في العام ٢٠٠٠ تركت العراق على كراهة، رغم أنى لم أعشْ فيه منعما، فقد اعتقلتُ وعذبت وتشردت. تركت بيتي وعائلتي وموقعي في الوسط التشكيلي والثقافي واقمت في برلين لاجئا سياسيا، حزينا محبطا انتظر اليوم الذي اعود فيه. كان جهاز الامن قد صعّدَ ضغوطه عليّ لكي اتعاون. و"اتعاون" بلغة رجال الامن لا تعني سوى الوشاية. كنت في هذا الاثناء على تواصل مع مجموعة من مثقفي "الداخل"، نلتقي في بعقوبة في "سفينة نوح" أو نزور بغداد سوية ونحضر اماسي اتحاد الادباء والعروض المسرحية ومعارض الفن التشكيلي. كان الوعي عاليا بين أوساط مثقفي الداخل بضرورة احداث تغيير جوهري في نمط تفكيرنا ومغادرة الدكاكين الأيديولوجية المغلقة.
"اذا كان وعيُ الداخل على هذه الشاكلة، فكيف سيكون الوضع عليه في الخارج، وهم الذي لديهم كل وسائل التواصل والاطلاع الممنوعة لدينا: شبكة انترنت، تلفونات محمولة وأجهزة تلفزيون تلتقط كل زاوية في العالم، ولديهم ما هو اثمن من هذا كله، الحرية. لا شك انهم الان في ذروة الانفتاح والاستعداد للتحديث وتقبل الآخر؟". هكذا فكرت مع نفسي وانا اضع قدمي على الأراضي الالمانية.
لم تمض سوى أيام على اقامتي في مدينة برلين حتى بدأت اكتشف حقائق صادمة: ان مثقفي الخارج في مجملهم ديناصورات محنطة. متأدلجين، تقودهم الكراهية العمياء، بعيدين عن أي نوع من المرونة والانفتاح.
في الأيام الأولى من اقامتي في برلين التقيت بشخص قادم من السويد يزور اخاه، ترجانا ان ندله على المكان الذي كان فيه جدار برلين. وقال: "احلم باليوم الذي سنعيد فيه بناء الجدار". اما القليل المعني بالتحديث فقد كان ضحية الكراهية والاقصاء، وفضل أن يلتزم بيته.
ولما كنت قادما جديدا فقد اثرت فضول البعض، يسألني عن وضع الثقافة في العراق. لكن نفس هذا البعض اراد ان يسمع مني ما يرغب هو بسماعه، وهو باختصار "بما ان الحكم في العراق ديكتاتوري، فإن الثقافة بلا ادني شك في حالة يرثى لها". ولما اشرت الى الوقائع بحيادية، انزعج هذا البعض. وقلت مع نفسي: اذا كنا نستطيع ان نجيب على القضية بالاستنتاج، فلماذا السؤال؟
وفي مثال آخر، انني في احد الأيام تحدثت مع شاعر عراقي مقيم حينها منذ عقدين عن الثقافة في العراق وعرجت على نص "دزدمونة" ليوسف الصائغ، ورويت كيف ان النص أخرج وقدّم على المسرح مرتين، مرة من إبراهيم جلال وأخرى من ناجي عبد الأمير وكان النص وكلا الاخراجين من احسن ما قدم في تاريخ المسرح العراقي. فقال محدثي: "خلي يولي يوسف الصائغ، هذا بعثي، لا قيمة لما يكتب".
ـ ولكن هل قرأت النص؟
ـ لا حاجة بي لذلك.
كما تعرفون فإن الصائغ المعروف بتاريخه اليساري قد خرج من عزلته وقرر ان يتواصل مع الحياة الثقافية حوله. فيما اذا كان قد اصبح بعثيا ام لم يصبح، امر لا اعرفه و لا اكترث له.
