أبو حميد رجل طيب السريرة، حلو المعشرة، سهل الانقياد، ولا يعرف زعلاً أو يبدي انزعاجاً من محدثيه مهما أساوؤا. الملفت فيه ردة فعله البريئة وتقاسيم وجهه واللغة غير الأبجدية، لغة الجسد ولغة الإشارة. وليس من خصاله الطرق الملتوية قي التعامل سوى رغبته في كسب المال مقابل ما يسديه من فضائل وجمائل لمعارفه من أهل البلدة، ممن عرفوه وعرفوا خامته. وبهذه الصفات أوقع الكثير من الناس في شباكه، فأحب أهل بلدته كما أحبوه.

أبو حميد، ومن يحيطون به من أمثاله، كانوا وروداً يانعة نستمتع بعطرها ونستنشق أفكارها ونتنور بآرائها ونستهتدي بنصائحها كلما ضاقت بنا الدنيا، فنستظل بأفيائها ونستنجد بمساعدتها، حيث كان الرجل ساعياً للبريد، يذهب يومياً إلى المدينة القريبة لتوصيل الرسائل المرسلة واستلام الرسائل الواردة في كيس أصبح علامة من العلامات الملازمة له، كسرواله العريض الذي يرتديه خلال عمله ارتداء طفل بريء يلبس بيده ساعة رجالية كبيرة ويديرها بيده كل مرة؛ حيث كان يرفع حزامه المرتخي ويحلحل سرواله الذي لم يكن أبداً قد اعتاد عليه، لأنه عاش سنيه وهو يعتمر عقالاً جنوبياً غليظاً وجلابة بيضاء ذات ياقة ومسبحة سوداء.

وكان أبو حميد يؤدي مهمات أخرى يكلف بها من أهالي المدينة، مثل برادة وسن مناجل الحصاد لمزارعي البلدة، وشراء ما يلزم من علاجات وأدوية، واستصحاب الجرائد والمجلات للوسط الثقافي، وأعمال أخر تسر من يعرفه، ولكن ليس بدون ثمن، وأحياناً بأثمان مضاعفة، حيث يكون هذا مدخلاً للمزاح والنكتة والتلاطف.

ومن الدردشات معه وهو يقول لأحد طلاب البكالوريا عندنا بعد انتهاء الامتحانات، فيما يحمل كيسه وفيه النتائج الوزارية:

أبو حميد: كم هي البشارة يا أحمد (طالب) بخبر سار لك؟

أحمد: نصف دينار...؟

أبو حميد: لا قليلة. تستحق أكثر

بدا أحمد فرحاً، فقال وهو مبتسم: دينار زين.. أبو حميد؟ ودينار آخر من الوالدة؟

وهنا رمق الساعي الأرض بنظره وهو يفكر، ويبدو أن رد أحمد أثلج صدر ساعي البريد اللطيف، فطار فرحاً وكأن الأرض لا تستطيع حمله، حيث حصل أربعة أضعاف ما طلب، وانفجر الجميع ضحكاً.

من طرائفه أنَّ ابنه عباس، الأصغر بين أولاده الستة، قد تشاجر مع ابن جارتهم الأرملة ليلى، ساكنة الطرف الآخر من الشارع، فرشق ابن الجار عباساً بحجر أصاب رأسه وأسال منه الدماء. عندما تناهى الخبر إلى أبي حميد، جاء راكضاً واصطحب ابنه ليشكو فعلة الابن إلى الجارة، التي سمعت الأخبار قبل وصوله وابنه، فبللت رأس ابنها بصبغ أحمر، وصبغت يدها باللون أحمر أيضاً، وخرجت بابنها إلى باب الدار وطلبت وطلبت من أبي حميد أن يتحسس رأس ابنها، لتبين له أن عباساً أيضاً فج رأس ابنها، ولتخفف من غضبه. لكن أبا حميد عندما أحس بعد برهة من الزمن بوجود الصبغ الأحمر، وذلك عندما تلمس رأس ابن الجارة واكتشف الأمر، انفجر غضباً من هذه الكذبة "البيضاء"، وابتسمت المرأة، لكنه أنبها بغضب وصوت عال قائلاً:

"وراءك شبر وأربعة أصابع... كيف تكذبين"؟ وهي عبارة تقال لمن يكذب ولا يخاف الله. وكان يعرف الناس أنها كذبة بيضاء.

وانفجر بعدها الناس الذين تجمهروا عند الباب نتيجة الصياح ضحكاً، وبعد ذلك انصرف الجميع وكل ذهب في حاله.

ومن طرائف أبو حميد الأخرى أنه كان يعمل خارج نطاق زمن وظيفته في البريد ليكسب شيئاً من المال كي يعيل أسرته الكبيرة.

ومرة أراد أحد الجيران بناء مرافق صحية في منزله، وطلب من أبي حميد حفر حفرة عميقة، لكنه أراد كذلك أن يوقع أبا حميد في مقلب، لذا وقبل بدء الحفر، ادعى صاحب المنزل أن جده قبل وفاته أبلغ الاسرة أن منزله قد بني في منطقة أثرية، وذكر أن قادة أتراكاً كانوا في هذا المكان وغالباً ما كان يعثر أطفال الأسرة على أنتيكات ومقتنيات ثمينة مدفونة في الأرض، مضيفاً أن القادة الأتراك، لظرف ما، تركوا متعلقاتهم عندما رحلوا. وفي فترة الاستراحة، أخرج أبو حميد ساعة الجيب القديمة ليرى الوقت، وفي هذه الأثناء شاهده صاحب المنزل، وللمزاح صاح بأعلى صوته وبكل جدية: هذه هي الساعة التي قال عنها جدي! قفز أبو حميد منتفضاً مقسماً وحالفاً بكل المقدسات أنها ملكه، وقد اشتراها من بغداد، ولم يعثر على أي شيء في المكان. وبعد أن تغيرت قسمات وجه صاحب المنزل وبدت عليه علامات المزاح، انفجر الجميع ضاحكاً، وهدأ روع الرجل البسيط وتغيرت الأجواء إيجاباً.

البساطة والبراءة دائماً تستوطن البيئات الصحية الصالحة لمسيرة حياة جيل تحسده عليها الأجيال التالية التي خربتها السياسة وتبعاتها والتكنولوجيا وسوء استخداماتها وانتقال أو فرض العادات غير المناسبة للثقافات والأديان والنظر إلى الممارسات من وجهات نظر أخرى مما أدى إلى انقسام المجتمعات وإباحة المحرمات.

هكذا شهد محدثكم السبعيني العالم في صباه، عندما كان العالم بكراً لم تمسه المتغيرات المفروضة كسرعة الاستعاضة عن ساعي البريد.