ما يحدث في قطر ليس مجرد طفرة بل تحول شامل لبناء المستقبل وإقامة اقتصاد المعرفة
السلطات لن تسمح بتقلبات حادّة والتضخم ضريبة النموّ الكبير
الانفتاح الاقتصادي أعطى قطر موقعا متميزا وسمعة محترمة وسط المؤسسات الاقتصادية
القوانين والامتيازات أسهمت في جذب الاستثمارات الأجنبية والناتج الإجمالي يرتفع إلى 65 مليار دولار
التذبذبات تحدث في كل الأسواق المالية وهي ناجمة عن المضاربات وليست انعكاسا للعوامل الاقتصادية الجوهرية
سلطات الرقابة على المصارف في قطر والخليج تتميز بالوعي والكفاءة والقدرة على مواجهة المخاطر
مركز قطر للمال لعب دورا ناجحا في فتح أبواب الاقتصاد القطري أمام أكبر المؤسسات الدولية
عبد الله محمد أحمد : ازدهار اقتصادي قوي حققته دولة قطر وضعها في مقدمة الدول الاسرع نموا في العالم، وتتمتع قطر اليوم بفائض مالي وتصنيف ائتمان سيادي +A ثابت منذ سنوات حيث تهدف الاستراتيجية التي تبنتها دولة قطر الى بناء اقتصاد ديناميكي تسود فيه ارقي المعايير التي تتسم بها انجح الاقتصاديات في العالم .. من اقتصاد حر مفتوح وحرية كاملة في التملك وتحويل الاموال والارباح ومنح افضل الامتيازات في مجالات الاستثمارات الاجنبية.. وتكمن القوة الحقيقية للدولة في القيادة الحكيمة لحضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد المفدى وتوجيهه بالاستغلال الامثل لموارد البلاد الاقتصادية والطبيعية. وترصد قطر اليوم اكثر من 130 مليار دولار لتطوير موارد الطاقة والاستثمارات المختلفة في مجالات الصحة والتعليم ومراكز البحوث وتطوير البنية التحتية والخدمية .. وبحلول سنة 2010 سوف تكون قطر احد اكبر مصدري الغاز الطبيعي المسال لدول العالم مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وسوف يقفز الانتاج الى 23 مليار قدم مكعب سنويا .. الاستثمارات الضخمة التي أنفقتها دولة قطر كان لها اكبر الاثر في النمو الاقتصادي الهائل الذي تشهده البلاد حاليا حيث تضاعف الناتج الاجمالي للدولة بفضل اسهامات قطاع النفط والغاز من 62 مليار ريال في عام 2001 الى 232 مليار ريال في عام 2007 والانجازات الضخمة التي حققتها قطر في مختلف مجالات التنمية جاءت نتيجة للسياسات الحكيمة لسمو أمير البلاد المفدى وتوجيهاته في الاستغلال الامثل لثروات البلاد ومواردها الطبيعية هذا فضلا عما قامت به الدولة من متطلبات جذب الاستثمار الاجنبي باصدار التشريعات والانظمة والقوانين والتدابير لحماية رؤوس الاموال الاجنبية والاهتمام بالانسان والكوادر البشرية باعتبار التنمية البشرية هي غاية التنمية وأداتها في تحقيق النهضة والنمو، حيث يشير الخبراء الى ان تسارع عجلة النمو الاقتصادي ارتقي بقطر لتتصدر اعلى دول العالم من ناحية دخل الفرد ليبلغ مستوى قياسيا وصل الى 57.3 الف دولار سنويا في حين يتوقع المحللون والخبراء مزيدا من النمو للاعوام القادمة، وبسبب التطور المتسارع للاقتصاد القطري، تشهد البلاد اليوم طفرة كبيرة في مختلف القطاعات وعلى كل المستويات، حيث تعتبر قطر حاليا