خلف خلف من رام الله: في منزل ريفي متواضع في منطقة الأغوار الوسطى الواقعة شمال فلسطين، تقطن عائلة عبد الكريم حامد عبد الكريم أبو ثابت، الحاج quot;أبو فراسquot;، وتتخذ كغيرها من العائلات في المكان مهنة الزراعة سلاحًا للبقاء في ارضها المحاطة بمستوطنات ومعكسرات إسرائيلية، ما يحوّل هذه المنطقة الجغرافية المهمة إلى سجن يخضع للرقابة ليل نهار. إذ لا يستطيع السكان الريفيون ممارسة نشاطاتهم غير الاعتيادية دون إذن مسبق، بل إن تجولهم خارج منازلهم البسيطة بعد الساعة العاشرة مساء، قد يغدو برمته جريمة يدفعون حياتهم ثمنًا لها، فأبراج المراقبة الإسرائيلية تعتلي الجبال وترصد نشاطاتهم وأفعالهم كلها، وتعاقب وتحاسب إذا جاء الأهالي بفعل لا تستهويه سلطة تل أبيب.

الحاج quot;أبو فراسquot;، الذي يعيش منذ عام 1961م في فروش بيت دجن، وهي بلدة لا يتجاوز عدد سكانها نحو 1200 نسمة، يشرح لـquot;إيلافquot; معاناته والأهالي التي تفاقمت هذه السنة بسبب تضرر موسم الزراعة نتيجة قلة الأمطار ومنافسة البضائع الإسرائيلية، وغياب السياسات الفلسطينية الرسمية التي تدعم قطاع الزراعة في هذه المنطقة التي يطلق عليها البعض quot;سلة فلسطين الغذائيةquot;. كما أن الوصول إلى بلدة quot;فروش بيت دجنquot; الواقعة في الاغوار الوسطى ليس سهلاً كما سهلا تعتقد، إذ يستدعي الأمر المرور عبر حاجز الحمرة العسكري، الذي يطلب الجنود الإسرائيليون الموجودون عليه من الشخص المار بطاقة هويته الشخصية، والإنتظار حتى يتم فحصها، بخاصة إذ كان اسم عائلته ليس مدرجًا على قائمة بحوزة الجنود تتضمن أسماء العائلات المقيمة في المنطقة والتي يحق لها اجتياز الحاجز العسكري.

يسبق هذا الإجراء في العادة، إنتظار الشخص داخل السيارة القادم عبرها لفترة قد تمتد ساعات، ثم عليه الترجل والسير مشيًا على الأقدام، وصولاً إلى الفحص من قبل الجنود، على أن يصعد مرة ثانية مع السائق بعد خضوعه هو الآخر للتفتيش الدقيق، وهي بجملتها إجراءات تعيق عملية التنقل، لا سيما الشاحنات المحملة بالمنتوجات الزراعية.

الحاج quot;ابو فراسquot;، يبيّن أن الأهالي في منطقة الأغوار، وبخاصة في بلدة quot;فروش بيت دجنquot; ممنوعون من البناء والإعمار، فلا يسمح لهم ببناء اي غرفة أو حتى quot;خيمةquot;، ويقول: quot;قمت في مرات عديدة ببناء quot;بركسquot; (غرفة من المعدن) قرب المنزل، فجاء جنود الاحتلال وهدموه بحجة عدم الترخيصquot;، ويضيف: quot;منزلي الحالي بني في الستينات، ومكون من غرفتين صغيرتين فقط، ولا اتمكن من توسيعه، وبالتالي لم أتمكن من تزويج أي من اولادي حتى اللحظة بسبب ضيق المكانquot;.
بدوره يتحدث المزارع، قاسم أبو جيش، (ابو أبراهيم) عن معاناته الشخصية والمنطقة باكملها، التي يسميها البعض quot;سلة غذاء فلسطينquot; بفعل خصوبة أرضها، قائلا: quot;قمت في الماضي بزراعة غرس زيتون في أرضي، وعندما بات عمر الغرس تقريبًا نحو عام، قام جنود الاحتلال بمهاجمة الأرض واقتلاع ما فيها من زرعquot;، ويضيف: quot;حتى برك المياه المخصصة لري المزروعات لا يسمح لنا بإيجادها، إذ قام الجنود مؤخرا بتدمير 3 برك قمنا ببنائهاquot;.

