عادة كان الشباب من أهل البلدة في الصباح يتشمسون في مكان خلف مبنى البلدية، مكان أكرمته الشمس بإشعاعها المنتظر في أيام الصحو، كما كان هؤلاء يستمتعون بمنظر النهر الذي يلتوي أمامهم التواء الأفعى، والذي لا يبعد عن المبنى إلا أمتاراً، وعيونهم ترنو إلى قرص الشمس الذي يتلألأ ويتراقص على مرآة أمواج هذا النهر الرقراق، ويشاهدون الطيور وهي تستحم في هوائه الدافىء بتشكيلات مبهرة وتغريدات جميلة، وينظرون إلى الشجيرات الخضراء الميالة على جرفه التي تنحني صوب الماء احتراماً، معلنة الولاء له، وتختبئ قربها وتحتمي أسماك النهر وما فيه من أحياء.

وترى طلاب المدارس يقضون معظم الوقت هناك، خلف المبنى دائماً، استعداداً لمتطلبات الدراسة، جالسين على رصيف الشارع العريض الذي كان يقدم لهم خدمات الجلوس بالمجان والاستمتاع بما يحلو لهم بكل ود ومحبة واستئناس. تراهم وهم يحملون الكتب الدراسية ويتصفحونها، ولا يخفى على أحد دردشاتهم... فقد ترى أحدهم يقول:

- أغداً امتحان المادة الفلاني أم الأسبوع المقبل؟

فيرد عليه الآخر:

- نعم غداً...

ويضيف:

- يا لها من مادة لا يسهل هضمها. الله يستر من يوم غد. ويا له من أستاذ متعجرف أستاذها.

ويبدأ حينها تقاذف التقييمات والتعميمات التي كانت عادة لا تخلو من لعنات وسباب وشتم لعلمائها ولأعلامها، وتوقعات الأسئلة المحتملة وضرورات التركيز على كذا وكذا وطلبات التوضيح من المتميزين من الطلاب.

وهناك خلف المبنى في ذلك العهد منحتهم الحرية النسبية الوقت الكافي للجد واللعب والضحك وحتى الشتم واللعن. هكذا كان الحال، وعلى حين غفلة جاء التحزب بأنواعه وغير الأحوال على مدى عقود كالوباء، وانتشر في عقولنا وأجسادنا، وسبق أن قالوا لنا إنَّه الدواء لتخلفنا عن باقي الأمم ودواء لكل العلل.

أي دواء هذا الذي مزق جسد الأمة ونسف كل شيء جميل فيها بالأكاذيب والوعود التي لم ينج أحد من انفجارتها المدمرة؟ ودخل هذا الزائر اللعين حتى في بيوتنا وبين نسائنا وأحبتنا، وبدأ يسري ويفجر في طريقه كل ما هو جميل، ويبدل عاداتنا الجميلة بعادات أسوأ، وأصبحنا عاجزين عن صد رياح الشر وعن منع فيضان الجهل والتجهيل. وبدأ الفساد يسري في المجتمع كالنار في الهشيم، وذلك بدفع ومشاركة وتستر كبار القوم ممن يتسترون بالدين والسياسة ويبيحون المنكرات ويستبيحون حقوق الضعفاء.

قل ما شئت عن سوء الحال وتردي المآل وكثرة الأرذال، فقد أصبحنا مضرباً للأمثال في سوء الإدارة وسرقة أموال الأجيال.

وما أكثر مقالب الشموسة في ذلك العهد، وفي ذلك المكان المزدحم بجلاسه... من بينها ذلك المقلب المألوف عندما لا يجد أحدنا مكاناً يجلس فيه، فيبتدع مقلباً يضطر فيه شخص آخر إلى التخلي عن مكانه وتركه استجابة لحاجة ملحة بادعاء كاذب من طرف ذلك الصديق الباحث عن مكان يجلس فيه، وحالما ينهض ذلك الشخص الجالس حتى يجلس محله صديقه بكل ود، تتلوها مزحات وقهقهات مدوية من الضحك دون عنف. وحينها يتوعد الشخص المخدوع برد ما وقع فيه، وذلك بتدبير مقلب مماثل أو أقوى منه.

وكان التشمس، أو كما يقولون في الغرب "الحمام الشمسي"، يحمل في طياته ما يحمل، ولا يخلو من مخاطر مميتة. ففي أحد الأيام قام زميلنا حامد في يوم قارص البرد بعد التشمس بالاستحمام بالمنزل، ومن ثم مباشرة توجه ظهراً إلى مدرسته ذات الدوام المزدوج، التي تبعد نصف ساعة تقريباً عن مكان التشمس. توجه على ظهر دراجته الهوائية، وكان تقريباً مبتل الرأس، وبعد حين انغرست في صدره ذي القلب الطيب، ورئتيه، خناجر البرد المسمومة، وكادت أصابع يديه تتجمد، ولا تمسك بالمقود، ساقطاً على اثر ما أصابه أرضاً من على دراجته. اثرها أصيب المسكين بمرض ذات الرئة القاتل، وبعده بأيام قلائل فقدنا زملينا وأخينا حامد. وبعدها لعنا التشمس والتسرع وسوء التقدير والاندفاع نحو الجد والمثابرة والغلو في الإقدام ومراعاة المواعيد.

فجعت أم حامد بابنها الحلو المعشر وطيب السريرة ولولب الأسرة، وبعدها بايام لحقت به، وكانت تلك فاجعة أخرى مضافة إلى سابقتها لن ننساها أبداً. هكذا كنا نتقاسم الشمس في عز الشتاء، وفي نفس الوقت تجرفنا الفواجع بفقد الأعزة لقلة الحيلة. نستمتع بمعطيات الطبيعة ولكن لا ننجو من مفاجآتها.

هكذا عاش محدثكم الشيخ السبعيني صباه.