واحدة من أغنى دول العالم، وبالرغم من أن الاقتصاد القطري يعتمد بنسبة كبيرة جدا على قطاع النفط والغاز، فإن التخطيط الاستراتيجي للدولة ساهم ومنذ عدة سنوات في تنويع مصادر الدخل حتى لا يستمر اعتماد الدولة في إيراداتها على النفط والغاز فقط، فارتفعت نتيجة لذلك مساهمة القطاعات الاقتصادية الأخرى غير النفطية في دخل البلاد، الأمر الذي أدى بالتالي الى خلق الآلاف من الفرص الاستثنائية للتنمية في شتى المجالات. ومما ساعد في تحفيز جاذبية الاقتصاد القطري لرؤوس الأموال الأجنبية واحتلاله هذه المكانة المتقدمة، مجموعة القوانين والتشريعات الاستثمارية التي تم سنها قبل عدة سنوات والتي تتسم بالشفافية والتيسير على المستثمرين، الأمر الذي يدعم بشكل كبير معدلات النمو حيث بات الاقتصاد القطري واحدا من أسرع اقتصادات العالم نموا، وذلك نظرا لما يتميز به من حوافز وامتيازات تجذب المستثمرين الأجانب ورؤوس الأموال الخارجية، إضافة الى شفافية وسهولة الإجراءات التي من شأنها تعزيز أداء مختلف القطاعات والنشاطات التي يتألف منها الاقتصاد سواء الاستثمارية أو الصناعية أو التجارية أو الخدماتية...
ولالقاء مزيد من الاضواء الكاشفة حول مستقبل الاقتصاد القطري التقت quot;الشرقquot; بالخبير الاقتصادي اللبناني الدكتور غسان العيّاش المقيم في الدوحة وهو عضو مجلس إدارة بنك عودة قطر ومستشار مجموعة عودة منذ خمس عشرة سنة، وقد شغل قبل ذلك منصب نائب محافظ مصرف لبنان المركزي وله العديد من المؤلفات والأبحاث المنشورة. حاورته الشرق حول الاقتصاد القطري فقال إن ما يجري في قطر ليس مجرد طفرة اقتصادية عابرة بل هو بناء للمستقبل بكل أبعاد الكلمة. وتوقع د. العيـاش عدم حدوث تغييرات دراماتيكية في علاقة الريال القطري بالدولار لأن السلطات المختصة في قطر لن تسمح بتقلبات حادّة في سوق القطع حرصا منها على الاستقرار النقدي. وفيما يلي نصّ الحوار:
* ما قراءتك لواقع الاقتصاد القطري؟ وكيف تنظر إلى التحوّل الذي تشهده البلاد تحت قيادة سموّ الأمير المفدّى؟
- ما تحققه قطر في المرحلة الراهنة من تاريخها أبعد وأعمق من مجرد نجاح اقتصادي، إنه بناء للمستقبل بكل أبعاده. بتعبير آخر، فإن التقدّم الكبير الذي تشهده قطر ليس طفرة اقتصادية عابرة تستفيد البلاد مرحليا من نتائجها، إنما هو تحوّل تاريخي في دور قطر وموقعها واقتصادها. إن قطر لا تعتمد في عهد سموّ الأمير حمد بن خليفة آل ثاني على القفزات الكبيرة الراهنة في أسعار الطاقة لتحقيق العمران وحسب، بل هي تطوّر كل شروط الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هناك ورشة جارية في قطر تتجاوز بأهمّيتها ورشة العمران، إنها عملية بناء الإنسان وتعميم الثقافة وانفتاح العقل على الأفكار الجديدة وما هو مفيد في كل الحضارات مع الحفاظ على القيم الأصيلة للمجتمع القطري. وقد أعطى هذا التطور دولة قطر موقعا مميزا وسمعة محترمة ليس لدى المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة وحدها، بل على جميع المستويات الدولية.
