونقلها إلى حياة نشطة، فيها ينبضُ الأدب بالأفكار والمعاني، ولا يئنّ تحت ثقل ما يرتديه من الأزياء اللغوية".
وكان مولد ميخائيل نعيمة في قرية بسكنتا الواقعة على سفح جبل صنين عام1889 ، وهو نفس العام الذي فيه ولد د. طه حسين عميد الأدب العربي. وقد سمّتْه عائلته باسم جده ميخائيل الذي كان أهل القرية ينطقونه "مْخايلْ". وفي الجزء الأول من مذكرته التي حملت عنوان :" سبعون"، يُشير ميخائيل نعيمة إلى أن أجداد جده المذكور نزحوا إلى لبنان من عكا، واستوطنوا المنطقة العالية من جبل صنين. وقبل عكّا كانوا في حران. كما يُشير ميخايل نعيمة إلى أنه من المُرجّح أن يكون أجداده قد جاؤوا من اليمن بعد سيل وادي عرم. فهم إذن عرب أقحاح، ومسيحيون على المذهب الأرثوذكسي.
وكان ميخائيل نعيمة شديد الارتباط بجده الذي كانت له لحية كثّة كان حلاق القرية يقول عنها ضاحكا:" هذه لحية للفأس لا للموسى". وواصفا علاقته الحميمة بجده، كتب ميخائيل نعيمة يقول :"أراني نائما إلى جانب جدي وقد التهبت لوزاتي، وانحمّ بدني حتى كأن في داخلي أتّونا، وكأن حلقي بات مسدودا فلا أستطيع بلعَ ريقي. لقد كان جدي طوال الليل، يتحسّسُني، ويضمني إليه، ويُمسّدُ وجهي، وجبهتي ورأسي، ويردد في أذني:" يا روح جدك أنت... ".
وفي الصيف، أيام الحصاد، كان يرتفع صوت الجد "خافتا، مُتقطّعا، ناعما"، مُرددا أغنية تبعث قُشعريرة الغبطة في جسد الطفل الصغير الذي هو ميخائيل نعيمة. وتقول تلك الأغنية:
يا نخْلةْ البالدار باطورك أسدْ
وتكسرتْ الغصان من كثْر الجسدْ
أنا الزرعت الزرع جا غيري حصدْ
يا حسرتي ردّوا القمح لعدالنا
**
وفي صباه، فُتن ميخائيل نعيمة بمسقط رأسه بسكنتا، وبالشخروب. وتقع هذه المنطقة أمام جبل صنين المغطى دائما بالثلوج، والذي يُعتبر من أشهر جبال لبنان. واصفا بسكنتا، كتب في :سبعون" يقول :"تغرق بسكنتا في جنائن من الفاكهة فتبدو بسطوحها الحمر وكأنها الياقوت في بحر من الزمرد. وكانت حتى نهاية الحرب الكونية الأولى تغرقُ في بساتين من التوت إذ أن كان مُعوّلها الأكبر على تربية دودة القز. لكن أهلها النشطين، أسوة بغيرهم من سكان لبنان القديم، ما لبثوا أن استبدلوا الفاكهة بالفيالج حالما شعروا بأن سوق الحرير على البوار، والذي يُساعدهم على الانصراف إلى تربية الأشجار المثمرة وفْرةُ الينابيع المنبجسة من بطون جبالهم".
