شعرْت براحةٍ عجيبة في وضعيتي تلك. حين انحنيْت لالتقط لابني الصغير كرته العالقة أسفل السرير، سرَتْ في بدني رغبةٌ خفيّة بالبقاء على تلك الانحناءة. رُحت أجرّب الأمر مراراً وتكرارً، تارةً أسْقط علّاقة مفاتيحي وتارةً أُفْلِتُ الجوّال عمْداً ليقع كي أجثو خلفه فأشعر بأنّي ما خُلِقْت أصلاً إلّا بهذا التقويم.

حتى رقبتي استطالت أكثر من اللازم. لم أذقْ طعم الراحة وأنا أرزح تحت سقف السيارة الواطئ في الطريق إلى العمل. لم يهدأ رأسي طوال الرحلة وهو يطالب بالانعتاق من السقف حتى أطْلقْت سراحه من الفتحة العلوية. بدوْت كإحدى الشخصيات الكرتونية يومها: يداي تمسكان بالمقود داخل السيارة بينما رأسي في الخارج يتلفت يمنةً ويسرة من فتحة السقف، مما اسْتَقْطب أصابع المارة وقهقهاتهم طوال الطريق.

لامني المدير على القدوم المتأخر. وقفْت بوجه مكتبه أتلقّف التوبيخات المتتالية بصدرٍ عار. شاحتْ منّي نظرةٌ جانبية نحو النبتة المزروعة في حوضٍ موضوعٍ بركن المكتب. لم أعرف كيف مددْت رأسي بسرعةٍ خاطفة غارساً إياه في تراب الحوض المعْتم. سادَ الصمت بغتةً، عِشْت إحساس الجذور لفترةٍ من الوقت لم أتبيّن مدّتها، وحين أخْرجْت رأسي، كان الجميع قد غادر المكان: المدير، والموظفون، وحتى عمّال النظافة. لم يكنٍ من أحدٍ سواي في المبنى بأكمله.

في طريق العودة، لم أكن قد اعْتدْت على القيادة بهيئتي الجديدة بعد. لم تسعفني الرؤية بالشكل الكافي حين اصطدَمَتْ مقدّمة سيارتي بمؤخرة السيارة الأمامية التي ترجّل منها صاحبها تسبقه شتائمه الهاطلة نحوي بغزارة، قبل أن يتحالف معه شرطيّ المرور ملصقاً بي تهمة القيادة الرعناء. بيد أنني لم أسمع تتمة هجوم الرجليْن، فقد كان رأسي غائصاً في تربة الحديقة المجاورة لمكان الحادث. وحين انتزعْته بعد فترة، لم يكن في الشارع سواي أنا وسيارتي الجانية.

صار التراب منقذي وملجأي الأخير الذي أهرع إليه عند المشكلات. أطمر رأسي دون تردد حين تطالعني زوجتي بمعزوفتها اليومية عن النواقص والأقساط المتأخرة، أو حين يفاتحني مدرّسو أبنائي بمشاكلهم التحصيلية والسلوكية المتراكمة. غطسةٌ صغيرةٌ كانت تنهي أعتى المشكلات وأكثرها تشابهاً وتعقيداً.

في المرة الأخيرة، حين أغْمدْت رأسي داخل إحدى الأحواض هرباً من واحدةٍ من المشكلات الاعتيادية لم يكن التراب موحشاً كما العادة. لقد اسْتطَعت هذه المرة تمييز الكثير من الوجوه المألوفة التي زرعها أصحابها دأباً بي. جميعهم كانوا هناك معي بالأسفل، فبعد أن بعثرَتنا الحياة، عاد التراب ليجمعنا ببعضنا البعض، وقد وحّدنا شيءٌ واحد هذه المرة... النعامة.