* ما العناصر التي تجذب الاستثمارات إلى قطر؟
- في البداية هناك أساس اقتصادي يشجع الاستثمارات على التوافد إلى قطر كما أن السياسات المتبعة تشجع بدورها على ذلك. بالنسبة للأساس الاقتصادي، فارتفاع أسعار الطاقة وما رافقه وتزامن معه من أداء اقتصادي مميّز أدّى إلى تحقيق معدّلات نموّ مرتفعة. على سبيل المثال حققت قطر في الأشهر الأخيرة من السنة الماضية معدّل نموّ بلغ 13% بالأسعار الثابتة وهذا من أعلى معدّلات النموّ في العالم. وبلغ الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الثالث من العام حوالي 14.8 مليار دولار أمريكي، ويقدّر الناتج المحلي بنهاية السنة بحوالي 65 مليار دولار، بالتالي فإن حصّة الفرد من الناتج هي أيضا ذات مستوى قياسي وتاريخي. وقد رافق ذلك فوائض كبيرة في الحساب الجاري وميزان المدفوعات. فصندوق النقد الدولي قدّر فائض الحساب الجاري القطري العام الماضي بنسبة 33% من الناتج رغم ارتفاع قيمة المستوردات بنسبة 30% تلبية لحاجة المشاريع والاستثمارات. ولا ننسى فائض الموازنة الناجم عن ارتفاع الواردات النفطية، فواردات قطر بلغت بنهاية سنة 2007 حوالي 105 مليارات دولار بزيادة قدرها 22% مقارنة بواردات السنة التي سبقتها، ويعود ذلك إلى ارتفاع إيرادات النفط والغاز نحو 28%. ومن البديهي أن ارتفاع الواردات هو القاعدة التي تستند إليها الدولة لتوسيع الاستثمارات العامّة مما يحفز القطاع الخاص المحلي والخارجي على توسيع استثماراته ويدفع النموّ الاقتصادي قدما، وقد ظهر ذلك جليا من خلال أداء السوق المالية.
* ولكن السوق المالية تخضع للتذبذب صعودا وهبوطا، في بعض الأحيان تسجل هبوطا كبيرا ومفاجئا في قطر وسواها وتتسبب بخسائر فادحة، فهل يمكن اعتبارها فعلا مؤشرا على نجاح الاقتصاد القطري؟
- لا يجب الاعتماد على العوامل الطارئة والمؤقتة لقياس نجاح السوق المالية في بلد من البلدان. التذبذبات تحصل في سوق الدوحة وفي كل الأسواق المالية في العالم، وهي ناجمة عن المضاربات وتوقعات المتعاملين في السوق أكثر مما هي انعكاس للعوامل الاقتصادية الجوهرية ومعيار لنجاح السوق نفسها. ولكن حقيقة السوق تظهر بالنتيجة عند قياس أوضاع السوق خلال فترة زمنية كافية. عندما يكون هناك نموّ اقتصادي متواصل في بلد مستقر مثل قطر سيكون هناك إقبال على السوق المالية وأدواتها وستكون النتيجة في النهاية إيجابية وإن حصلت خضات في بعض الأحيان. وإذا اطلعنا على المسار العام لسوق الدوحة للأسواق المالية نجدها ذات أداء ممتاز. خلال سنة 2007 وبصرف النظر عن التطورات اليومية والطارئة ارتفع مؤشر صندوق النقد العربي لسوق الدوحة بنسبة 30% وقد ارتفع بنسبة 15.3% خلال الفصل الأخير من السنة وحده. القيمة السوقية للأسهم المدرجة ارتفعت بنسبة 57% وباتت تشكل 7% من إجمالي القيمة السوقية لمجمل البورصات العربية، ومتوسط التداول اليومي أصبح بحدود 120 مليون دولار. لا أستطيع أن أصف هذه النتائج إلا بكونها ممتازة وهي تعكس الأداء المميز للاقتصاد القطري.