ومن بين الأحداث المهمة التي سوف يظلّ ميخائيل نعيمة يتذكرها حتى بعد أن بلغ من العمر عتيّا، عودة والديه من المهجر الأمريكي حيث كان الهدف منه الظفر بثروة تقي العائلة ويلات الدهر. وقد علم ميخايئل نعيمة أن تلك الهجرة كانت من تدبير والدته التي كانت تريد ان تُسايرَ أهل قريتها الذين كانوا يركبون البحار إلى أمريكا القصيّة ليعودوا منها بعد سنوات وقد تبدّل عُسْرُهم يُسْرا فيبنون لهم بيوتا من القرميد، ويشترون البساتين، وضيعات الكروم والتين. وربما لهذا السبب، تأثر ميخائيل نعيمة مبكّرا بعالم المهاجرين الذين يرحلون بعيدا عن أوطانهم طلبا للرزق. وفي البداية، بدا له هذا العالم مثيرا للدهشة، بل ساحرا إذ أنه اكتشف من خلاله أشياء لم يكن يراها في قريته الجبلية الصغيرة. ومن بين تلك الأشياء مثلا، الألة العجيبة التي يكفي أن تُدير الزرّ، لكي تشرع في الغناء. وواصفا ذلك، كتب ميخائيل نعيمة يقول :" وفي ذلك الزمان، زمان صباي الباكر، كان لي مع السحر وقفة ثانية، ثم ثالثة. فقد عاد أحد أنسابنا من البرازيل، وانتشر الخبر في البلدة أنه جلب معه آلة عجيبة تُغني من تلقائها، وتغني كما يُغني الناس بالتمام.-ميجانا وعتابا وأبو الزلف وأغان أخرى لا عهد لنا بها. وقد قُيّضَ لي أن أرى تلك الآلة من دون أن أسمعها فإذا بها صندوق صغير في أعلاه بوق كبير، وبجانبه مسلة صغيرة يكفي أن تُدار باليد حتى يطفق الصندوق يغني. حقا إنه السحر بعينه إذ لم يكن من الممكن لأيّ انسان مهما دقّ حجمه، أن يختبئ في ذلك الصندوق. وإذن من أين يأتي ذلك الغناء؟".
في عام1899، التحق ميخائيل نعيمة بالمدرسة الروسية التي كانت قد أنشأتها روسيا للمسيحيين الأرثوذوكس في قرية بسكنتا. ولأنه كان مُتفوقا في دراسته، ومُهذبا في سلوكه، فإنه كان أحد المحظوظين من طلاّب المدارس الروسية في الناصرة بفلسطين، وكان ذلك عام1902 . وفي هذه الفترة، عرف ميخائيل نعيمة طَعًَم الغربة الأولى. وعن ذلك كتب يقول :" لأول مرة في حياتي أفهم معنى الغربة وأحسّها إحساسا ينْفُذُ إلى الصميم فينْكمشُ قلبي، ويوشك هو الآخر أن يغدو غريبا عني فتطفُرُ الدمعة إلى عيني، وتكاد تطفر منها لولا حيائي من الناس، وخشيتي أن أبدو في عيونهم ولدا ضعيفا من بعد أن كنت أراني رجلا يقتحمُ وحده المجهول ولا يُبالي"
وفي مدرسة الناصرة الأرثوذوكسية، أحبّ ميخائيل نعيمة الشعر الذي يدفع إلى التأمّل في مشكلات الحياة والموت، ونَفَرَ من الشعر الذي يدغدغُ العواطف، ويتّسمُ بالتبجّح والاعتداد بالنفس، وفيه "تُضْربُ أعنقُ الأعداء"، وتلمع السيوف والرماح والنّواصل بالدم. ويقول ميخائيل نعيمة إنه اكتشف في تلك الفترة المبكرة من حياته أن في طبيعته ما يتجاوب عفويا مع الحزانى والبائسين والمنسيين والمظلومين. أما الجالسون في الأعالي، والمُتغطرسون والمتخمون والمنتفخون بما يملكون من مال ومن سلطان، والهازجون على المقابر، فإن نفسه تعافهم وتنقبض منهم ...
**
بعد الناصرة سوف يعرف ميخائيل نعيمة طعما آخر للغربة. فمكافأة على اجتهاده، وحتى على سلوكه، كما هو الحال في المرة السابقة، اختير لمتبعة الدروس فر روسيا على نَفَقَة الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية. وهكذا تحقّق الحلم. وكان بمثابة الحدث العظيم في حياته.
