هذا كتاب من أبي عبد الله، إمام الكشوفات والمعارف، المنصرف عن المذاهب والطرائق والطوائف، إلى طريقته "الفوهيمية"، فيصل ابن عبد الله الياسي ثم الهذلي، يبعثه إلى الناس كافة من وادي مراوة - أحد روافد وادي الضيقة الذي يصب في نعمان الأراك، بعد ثلاث ليال خلت من غرة محرم الحرام، وثلاثمئة عام هجري.

بسم الله الرحمن الرحيم.
رب يسر يا كريم.

أما أمرنا هذا – الفوهيمية – فلن ينهض بناؤه إلا بهذه التوطئة:
كنت في حضرة مولانا شمس الدين، إمام العارفين، صاحب المسالك العلية، وأمير التجليات البهية، فسمعته يقول: والإنسان في خلوته على مذاهب:
- فمنهم من ينقطع إلى الصمت، وهذا لا يعلو عن المادة وإنما يسير في فجاجها.
- ومنهم من ينقطع إلى التأمل، وهذا مازال يركض على أديم المادة، لكنه لا يرتفع عنها إلا بقدر ما تعلو به قدماه وتهبط حين ركضه.
- ثم إن منهم من ينقطع إلى الانتباه إلى هذا الوجود، وهذا -لعمري- قد وجد أول مسالك العروج!
- ومنهم من ينقطع إلى الإصغاء إلى الوجود، فهذا قد غادر المادة، وعرج بعيدا عبر الفراغ، لكن لم يتحد بالفراغ بعد.
- أما آخرهم، فهو الذي انتبه، ثم أصغى، ثم تحدث إلى الوجود، فحرر جسده من قيد المادة، وعرج إلى الفراغ، ثم امتزج به، ثم تشكل بشكله الذي لا شكل له! ثم أدلج في أبعاده ولا أبعاد له! ثم لامس أوتاره، فجذبها إليه، وجذبته إليها، ثم ظل على حاله ذلك حتى اضطرب الوتر، فكان النغم، وأينع الغناء، ثم قفل عائدا إلى المادة، وهو يترنم ويغني!
ثم إني سألت مولاي الحجة - قدس سره - عن أمر ذلك الفراغ، فانصرف عني شهرا، وهو منقطع إلى خلوته أسفل سدرة، وحين عدت إليه، رمي إلي بصرّة، وقد وجدت فيها ثقلا حين التقطتها، ثم قفلت عائدا، ولم تمتد يدي إليها ... ثم إني أنخت راحلتي في البيداء بعد أن طويت نصفها ليلا، ثم توسدت تلك الصرّة، فرأيت في منامي شيخي، وهو يعرج بعيداً عن الأرض، فتبعته حتى غادرنا الأديم كله، ثم ولجنا فراغا لا لون له، ثم سرنا ثلاث ليال أو دونها، حتى رأيت بريقا عظيما، ثم امتد البريق فأصبح أوتارا أعظم، ثم تخالط، ثم اشتبك، ثم نسج نفسه على نفسه ... وحين بلغته، التفت خلفي فلم أجد أثرا لشيخي، فظللت قائما ليال لا أحصيها، حتى مددت يدي نحو وتر منها، فجذبته وجذبني، فعاركته وعاركني حتى كدت أن أنصرف عنه، إلا أني سمعت نداء: كن وترا، كن وترا، كن وترا!
فأقبلت على ذلك الوتر، ثم فتحت ذراعي، فانغمست فيه حتى كان هو أنا، وأنا هو! ثم إني رأيت شيخي قادما نحوي، فوقف عندي، ثم مد يده نحوي، فظل يفك لفائف الصرة ويعلقها عليّ حتى بلغه آخرها فكانت خضراء، فعلقها ثم مضى!

المبحث الأول: البحث عن المعنى (بين الأسطورة والفلسفة)
ثم أما بعد، فإني قد تأمل حال الإنسان في ركضه القديم الأبدي عن "المعنى" فوجدته أنه قد اتجه نحو الأسطورة كي يقف على أرض صلبة...!
ثم كانت نزعته النزقة باتجاه الفلسفة، لا ليجعل تلك الأرض مروجا، بل ليحكرها!
ولكم أن تتأملوا تجهيل أفلاطون لغيره، وسخريته اللاذعة، وأوهامه المنمقة، حتى عرج (بتلك الأرض) إلى عالم "المُثل"!
لذا، فإن تقديس الفلسفة هو تقديس لحكر "وشرعنته" فكريا، وإلا فلا علو لكعب الفيلسوف على غيره، إلا بإقصائه!
ثم انظروا إلى ضياع نيتشه حين أبحر في محيطات الأخلاق، والحكم عليها من زاوية حادة بائسة، حتى صارت عنده دستورا للضعفاء!
أي أن الفلسفة، منذ نشأتها، كانت محاولة "شبقة"، لا إشباع فيها مهما ابتلعت من أمامها، وستظل ركضا نزقا شبقا، يقتات على الأوهام، ويحكر الواسع، ويُجهّل، ويُسفّه!
ولن أتحدث عن العدمية، والعبثية، واليأس، والبؤس... إلى آخر تلك الثقوب السوداء التي تلتهم الإنسان، فيصبح: خاويا، عاجزا، مهزوما، ضعيفا، هشا، بلا معنى!
ثم إني سأستعير من المعجم الصوفي تلك المفردات السحرية التي تبني علاقتها مع الميتافيزيقي، لتجعل الطريق مزدانا بالرياحين، والسكب، والهيل (...إلخ)، ومنارا بأعمدة الأقطاب، والأولياء، والصالحين (...إلخ).
ثم سأشق بها طريقا مشابها، مع وقع إيقاعات الدفوف، وتلك الهمهمات الآسرة، يستبقني درويش يحاكي دوران كوكب... حتى أصل إلى بقعة يسار الطريق؛ حيث أجد ذلك "البوهيمي" حائرا، فيشير إلي بالتوقف، ثم يخرج من جيب صدره مفتاحا استعاره (من أحد ما)، محاولا اختراع عجلة عصرية بأدوات ما بعد الثورة الفرنسية!
ثم إني سأنظر في أمره، فيشير إلى السماء، ثم إلى الجبال، ثم إلى أذنيه!
لقد طرب للدفوف، فهمهم وتمايل، ثم سار معي، حتى انعطفت يمينًا...
أما هو، فآخر عهدي به أنه انعطف يسارًا، وما زال يلوح (بمفتاحه) إلى الوجود!
ثم أما بعد: أما وقد وصلتم إلى هنا؛ فحللتم أهلا ووطئتم سهلا في رياض "الفوهيمية"!
أما مبحثنا الثاني، فسيكون في العقل: أمره، وبنائه، وشكله، وأحكامه. ثم سننقطع طويلا لتأمل أحوال تلك الأحكام: كالأخلاق، والجمال، والعرف، والفنون.