* ولكن الأداء الممتاز للاقتصاد القطري لم يمنع وجود معوقات أبرزها التضخم.. كيف تقيّمون هذه المشكلة وكيف يمكن الخروج منها؟
- في حالة اقتصاد يحقق معدّلات نموّ كبيرة وتاريخية لا يمكن تلافي التضخم أو كبحه بسهولة. أعتقد أن التضخم في قطر والخليج عموما هو شرّ لا بدّ من احتماله. إنه نتيجة طبيعية للتدفقات المالية الكبيرة الناجمة عن ارتفاع أسعار الطاقة، إضافة إلى عوامل أخرى. يمكن للسلطات أن تسعى إلى تخفيف المشكلة وهي قامت بإجراءات في هذا المجال ولكن لا يمكن توقع منع هذه المشكلة. التضخم في قطر والخليج هو الوجه الآخر للطفرة الاقتصادية، ولا يمكن إلغاؤه إلا بإلغاء الطفرة نفسها.إنه النتيجة الطبيعية لارتفاع إيرادات الدولة بسبب ارتفاع أسعار النفط. قسم من العائدات الكبيرة تحوله الحكومة إلى مشاريع استثمارية، مما يوسع الكتلة النقدية ويخلق فرصا أكثر لنشاط القطاع الخاص. وفي هذه الظروف من الطبيعي أن يزداد التسليف المصرفي وهو مصدر لخلق النقد، بالتالي لزيادة الودائع والتسليفات. في قطر كان نمو الكتلة النقدية لا يزيد على 9% بين 2001 و2003، فارتفع إلى 40% في فترة 2005 و2006. من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى زيادة التسليف المصرفي.
* وهل هناك أسباب أخرى؟
- بالطبع .. الطلب المتزايد على العقارات نتيجة إقبال غير القطريين على البلاد للاستفادة من فرص العمل ومجالات الاستثمار يؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار العقارات وهذا مصدر رئيسي للتضخم. إن العمران المتزايد في قطر لم يصل بعد إلى إشباع الطلب على المساكن والمكاتب. وهناك عامل آخر مهم وهو ارتباط الريال القطري بالدولار الذي يتهاوى أمام العملات الأخرى لا سيما اليورو والين، وهذا يؤدي إلى ارتفاع أسعار البضائع المستوردة في بلد تتزايد حاجته للاستيراد تلبية لمتطلبات الإعمار والمشاريع المتزايدة.
* هل تتوقع نتيجة ذلك فك الارتباط بين الريال والدولار الأمريكي؟
- هذا أمّر تقرره السلطات في الوقت المناسب والشروط المناسبة. من غير المستغرب أن تفكر قطر ودول الخليج بهذا الخيار يوما ما لأن ارتباط العملات الخليجية بالدولار وإن كان يحقق الاستقرار النقدي ويشكل رابطا بين النظم النقدية الخليجية فهو من نواح أخرى يشكل عبئا على اقتصاديات الخليج. فانخفاض سعر الدولار تجاه اليورو يزيد عبء الصادرات ويساهم في التضخم المتأجج أصلا، كما أنه يكبل السياسات النقدية من خلال موجبات مفروضة على معدلات الفوائد، بما يحدّ من قدرة المصارف المركزية على كبح التضخم. مع ذلك، فإن تصريحات المسؤولين في مصرف قطر المركزي تشير إلى أن قطر ما زالت حتى الآن تفضل ارتباط الريال بالدولار باعتبار أن هذا الارتباط شكل قاعدة الاستقرار النقدي في قطر والخليج خلال المرحلة الطويلة الماضية، وارتباط العملة القطرية بالدولار مستمر على الأرجح في المرحلة التي تسبق ولادة النقد الخليجي الواحد.