انطلق ابن بسكنتا الجبليّة إلى روسيا، وتحديدا إلى بولتافا، عام 1906، أي بعد الثورة العارمة التي هزّت روسيا قبل ذلك بسنة واحدة. وهناك انتسب إلى "السّمنار الروحي"، وهي مدرسة مُكرّسَة للدروس العلمانية، ولبعض المواد الدينية. ومنذ البداية، قرر الفتى القادم من أعالي جبال لبنان، أن يُجاري الروس في كلّ شيء، وأن يسعى إلى إتقان لغتهم، والتخلّق بأخلاقهم، والسير على منهج تقاليدهم، والتقيد بعاداتهم، وترديد الأغاني المحببة إلى نفوسهم، وممارسة رقصاتهم. وفي تلك الفترة، شرع في قراءة عظماء الكتاب والشعراء الروس أمثال دستويفسكي، وتولستوي، وغوغول، وبوشكين، وتشيكوف، ولرتمنتوف. وعن هذا الأخير كتب في يومياته بتاريخ23 مارس-آذار1908 ، يقول :" أطالع في هذه الأيام "الشيطان"، وأشياء أخرى من نظم لرتمنتوف. يا له من شعر...يا لها من نفْس سامية"....إن جبال القوقاز لتبدو في نظمه أكثر روعة مما هي في الطبيعة...لو كنت شاعرا لغنيت فتنة محاسنك يا لبنان، يا مهد صباي وقبلة أفكاري...أجل لغنيت شماريخك البيض، وأغوارك الساحرة، حيث لي بيت وأهل، وحيث الأرز يُخبر عمّا كان، والجداول تتدفق فضة، والعيش طيّب في بساطته، والجمال لم تشوهه يد الانسان".
لكن رغم شغفه بالحياة الروسية، وبموسيقاها وأغانيها، فإن ميخائيل نعيمة بقي على اتصال دائم ببلاده، باذلا كلّ ما في وسعه لكي لا تحدث قطيعة بينه وبين اللغة العربية التي بها فُتن منذ صباه. وفي يومياته بتاريخ 26 نيسان-أبريل1908 ، كتب يقول :" جاءتني دُفْعة واحدة ستة أعداد من مجلة "الهلال". وكنت قد اشتركت فيها لكي أبقى على اتصال باللغة العربية. إننا لا نزال نفتقرُ إلى الأدب بالمعنى الصحيح، فليس لنا من نتاجنا ما يصحّ ان يُدعى أدبا مستقلا. لكن هناك ظاهرة أغتبط بها، وهي أن الصحافة الحرة في مصر أخذت بلسان واحد تدعو الشعب إلى الحرية، وتُطالب بجلاء الانجليز عن مصر. إن عدوى الحرية تنتشر في مشرقنا العربي. مهما يكن شأني أيها الوطن، فإني أعاهدك على تكريس قواي الفنية لخيرك وخير أبنائك".
وفي السنوات الأخيرة من المدرسة الروسية ، أكتشف ميخائيل نعيمة الموجة الجديدة من الكتّاب الروس. وعن ذلك كتب يقول :"أطالع في هذه الأيام الأخيرة بعض الكتّاب الشبان أمثال مكسيم غوركي، وأرونبورنسكي، وزولوتاريف. تُعجبني نزعتهم إلى التجديد. فالأسلوب عندهم يتدفق حياة ولونا. والاله الذي به يُسبّحون هو "الشعب العظيم". ذلك ما يُجاهر به غوركي في أغلب ما يكتب. هذا الكاتب الموهوب يستطيع بقلمه أن يجعل من الصحراء القاحلة خميلة غنّاء . لقد أحببت فيه الفنان على قدّر ما احببتُ فيه عميق تفهمه للمصائب البشرية. ولا عجب، فهو نفسه قد مرّ من خلال النار والماء بحسب التعبير الروسي".
وبالنسبة لمخائيل نعيمة، كانت السنوات الروسية التي أتاحت له التنقل بين العديد من المدن، ناهلا من مختلف المعارف، وقارئا نهما لكبار الأدباء والشعراء والمفكرين، فترة حصاد أدبي وفير، وفترة غليان فكري، وفوران عاطفي، وغذاء روحي. لذا هو يُقرّ أن تلك الفترة فتحت عينيه على واقع بلاده البائس، وعلى واقع جلّ بلدان الشرق ...وهو واقع فقير أدبيا وفكريا وفنيا بالخصوص. وفخورا بما حصل عليه من معارف في البلاد الروسية، عاد ميخائيل نعيمة إلى لبنان . وكان في نيّته أن ينطلق لمواصلة تعليمه العالي في فرنسا، وتحديدا في جامعة السربون العريقة، إلاّ أن أخاه المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية صرَفَ ذهنه عن ذلك، طالبا منه مرافقته إلى واشنطن. وفي أوائل شهر نوفمبر-تشرين الثاني1911 ، كان برفقة أخيه وعروسه التي اختارها من بسكنتا في الطريق الطويل ليتذوّق طعم الغربة الأمريكية...
