أيّ نموذج تنموي في دول الخليج ؟


عامر ذياب التميمي


تواجه بلدان الخليج تحديات مهمّة في تطوير بنيتها الاقتصادية. وإذا كانت حكومات هذه الدول راهنت على أسعار النفط وارتفاعاتها، ومن ثمّ تحسن إيراداتها، فإنّ هذه الأسعار أخذت تتجه أخيراً جنوباً وتنخفض بمعدلات مهمة، وصلت الى 22 في المئة عن المستوى القياسي في 14 تموز (يوليو) الماضي عندما بلغ سعر النفط الخفيف (غرب تكساس) 78.4دولار للبرميل.

وإذا كان النفط مهماً، وسيظل كذلك لأمد طويل بالنسبة الى اقتصادات بلدان الخليج، فمهم ايضاً التأمل في شأن النموذج التنموي الملائم لأي من هذه البلدان، وكيفية التوفيق بين مشاريع التنمية في دول الخليج والتقريب بين أهدافها. وكما هو معلوم فإنّ النموذج الذي اعتمد منذ بداية عصر النفط، كان نموذج دولة الرعاية والرفاه، بحيث تلعب الدولة دوراً مهماً وأساسياً في الحياة الاقتصادية، وتضطلع بمسؤوليات مركزية في مختلف قطاعات الخدمات والمرافق المختلفة، ناهيك عن هيمنتها على القطاع الحيوي وهو قطاع النفط. وسارت السعودية والكويت والإمارات على هذه الطريق ولو بمسارات مختلفة، لكن التطورات خلال العقد الأخير أظهرت أنّ هناك تفاوتاً ملحوظاً في أساليب الإدارة الاقتصادية في عدد من دول الخليج.

ولكي تتضح الأمور أكثر، فإنّ مسار دولة الإمارات في السنوات التي أعقبت الاستقلال في ستينات القرن الماضي، أكد الاهتمام باستقدام اليد العاملة من الخارج لبلد يشكو من قلة المواطنين، بحيث باتت نسبة هؤلاء في الوقت الراهن لا تتجاوز 15 في المئة من إجمالي السكان. وعندما يراقب المختصون التطور العمراني والاقتصادي في دبي وغيرها من الإمارات، فإنهم يتساءلون عن مدى الحاجة الى هذا الكم الهائل من المساكن والمكاتب والمتاجر لمدن وبلد محدود السكان.

لكن الأداء الاقتصادي يؤكد أنّ الأوضاع تسير في شكل مناسب للمستثمرين وللدولة، وتزداد مداخيل القطاعات غير النفطية بما يحسن أداء الشركات والمؤسسات الاقتصادية ويعزز قدراتها على الاستثمار في قطاعاتها في بلدان عربية وغيرها. كما أنّ نموذج الإمارات، ودبي تحديداً، يوفر مؤونة للانتقاد للأوضاع السائدة في بلدان خليجية أخرى مثل الكويت، حيث يطالب رجال الأعمال بزيادة الانفتاح وتعزيز مرونة اتخاذ القرار من جانب السلطات الاقتصادية المختصة. بطبيعة الحال يشير المسؤولون في الكويت إلى أنّ دبي أو الإمارات عموماً، لا تعاني من وجود سلطة تشريعية تضع القيود على عمليات التخصيص والانفتاح.

ويلفت هؤلاء إلى أنّ وجود رقابة مجلس الأمّة والعقلية السياسية الحاكمة في أوساط السلطة التشريعية، أثرت كثيراً في عمليات القرار الاقتصادي، وعطلت إمكانات الانفتاح في القطاع، ونزعت عن الكويت صفتها التي كانت قائمة قبل عقود والمتمثلة بالنموذج الاقتصادي المتقدم في الخليج العربي. وقد نتهم بالتبسيط إذا نظرنا الى عملية التنمية الاقتصادية على هذا الأساس، إذ يجب ألاّ تتناقض الديموقراطية والرقابة الشعبية مع عملية التطوير الاقتصادي. كما على السلطة السياسية أن تلعب دوراً قيادياً قوياً في رسم المنهج التنموي المناسب للمستجدات الاقتصادية المعاصرة ودفع برامج التخصيص والإصلاح من دون تردد، وكذلك بذل كل جهد لإقناع السياسيين بأهمية عمليات الإصلاح ومن ثم إنجازها.

لكن كيف يمكن أن نحقق النموذج التنموي المناسب في منطقة الخليج؟ هناك ضرورة لتحديد المتطلبات الديموغرافية وعدم التعامل مع هذا الأمر بخفة وعدم مسؤولية، إذ حصل التطور السكاني في هذه المنطقة من العالم من دون تخطيط وعلى أسس عشوائية، ومن دون قيود تذكر.

وأصبحت مجتمعات الخليج أكثر تميزاً في عدم المسؤولية في هذا الشأن، حيث تتزايد أعداد الوافدين، خصوصاً من اليد العاملة الهامشية، من دون أي خطط أو برامج. كما تتزايد أعداد المواطنين من دون مراعاة للأعباء الاجتماعية الناتجة عن هذه الزيادة. يضاف إلى ذلك تكاليف الرعاية الاجتماعية التي باتت باهظة وتمثل عبئاً ثقيلاً على الخزينة العامّة، وأصبحت في الوقت نفسه من عوامل تعطيل عملية الإصلاح الاقتصادي. ويمكن لدول الخليج ان تعالج هذا المأزق السكاني بحيث تزيد اعتمادها على المواطنين في قوّة العمل وتقلص الحاجة لليد العاملة الهامشية التي تشكل غالبية العمال الوافدين؟

من المهم أيضاً، تطوير دور القطاع الخاص وتعزيز الجانب التنموي فيه، والذي يمكن أن يخفف مسؤوليات الدولة في الحياة الاقتصادية. وإذا كان هناك من يتحفظ ولأسباب وجيهة، عن إمكانات القطاع الخاص الوطني وقدراته، فالمطلوب تعزيز الانفتاح الاقتصادي وتطوير الجاذبية للاستثمار الأجنبي، بما يمكن من خلق شراكات في القطاعات الحيوية، مثل الكهرباء والطاقة والمياه والخدمات الصحية والتعليمية والاتصالات، ويزيد تدفق رؤوس الأموال ويعزز تشغيل اليد العاملة الوطنية المؤهلة في هذه القطاعات.

من جانب آخر، يجب على حكومات بلدان الخليج أن تعمل على تعزيز مفاهيم سيادة القانون وعدم تجاوز حقوق الدولة والمواطنين، بما يزيد ثقة المجتمعات في الإدارات الحكومية ويمنح عمليات الإصلاح الهادفة الى التخصيص قبولاً فيها.

مهما يكن من أمر فإنّ مسؤولية الحكومات في العملية التنموية تتطلب عناية الجهات المختصة بمختلف القضايا المثارة أعلاه، وتفعيل التفكير والتمعن لرسم النموذج التنموي الملائم لهذه البلدان وصوغه.