(أبو إبراهيم) الذي يسكن بيتا مصنوعًا من المعدن (الزينكو)، لم يكن يسمح له بفعل ذلك، فحاول الجيش الإسرائيلي في الماضي هدم منزله المتواضع وسلبه الحق في العيش على ارضه، ولكنه توجه في بداية التسعينات إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية واستصدرت المحكمة قرارا لصالحه بعد جملة جلسات مارثونية ثبتته في المكان. ويبين أنه قام لاحقا ببناء quot;خيمة صغيرةquot; بجانب المنزل، فجاء الجنود وهدموها، وحاولوا مجددا هدم المنزل، فما كان منه إلا أن خاض معهم نقاشًا مطولاً، طالبهم خلاله بالعودة إلى سجلاتهم التي تبين ملكيته لقرار من محكمتهم العليا تسمح له بالبقاء في منزله.

وعلى ضوء خافت قادم من مولد كهرباء يمتلكه الحاج (ابو فراس)، تناولنا العشاء، وتابعنا الحديث، والذي انتقل هذه المرة إلى موضوع المياه، وسيطرة إسرائيل عليها، يقول الحاج عبد الكريم أبو ثابت: quot;إسرائيل تحاول طردنا من هذه المنطقة، وبالتالي تفرض علينا العديد من العقوبات، وتسرق الأرض وما بداخلها من ماء عذب، إذ تمنعنا من حفر الابار الارتوازية، بينما هي تقوم بحفر العديد من الآبار وتنهب الماء من المنطقة، وفي المقابل، نحن نعاني ندرة المياة، وكذلك الكهرباء لها حكاية أخرى، إذ إننا نحصل عليها خمس ساعات في اليوم فقط من خلال مولدات تعمل على السولار والبنزين، وبعض الأشهر لا نتمكن من تشغيل المولدات بسبب غلاء سعر الوقودquot;.

ويقر الحاج (أبو فراس) أن التضييق الإسرائيلي على سكان المكان، كان له الأثر في دفع بعضهم إلى الهجرة إلى المدن والبلدات الأخرى، قائلا: quot;بسبب التضييقات هاجرت بعض العائلات إلى المدن، وبخاصة أن البنى التحتية المدنية هنا معدومة، فلا يوجد مثلا مرافق صحية، ومن يمرض أو يصاب بعد الساعة العاشرة مساء بأي مكروه لا يسمح لنا بنقله إلى المستشفى، ولكنه أوضح في الوقت ذاته، أن جملة مساعي أهالي البلدة أثمرت في سنوات التسعينات عن بناء مدرسة لطلاب البلدة، مشيرًا إلى أن هذه الخطوة أدت إلى تثبيت العديد من المواطنين في فروش بيت دجنquot;.

مع حلول عتمة المساء، غادرت المنطقة وفي ذهني العديد من التساؤلات، منها: ما مصير هذه المنطقة التي يؤجل بحث مستقبلها مع قضايا الحل النهائي، وهي تصنف وفق اتفاقية أوسلو منطقة (B)، أي تخضع للمسؤولية الأمنية الإسرائيلية الكاملة، مع إعطاء الصلاحيات الإدارية إلى السلطة الفلسطينية؟، وكيف سيكون هذا المستقبل مع حكومة يتزعمها حزب الليكود اليميني الذي يؤكد أن أي دولة فلسطينية مستقبلية يجب أن لا تشمل الأغوار؟ وكذلك ما السر الذي يدفع هؤلاء السكان الريفيين إلى التمسك بمكان قد يغدو سجنًا بفعل الإجراءات الإسرائيلية المفروضة عليه؟