**
"بسكنا...بيروت...نابولي... مرسيليا.... باريس... شربورغ... نيويورك... رحلة في البرّ والبحر استغرقت من الأيام ومن الليالي فوق الثلاثين، وتناولت من الكرة الأرضية نصفَها. ما أكبرك أيتها الأرض... وما أصغرك اليوم... وغدا سوف تصبحين أصغر منك اليوم، ثم يأتي يوم نذكرك فيه كما نذكر السرير الذي احتوانا في عهد الطفولة"... هكذا يبدأ ميخائيل نعيمة الجزء الثاني من "سبعون"، واصفا رحلته من قريته الصغيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية...حال وصوله إلى هناك، شرع في تعلّم اللغة الإنجليزية مُسْتعينا بقاموس انجليزي-عربي من وضع يوحنا أبكاريوس، وبكتاب صغير آخر ألّفه مهاجر سوري لنجدة الراغبين من العرب في تعلم لغة شكسبير. ثم لم يلبث أن انتسب إلى جامعة واشنطن الواقعة على هضبة عالية في الطرف الشمالي من مدينة سياتل على شاطئ المحيط الهادي. وبعد مضيّ عام على ذلك، وصله بالبريد العدد الأول من مجلة عربية تصدر في نيويورك بعنوان :"فنون". ويدير تلك المجلة رفيقه في الدراسة لما كان في مدرسة الناصرة الفلسطينية، نسيب عريضة. ويساعده في ذلك واحد آخر لم يكن قد سمع به من قبل. وواصفا مشاعره وهو يتصفّحُ المجلة المذكورة، كتب ميخائيل نعيمة في "سبعون" يقول :" ما هذا الذي اعتراني عندما فتحت المجلة؟ أن عيني تسابق يدي في تقليب الصفحات، وتلتهم ما فيها التهاما، وقلبي يُصفّق فرحا بين ضلوعي. فها هنا فتح جديد، ودنيا جديدة. ههنا حروف تنبض حياة، والعجب أنها حروف عربية. وعهدي بالحروف العربية أن عناكب الجمود والتقليد والنفاق والفاقة الفكرية والروحية قد نسجت فوقها أكفانا، وأن غبار خمسة قرون قد تكدس على تلك الأكفان...فسبحان من يُحْي العظام وهي رميم".
من خلال موادّ مجلة "فنون"، اكتشف ميخائل نعيمة المجددين من الأدباء الذين يعيشون في المهجر الأمريكي، خصوصا جبران خليل جبران. وما أن انتهى من قراءة المواضيع المنشورة في تلك المجلة حتى انطلق يكتب مقالا مُسْتفيضا بعنوان :" فجر الأمل بعد ليل اليأس"، فيه عبّر عن سخطه على الأدب المحنّط، "أدب التنميق والتقليد والتدجيل" بحسب تعبيره. ثم بادر بكتابة رسالة إلى صديقه نسيب عريضة مُهنئا إيّاه، ومادحا المقالة التي كتبها عن "الأجنحة المُتكسّرة" لجبران خليل جبران.: " إن ما كتبته يا صديقي في مقالتك عن "الأجنحة المتكسرة" لجميل وصحيح. وقد أعجبتني طريقتك جدا، ورأيت من نسقك ما جعلني أشدّد الأمل بأن أراك في مصافّ كتّابنا الناشئين لهذا العصر الحديث الذي هو بدء حياة جديدة ذهبية لآدابنا الشرقية المنحطة. لذلك أرجوك أن تواظب على الكتابة، وأقترح عليك أن تطالع كلّ كتّابنا من اليازجي إلى الآن، وتكتب لنا فصلا عن كل واحد منهم ليعلم القوم أنهم لم يحصلوا إلاّ على القشور من كل ما مروا به من أدب المدح والهجو وصفّ الكلام الفارغ الثقيل. وعسى أن تكون لنا مثل بيلنسكي عند الروس، وسانت بوف عند الفرنسيين".