* ولكن المتعاملين في السوق بنوا قراراتهم في الفترة الأخيرة على أساس أن الريال القطري مرشح للارتفاع؟
- يمكن أن يكون حدسهم مصيبا أو خاطئا. ولكني ألاحظ أن هناك توقعات وتحليلات غير ناضجة لدى بعض المتعاملين في السوق. هناك تصورات مثلا أن قطر سترفع سعر الريال بطريقة دراماتيكية وأن ذلك سيتم بين ليلة وضحاها. الواقع أن الحكومة ومصرف قطر المركزي يتعاملان بطريقة ناضجة في هذا الموضوع ولا يبدو لي أنهما بصدد إحداث انقلاب دراماتيكي في سوق القطع حتى لو اتخذ القرار بفك الارتباط مع الدولار. فهما يعرفان كل المعرفة أن واجب السلطات المالية والنقدية هو تلافي التقلبات الحادّة في سوق القطع ومنع إفلات الساحة للمضاربات. تجربتنا النقدية الطويلة في لبنان علمتنا أنه عندما تصبح السوق النقدية مجالا لأرباح المضاربين معنى ذلك أن الاقتصاد الوطني هو الذي يخسر ويخسر معه ذوو الدخل المحدود وفئات كثيرة في المجتمع. كما أن قطر تأخذ بعين الاعتبار متطلبات التنسيق في المجال النقدي مع دول الخليج في مرحلة التحضير لقيام الاتحاد النقدي في موعده المقرر. نتيجة لذلك أظن أن إعادة تقييم الريال القطري إذا حصلت، وهذا مستبعد حاليا، فستتم بطريقة سلسة ومتدرجة وضمن هوامش مضبوطة حرصا على استقرار سوق القطع ولمنع إلحاق الضرر بالاقتصاد. الاستقرار النقدي كان السمة التي طبعت السوق النقدي في قطر والخليج منذ الثمانينيات، ولن تفرط قطر بهذا الاستقرار. هذا تقديري الشخصي على كل حال.
* أين النظام المصرفي القطري في هذه الطفرة؟
- النظام المصرفي القطري استفاد بالطبع من الطفرة. التدفقات الخارجية الناجمة عن ارتفاع العائدات النفطية والاستثمارات الخارجية الوافدة انعكست ارتفاعا في حجم ودائع القطاع المصرفي، فازدادت التسليفات المصرفية للقطاع الخاص، وزيادة التسليف المصرفي تؤدي إلى توسيع الكتلة النقدية، أي إلى زيادة الودائع، وتستمر الحلقة التصاعدية في ظروف الانتعاش الاقتصادي الذي تشهده البلاد. هذا الواقع يزيد من ربحية المصارف ويحسّن كل مؤشراتها. إن أداء القطاع المصرفي القطري هو أداء مميز، حيث ان نسبة كفاية رأس المال تبلغ 15% وهو ضعف المعدّل المعتمد عالميا تقريبا، واعتمدت في قطر قواعد بازل2. لقد انخفض معدل التسليفات الضعيفة منذ سنة 2002 انخفاضا كبيرا وزادت نسبة الأرباح الصافية إلى حقوق المساهمين. نعم كل المؤشرات المصرفية تحسنت في قطر في السنوات الخمس الماضية.
* هل معنى ذلك أن المصارف القطرية والمصارف الخليجية عموما هي بمنأى عن المخاطر؟
- سلطات الرقابة على المصارف في قطر ودول الخليج تتميز بالوعي والكفاءة والقدرة على القيام بمهامها بشكل جيد وفقا لأحدث المعايير العالمية. لقد قرأت هذا التقييم في تقارير دولية عن النظم المصرفية الخليجية. ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أن السنوات الأخيرة شهدت ظاهرتين رئيسيتين ساهمتا في تطوير النظام المصرفي في الخليج، ولكنهما وضعتاه أيضا أمام تحديات لا يجب التقليل من أهميتها. الظاهرتان هما الطفرة الاقتصادية والإصلاحات الهيكلية. ومن أبرز التطورات الملحوظة تخفيض تسليفات المصارف الخليجية للقطاع العام وزيادة تسليفاتها للقطاع الخاص. ورغم ان هذا التحول هو لمصلحة الاقتصاد الخليجي، فإن إقراض الدول أقل مخاطرة من تسليف الأفراد والشركات. ففي قطر مثلا انخفضت حصة الحكومة في موجودات المصارف إلى أقل من النصف في ثلاث سنوات فقط. السبب الرئيسي لهذا التحوّل هو تناقص حاجة الحكومات الخليجية للاقتراض من المصارف بفعل ازدياد العائدات النفطية. وبفعل تحول نسبة كبيرة من التسليفات إلى القروض الشخصية فقد ارتفعت قيمة التسليفات الموجهة بصورة خاصة للقطاع العقاري والسوق المالية، باعتبارهما أكثر القطاعات انتعاشا وإغراء للناس. ولكن خضوع هذين القطاعين للجمود أحيانا وللصعود والهبوط في احيان أخرى يلقي على المصارف مسؤولية الحيطة والحذر في منح التسليفات ويضع على كتف سلطات الرقابة واجبات إضافية. اختصارا أقول ان تحوّل نسبة كبيرة من التسليفات إلى القطاع الخاص، لا سيما الإقراض الشخصي، على حساب التوظيف في أدوات الدين العام هو تحوّل طبيعي وصحّي، فالدور الرئيسي للوساطة المصرفية هو تمويل القطاع الخاص، إلا أن هذا التحول يخلق تحديات لا بدّ من مواجهتها بالإدارة المصرفية السليمة والرقابة العامّة الكفؤة.