دعونا نفترض ان يوسف الصائغ كتب دزدمونه وهو ما زال يساريا وقبل ان يترك عزلته ويصبح كما يروي محدثي بعثيا، هل سيكون النص عندئذ رائعا وجميلا ويستحق القراءة؟
كان لا أزال غيرَ فاقدٍ الامل في العثور على مؤسسة ثقافية تحتكم للثقافة وليس للسياسة وتتصرف على الأقل بتلقائية ومنطق. وفي يوم كنت جالسا مع رئيس الهيئة الإدارية لاحد النوادي الثقافية في برلين. اثناء ذلك جاء رجل عراقي يشكو من ظلم لحق به. لكن المسؤول عن "النادي"، الذي من واجباته أن يقدم أيضا استشارات ومساعدات للأجانب، رفض تقديم المساعدة وعامله بخشونة. وحين سألته: لماذا عاملت الرجل بخشونة؟
قال: وما يدريني، لعله من رجال السلطة السابقة، ربما ارتكب جرائم.
ـ وما شأنك ان يكون او لا يكون؟ انت تقود مؤسسة ثقافية المانية ـ عراقية مهمتها تقديم استشارات. تجريم الرجل او تبرئته من اختصاص جهات أخرى قضائية. انت لست قاضيا.
وهكذا بدأ الشرخ بيني وبين المؤسسات الثقافية العراقية، ثم ما لبث ان اتسع وتحول من مجرد شرخ الى هوة لا يمكن عبورها.
الـ "يهرجون" مع مثقفي العمى العقائدي
يوسف الصائغ، الشاعرُ، والناثر والرسام، مبدعٌ عراقي كبير ولن تقلل من قيمة ابداعه تخريفات تافهة. سوف ينصفه التاريخ وسيذهب غبار الاراجيف مع الريح وسوف يبقى ابداعه ويتألق. ها أن السياب أكثر حضورا من أي وقت مضى وان اسمه قد حُفر في ذاكرة التاريخ بحروف من نور، فيما صار المرجفون الى هباء.
هذا ينطبق على الكثير من المبدعين العراقيين الذي يُصار الى التقليل من شأنهم ومهاجمتهم في هذه الأيام لهذا السبب او ذاك. اننا نشاهد تنمرا واسع النطاق ضد مبدعين برهنوا على تواجدهم الفاعل والمؤثر والمشرف، مثل ما حدث مؤخرا لكاظم الساهر. هذا الجحود هو خصلة عراقية ذميمة لا نجدها في أي بقعة في العالم، لا ولا حتى في البلدان المجاورة. كان الاجدر ان يكون يوسف الصائغ وكاظم الساهر وعبد الرزاق عبد الواحد وآخرون كثيرون فخرا للعراقيين، بدلا من ان يكونوا موضع تنكيل وهجوم.
انه لمن المخجل ان يُحال من قبل البعض دون تلبية رغبة عبد الرزاق عبد الواحد في ان يدفن في ارض وطنه. من له الحق في اتخاذ مثل هذه القرارات؟ انه حق مدني لا شائبة فيه ولا يمكن ان يحجب عن أحد الا بالتعسف والتنمر بما لا يختلف عن حكم الطغاة. وها اني اضع السؤال التالي امام مثقفي المصادرة من المبررين او الصامتين: إذا ما كان الثلاثة وغيرهم قد هُوجموا باعتبار انهم متصالحون او مادحون لنظام طغيان في العراق، الم يقم شعراء رُفعوا هذه الأيام الى مستوى الأسطورة، بمدح طغاةً حكموا بلدانا مجاورة بالحديد والنار والتوريث وعاشوا في كنفهم، هل يهمنا موقف المبدع من الطغيان عموما ام يهمنا موقفه من طاغية بعينه؟
كل هذا ولم نجد شخصا او حزبا عاقلا يقول: أوقفوا هذه المهزلة التي تعيد انتاج نفسها كل يوم، احترموا مبدعيكم. لقد مرت مآسي على العراق بقي فيها من كانوا يعول عليهم ان يكونوا ضمير العراق صامتين، بمعني متفقين مع التعسف والظلم.