ورادّا على رسالة ميخائيل نعيمة، كتب نسيب عريضة يقول :"إن فنون (يعني مجلة فنون) قد أذاقتني من العذاب فنونا. فقد بذلت في سبيلها كل شيء. ولما شعرت أنني فُزْتُ، غلبتني الماديات. نعم، قد فزت أيها الصديق بجعل الفنون محبوبة في كل أقطار العالم العربي، وتهافت عليها المشتركون مؤخرا من سوريا، ومن مصر والبرازيل والأرجنتين حتى أمّنتُ عليها مستقبلها. أما أنت أيها الصديق الحبيب فلا تقنط معي، بل ذلّلْ أمانيك معي. وكل ما أرجوه منك ألاّ تنساني، بل شجعني بكتاباتك المحببة إليّ إلى أن تحين أوقات الحياة".
بعد احرازه على شهادة في الآداب، وأخرى في الحقوق، غادر ميخائيل نعيمة الجامعة، وكان ذلك سنة لينطلق إلى مدينة "والاّ والاّ" الهادئة لتمضية ما تبقى من العطلة الصيفية، وفي نيته تخصيص كل الوقت تقريبا للمطالعة. لكن بدل أن ينكبّ على ذلك، ألّف مسرحية :"الآباء والبنون" في ثلاثة أسابيع. بعدها توجه إلى نيويورك. عنها كتب يقول :" خمسة ملايين من البشر قذفتهم خمس قارات عبر بحار كثيرة، فيهم الأبيض، والأسود، والأحمر، والأصفر. وفيهم العملاق والقزم، والمُدْقَع والمُتْخَم، والمؤمن والملحد، والسارق والقاتل والفاسق إلى جانب الذي يعمل الوصايا:" لا تسرقْ، لا تقتل، لا تشته امرأة قريبك". وفيهم الأبله والعبقري، والنذل والخيّر، والخامل والعصامي. وقد حُكم عليهم جميعا أن يعيشوا أوكار ضمنها أوكار ضمنها أوكار ضمنها أوكار. بعضها أوجار وزرائب وسراديب. وبعضها قصور تزري بقصور الأشراف والأمراء والملوك".
**
وفي نيويورك عثر ميخائيل نعيمة على عمل غير أن الراتب كان زهيدا للغاية. لذا فضّل الانتقال إلى بنسلفانيا بحثا عن عمل آخر أكثر نفعية على المستوى المادي. وقبل أن يغادر نيويورك، ترجم إلى اللغة العربية قصيدة "النهر المتجمد" التي كان قد كتبها باللغة الروسية، ثم نشرها في مجلة "فنون". عندئذ جاءته رسائل تهنئة كثيرة ورَدَ فيها ما يلي :"هذا فتْح جديد في الشعر العربي"..."وهكذا يجب أن يُنظّم الشعر"... "وزدنا من هذه البضاعة زادك الله"... وقد أعجب جبران خليل جبران بهذه القصيدة قائلا بأنها "تترقرق عذوبة في اللحن واللون". ومُعلقا على هذا الاطراء، كتب ميخائيل نعيمة يقول :" لكأن جبران شعر مثلما شعرت أنا بأننا بدأنا نسير في جنازة القصيدة التقليدية ذات القافية الواحدة، وذات الموضوع المبتذل، والصور التي نملها لكثرة تكرارها". وفي هذه القصيدة، أي قصيدة "النهر المتجمد"، نقرأ ما يلي :
أخي، من نحن؟ لا وطن، ولا أهل ولا جار
إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي والعارُ.
لقد خمّنت بنا الدنيا كما خمّنت بموتانا.
فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقا آخر
نُواري فيه أحيانا.