* ما دمنا نتحدث عن النظام المصرفي في الخليج هل يمكن الإشارة إلى أهمّ التحديات التي تواجهه، إضافة طبعا إلى إدارة التسليفات التي أشرت إليها؟
- في هذا الحيز لا نستطيع أن نفصّل كل التحدّيات، ولكن يمكن الإشارة إلى أبرزها بالطبع. المصارف الخليجية تواجه تحدي المنافسة الخارجية، مع سياسة الانفتاح المتزايدة التي تتبعها بلدان الخليج، وهو اتجاه لا يمكن منعه. وهناك نوع آخر من المنافسة قد يأتي في حال خلق السوق الخليجية الموحدة وتحرير الخدمات بين دول الخليج وهو فتح حدود جميع بلدان الخليج أمام المصارف الخليجية الأخرى. فالمصارف المحمية ضمن الحدود الوطنية ومكتفية برساميل وقدرات محدودة ستجد نفسها معرّضة للمنافسة من مصارف خليجية كبيرة. قد يكون هذا دافعا لحركة دمج لا غنى عنها، وهي مفيدة على أكثر من صعيد. فهي تؤدي إلى وفورات في الكلفة كما أنها تزيد قدرة المصارف الخليجية على المنافسة ليس في الإطار الإقليمي وحده بل في المدى العالمي. كما أن الدمج يمكـّـن الصناعة المصرفية الخليجية من المساهمة بشكل أكبر في تمويل المشروعات العملاقة في المنطقة المتروكة حاليا للمصارف الدولية أو للسوق المالية.
* بالعودة إلى قطر ونظامها المصرفي، كيف تنظر إلى دور مركز قطر للمال؟
- لعب مركز قطر للمال دورا مهما وناجحا في فتح أبواب الاقتصاد القطري أمام أكبر المؤسسات الدولية. في ذروة انطلاقة الفورة الاقتصادية في قطر كانت هناك حاجة إلى خطوات سريعة ومدروسة في آن لإدخال مؤسسات كبيرة تساعد في تأمين التمويل للنهضة الاقتصادية وتستقدم خبرات وتقنيات جديدة تحتاجها قطر لتواكب تقدّمها السريع. إن مركز قطر للمال هو قناة استثنائية لمرحلة استثنائية وقد أدّى دوره بنجاح. المطلوب الآن هو توحيد النظام المالي والمصرفي لأنه لا يمكن وجود نظامين في بلد واحد، كما أن الرقابة على النشاط المصرفي والتحكم بالكتلة النقدية يفترضان أن تكون كل المؤسّسات المصرفية ضمن نظام واحد. صندوق النقد الدولي طالب في هذا الإطار بإدراج ميزانيات مؤسسات المركز ضمن الإحصائيات النقدية والمصرفية. ما يطمئن هو جدية جهود الدولة لتوحيد الرقابة على النشاط المصرفي الذي قد يبصر النور في مدى أشهر قليلة.