الفن والسياسة
ارتبط الابداع دائما بالسياسة بشكل مباشر وغير مباشر. لكن كتب التاريخ والنقد المتحررة من الحقد والكراهية لم تشر الى الموقف السياسي للمبدعين الا عرضا وعند الضرورة. حتى مع أن الاتجاهات "الرجعية" و"التقدمية" في السياسة هي نفسها الاتجاهات المحافظة او الثورية في الفن: موتزارت ضد سالييري مثلا.
وفي الوقت الذي أشادت كتب النقد وتاريخ الفن حتى الصادرة من دور نشر رأسمالية ومحافظة ببيكاسو وفرناند ليجيه باعتبارهما مجددين كبارا، لم تشر تلك الجهات الى توجهاتهم السياسية وهم أعضاء في الحزب الشيوعي الفرنسي ومن مناصري الاتحاد السوفييتي في زمن الستالينية الا عرضا وفقط للراغب في التقصي.
وعلى الجهة الأخرى كان سلفادور دالي محافظا ناقدا للاشتراكية وقد رسم لوحة تضمنت مفاتيح بيانو تبزغ منها ست صور لرأس لينين في إشارة الى ان لينين كان هناك كل شيء. ولكن لا احد من يساريي أوربا قلل من موقع دالي احتكاما لموقفه السياسي. أيد جون شتاينبك حرب أمريكا في فيتنام، ويعرف الجميع كم من الأرواح ازهقت هذه الحرب. لكني لم أجد من قلل من شأن "عناقيد الغضب" بسبب موقف شتاينبك ولا حتى من جعل موقفه حائلا دون الإشارة الى مكانته المميزة في الادب الأمريكي.
اما بافلوف عالم التشريح الكبير فقد كان قيصريا معاديا للسلطة السوفيتية لا يلين ولا يتكتم، لكن السلطة السوفيتية الجديدة ورغم صراعها المر مع خصومها من جيوش البيض وغيرهم فقد دعمت بحوث بافلوف وخصصت الأموال ليس فقط له بل لكلابه ايضا. كان ذلك في زمن المجاعة، ما دفع كاتبا سوفيتيا معروفا ان يقول انه يتمنى ان يكون أحد كلاب بافلوف لكي يشبع.
من يحاكم من؟
الذين غادروا العراق في اعقاب اشتداد الحملة القمعية التي شنها النظام الديكتاتوري في العام ١٩٧٨ وما بعدها واقاموا في بلدان اوربا الغربية، لم يستفيدوا من التجارب الديمقراطية لهذه البلدان، انما اعتبروا تجارب الأنظمة الشمولية في اوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي في محاربة المختلف والناقد. هؤلاء أنفسهم نصبوا من أنفسهم قضاة على ناس الداخل سواء أكانوا من حزبهم، من أحزاب أخرى او حتى من عموم الناس ووزعوا اوسمة الشرف او وصمة الخيانة على من شاءوا كما وزعت الكنيسة يوما صكوك الغفران.
وإذا ما كان من الطبيعي ان يسعى كل انسان الى حماية نفسه، فإن ليس من حقه وهو المقيم في ساحات الأمان والاستقرار بعيدا عن الحروب والحصار، أن ينصب نفسه قاضيا. في حين أن كل انسان بقي تحت مطرقة الأجهزة الأمنية وتحت طائلة الحروب والحصار والجوع هو البطل الحقيقي وليس من اقام في اوربا.
متى؟
لا يمكن الخروج من دائرة العنف وإلغاء الاخر المختلف ويناء عراق جديد، ما لم يتم إيقاف دائرة الانتقام وتبني روح المسامحة والصفح كما فعلت جنوب افريقيا في سياسة قوس قزح. ولكن هل يوجد عقلاء نافذون قادرون على ذلك؟
لا اظن. لا ان اغلب هؤلاء مستفيدون، لكي يصعدوا، من اسقاط الاخر.