**
في عام1917، دخلت الولايات المتحدة الحرب إلى جانب الحلفاء ضد ألمانيا فأرسل ميخائيل نعيمة إلى جبهة القتال. وقبل ذلك كان قد عاش تجربة روحيّة عميقة في مدينة ريفية من مدن مقاطعة بنسلفانيا إذ أنعمت عليه العزلة التي كان يعيشها بالاسترسال في التأمّل. فلا الملاهي بأنواعها، ولا النساء، ولا أيّ جاذب أخر كان يصرفه عن تأمّلاته. ورغم أن أخبار الحرب وأهوالها كانت ترد عليه باستمرار، فإنها لم تستطع أن تمنعه من التفكير أبعد فأبعد، وأعمق فأعمق في نفسه، وفي الكون، وفي الانسان وحياته التي كانت تبدو له أحيانا كما لو أنها أشرف من الكون. وكانت حصيلة هذه التأملات العميقة كتابا حمل عنوان :"مذكرات الأرقش". وقد كتب ميخائيل نعيمة يقول :" خلقت الأرقش من خيالي، فلم يلبث أن أصبح في حياتي أكثر من خيال. فلكم سامرني وسامرته، وماشيته وماشاني، وأكلته واكلني. ولكم توسّد وسادتي، وافترش فراشي، وتلحّف بلحافي. لقد جعلته يعيش على مستوى البصيرة أكثر منه على مستوى البصر، ومكنته من ذلك إذ سلخته عن ماضيه إثر صدمة عنيفة وقعت له. ثم وضعته في بيئة هي أبعد ما تكون عن العالم الباطني الذي يعيش فيه، بيئة تغرق في رغوة العيش من يوم ليوم فيبدو فيها مُهانا، محتقرا، وكأنه حرف مُهمل في حاشية كتاب. لكنه يكشف عن غناه الروحي بما يُدوّنه في مذكراته من انطباعات عن العالم الحسي حواليه، ومن مقارنات بين ذلك العالم والعالم الذي يعيش هو فيه بقلبه وخياله".
عمّقت الحرب التجربة الروحية والفكرية لدى ميخائيل نعيمة ليزداد تأملا في قضايا الحياة والوجود والموت ومصير الإنسانية في ظل حضارة مادية تدمّر نفسها بنفسها. وعندما عاد إليها في أواخر شهر تموز -يوليو1919 ، بدت له مدينة "والاّ والاّ" شبيهة بجنة من جنان الخلد. لكنه سرعان ما غادرها إلى نيويورك ليكتشف هناك نماذج جديدة من الأدب المهجري مُتجسّدة في قصائد إيليا أبو ماضي، ونسيب عريضة، وندره حداد وآخرين. ومن جديد انشغل بالتجديد في الأدب العربي شكلا ومضمونا. وعن ذلك كتب يقول :" التجديد... تلك هي الخميرة التي راحت تفعل فعل السحر في قلوب حفنة من الرجال جمعتهم طروف غريبة في ديار غريبة، وأوقدت الحياة في صدر كل منهم جذوةَ الايمان بالحرف وقدرته الخارقة على الخلق والابداع". ولكي يصبح هذا التجديد فعلا لا قولا، كان ميخائيل نعيمة من المتحمسين لتأسيس "الرابطة القلمية" التي ولدت في نيويورك سنة 1920.