* أنت اقتصادي ومصرفي لبناني مقيم في قطر. ما هي بنظرك آفاق التعاون الاقتصادي بين لبنان وقطر؟
- التعاون بين لبنان وقطر لا يحتاج إلى نصائحي. إنه تعاون قائم ومتطوّر ومتجذر منذ عقود. بعيدا عن أية مجاملة لا أشعر بوجود علاقات بين دولتين قائمة على نوع من العاطفة المتبادلة مثل العلاقات بين هذين البلدين الشقيقين. معظم القطريين الذين التقيتهم كل واحد منهم عنده بيتان، بيت في قطر وبيت في لبنان. اهتمام قطر وأبنائها بلبنان وقضاياه لا يوصف، القطريون حريصون على لبنان حرصهم على وطنهم نفسه. وعندما ضاقت الدنيا في لبنان أخيرا، بسبب الأزمة السياسية وانعكاساتها الاقتصادية، أقبل اللبنانيون على قطر كأنها وطنهم الثاني. جاؤوا بالآلاف إلى الدوحة بخبرات متنوعة ومتعددة وبإمكانيات متباينة. وأشهد لسموّ الأمير حمد بن خليفة آل ثاني أنه يحرص على معاملة اللبنانيين معاملة مميزة، وبكل احترام. لسموّه مآثر كثيرة في السنتين الأخيرتين تضاف إلى مآثره الكثيرة، فعندما تعرّض لبنان لعدوان صيف 2006 فتح سموّه حدود قطر للبنانيين المهجرين من أرضهم، وما ان انتهت الحرب حتى كان سموّه أوّل من زار بيروت ومناطقها المدمّرة وأوّل من مدّ يد العون بسخاء للمباشرة بإعمار ما دمّرته اسرائيل.
أردت أن أشير إلى الموضوع بهذه المقاربة المنطلقة من شعور عميق تعبيرا عما يكنه لبنان بأسره تجاه قطر وأميرها. أما التنظير الاقتصادي حول العلاقات القطرية اللبنانية فيصبح في هذا الجوّ الأخوي الصادق اقلّ أهمّية.
د. غسـان العيّــاش في سطور:
حائز على شهــــادة الدكتـوراة في القانــون العــام (مالية عامّــة) من جامعــة Paris X Nanterre في فرنسا، وحائز على شهادة الدراسات العالية في العلوم السياسية من الجامعة اللبنانية، خريج المعهد الوطني للإدارة والإنماء ndash; مجلس الخدمة المدنية في لبنان - أتمّ دورة دراسية حول عمليات المصارف التجارية في Manchester Business School، بجامعة مانشستر في بريطانيا، اما تجاربه المهنية فهي ثرة؛ فالدكتور عياش عضو مجلس إدارة بنك عودة قطر ومستشار مجموعة عودة منذ سنة 1993 وحتى الآن، نائب محافظ مصرف لبنان بين عامي 1990 و1993، مدير في بنك بيروت والبلاد العربية بين 1982 و1990، رئيس دائرة في رئاسة الجمهورية اللبنانية بين 1977 و1982 .. وفوق ذلك فهو استاذ جامعي درس مادّتي المالية العامّة والاقتصاد في كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية بين عامي 1999 و2007، هو عضو فريق العمل الاقتصادي لرئيس حكومة لبنان السيد نجيب ميقاتي، سنة 2005، وخبير مكلف بدراستين لدى برنامج الأمم المتحدة للإنماء UNDP، ورئيس سابق للجنة المصارف في مجلس رجال الأعمال السوري - اللبناني.
ومن اهم مؤلفاته المنشورة quot;تاريخ المصارف في لبنانquot;، بالاشتراك مع الدكتور جورج عشي، الرئيس السابق لجمعية مصارف لبنان، منشورات بنك عوده سنة 2000، وquot;المصرف المركزي والدولة في التشريع العربي والدوليquot;، منشورات اتحاد المصارف العربية سنة 1998 وquot;أزمة المالية العامّة في لبنان ndash; قصّة الانهيار النقديquot;، صادر عن دار النهار للنشر سنة 1997 وquot;أبحاث في الإصلاح المصرفي وتطوير الاسواق الماليةquot;، منشورات اتحاد المصارف العربية سنة 1993، ونشر عشرات المقالات والأبحاث في صحف quot;الحياةquot; وquot;السفيرquot; وquot;النهارquot; وسواها، وحاضر في مؤتمرات وندوات اقتصادية ومصرفية في بيروت والقاهرة ودمشق واسطنبو
- آخر تحديث :
التعليقات