**
انطلاقا من العشرينات من القرن الماضي، بدأ اسم "الرابطة القلمية" يشهد انتشارا واسعا لا في الأوساط المهاجرة فحسب، بل في كامل البلاد العربية. وشرعت الصحف تعلق على أعمال أعضائها، وتنشر نصوصهم وقصائدهم ومقالاتهم. بل أن البعض قام بتجميعها لتدريسها في المدارس الشيء الذي أثار حفيظة انصار التقليد الذين انتفضوا غاضبين، ناعتين أصحاب تلك القصائد وتلك النصوص وتلك المقالات بأسوأ النعوت. إلاّ أن ذلك لم يحد من انتشارها على نطاق واسع. بل أن الأدب الجديد القادم من المهجر الأمريكي ازداد قوة وتأثيرا على الأجيال الشابة. أما أصحابه فقد تضاعف حماسهم واندفاعهم من أجل الارتقاء به إلى مستويات أكثر سموا ورفعة. وفي تلك الفترة تلقى ميخائيل نعيمة نسخة من "الديوان" الذي اشترك في تأليفه كل من العقاد وابراهيم عبد القادر المازني. وما أن أكمل قراءته حتى انشرح صدره ابتهاجا بهذا الأثر الذي دلّ دلالة قاطعة على أن حركة التجديد بدأت تنتشر في مصر، وفي بلدان عربية أخرى. ولكي يمنح هذه الحركة التجديدية أبعادها النظرية الحقيقية، شرع ميخائيل في نشر سلسلة من المقالات ضمن كتاب حمل عنوان :"الغربال" مؤكدا فيه أن النقد خلْق وابداع، وليس مجرد استحسان أو استهجان، وأن اللغة أداة خلقها الانسان للتعبير عما تثيره في نفسه متطلبات الحياة اليومية، المحسوس منها وغير المحسوس، والتافه والجليل على حد السواء. فلا يليق أن يصبح المخلوق سيد الخالق فيغدو الانسان أداة تسيطر عليها اللغة بدلا من أن تظل اللغة أداة يتحكم فيها الانسان، ويُكيّفُها بحسب ما تُمليه عليه حاجياته التي تتطور من دون انقطاع. ولأن "العامية" هي اللغة المتطورة دائما، ولأن الفصحى لا يسمح لها المتعنتون بالتطور، فإن هذه الأخيرة أضحت مُهددة بالتحجر والتقهقر والتحنيط والتكلس لتكون في النهاية منفصلة عن الحياة. وفي "الغربال" كتب ميخائيل نعيمة يقول :" إن أول ما أبحث عنه في كل ما يقع تحت نظري باسم الشعر هو نسمة الحياة. والذي أعنيه بنسمة الحياة ليس الانعكاس لبعض ما في داخلي من عوامل الوجود في الكلام المنظوم الذي أطالعه. فإن عثرت فيه على تلك النسمة، أيقنت أنه الشعر، وإلاّ عرفته جمادا، وأن ذاك لا يخدعني بأوزانه المحكمة ونبراته المنمقة، وقوافيه المترجرجة".
في الولايات المتحدة، عاش ميخائيل نعيمة قصص حب متعددة ومتنوعة. وحين يفشل في واحدة منها، يعود إلى عزلته، وإلى الشعر بصفة خاصة. وفي وقصدية باللغة الإنجليزية، كتب يقول :
أيه وحدتي
ما أخالها تستطيع أن تجوب سماواتك
التي لا شموس فيها ولا أقمار
أن تطأ صحاريك التي لا دروب فيها
وأن تمخر بحورك التي لا شواطئ لها
وأن تسْبُرَ أغوارك التي بغير قرار،
وأن تتسلق قممك القاسية الجرداء
وأن ترقص بقدميها المجنحتين على
طحالبك الزلقة.
ولا أخال شفتيها المعسولتين حتى على لمس كأسك
الملآى علقما بكرا،
ولا قلبها البتول قادرا أن يسمع
صراخ أحلامك المشردة.
مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، ترك ميخائيل نعيمة الولايات المتحدة وليس في جيبه من غناها الفاحش سوى خمسمائة دولارا فقط لا غير. إلاّ أنه تركها محمّلا بتجربة روحية وأدبية وفلسفية عميقة سوف تكون له بمثابة الكنز المعنوي الثمين بعد أن عاد إلى وطنه ليعيش عزلة الزاهد في قريته الجبلية وقد أضناه الترحال والسفر بين البلدان والمدن، وأغناه التنقل بين الثقافات واللغات. وقد كتب يقول :" حقا إنها لبلاد(يقصد الولايات المتحدة) التناقضات التي أودّعها، من بعد أن بذرتُ فيها عشرين عاما من عمري. فهي إذ تنمو عموديا بسرعة، تتقلص أفقيا بمثل تلك السرعة. والذي فعلتْه خلال السنوات لم يسبق لأيّ دولة أن فعلت بعضه في خلال قرون وقرون".
وهكذا عاد ميخايل نعيمة إلى بسكنتا مُردّدا بيتي أبي تمام:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل