نسرين حلس من واشنطن: وقعت الأزمة المالية، وغدت واقعاً لا مفر منه، وقد تجلّت تداعياتها في جوانب الحياة الاقتصادية كافة في أميركا، ما أدى إلى تغير في السلوكيات الاستهلاكية للفرد. فقد شرع المواطنون الأميركيون في ترشيد إنفاقهم الاستهلاكي والاقتصادي، وذلك بعد تدنّي أسعار المنازل، وارتفاع أسعار البنزين، ما يزيد الوضع الاقتصادي سوءاً.
وتزعزعت ثقة الناس بالمستقبل، فقد أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجرته صحيفة واشنطن بوست وشبكة quot;أي بي سيquot; أن 66 % من الأميركيين قلقون على مستقبلهم المعيشي.
وفي استطلاعات أخرى أجرتها وكالة رويتز ومعهد زغبي للأبحاث، أكّدت نتائجها أن الأميركيين تأثّروا بالأزمة المالية والركود، ما أدى إلى فقدان ثقتهم في مستقبل اقتصاد بلادهم الذي كانوا يرونه قوياً لا يهتز، ويتوقعون أن يستمر في الانحدار لأمد ليس بقصير، خصوصاً بعد تسريح الآلاف من الموظفين والعمال وخفض ساعات العمل وإيقاف الحوافز والبدلات، ما حدا بالبعض إلى التوقف قليلاً والتقاط أنفاسه، والبدء بتغير نمط حياته. وكثير من أرباب العائلات بدأوا بالبحث عن وظائف مساعدة إلى جانب وظائفهم الأساسية.

آندي دلمنتي، الذي يعمل مديراً لقسم الكاتالوج في متاجر quot;جيسي بينيquot;، تحدث لـquot;إيلافquot; قائلاًquot;الأزمة المالية أثّرتفي كل مناحي الحياةquot;، ويؤكد أن نسبة المبيعات انخفضت 30 % عن العام الماضي، وquot;هذا طبيعي ومتوقعquot;. فهناك تخوف من الصرف ومحاولة لترشيد الاستهلاك من المستهلك، ثم يضيف: quot;متاجرنا تحاول دائماً تغيير سياستها وطريقة نمط البيع، ونقوم بتخفيضات هائلة للبقاء في السوق، ومع ذلك هنالك تراجع في المبيعاتquot;.
ويؤكد دلمنتي أن سلوك المستهلك في تغير، حيث إن شركتهم تقوم أيضاً بفتح حسابات لاستعمال بطاقات ائتمان تتبع للشركة. أما الآن، يوضح، فإن نسبة فتح الحسابات قلّت كثيراً قياساً بالأعوام السابقة. ويرى أن quot;هناك عزوفاً عن فتح حسابات لاستعمال بطاقات ائتمان تابعة للشركة، وعزوفاً عن استعمال بطاقات الائتمان في الدفع، وهذا سلوك عام في السوق للمستهلك، وليس فقط في شركتنا. وهذا كله يعود إلى حالة الخوف والقلق الذي يعيشه المستهلك من فقدان وظيفته مع عدم قدرته على السداد، ما يزيد من ديونه المتراكمة، لذلك تجد الكثير من الزبائن يفضلون إما الدفع كاش أو استعمال بطاقات الدفع الفوريquot;.

وفي سياق التداعيات، أكد خبراء الصحة في أميركا أن المستهلكين يواجهون واقعاً جديداً قاسياً، وأنهم يتعاملون معه في حدود إمكانيات متناقضة. ويرى نائب مدير قسم الشؤون الإكلينيكية في مصحة مونفيو (التي تعالج المرضى من اضطرابات عاطفية وسلوكية) جاتيانو فاكارو أن الفرصة الكبرى التي توفرها الأزمة المالية هي الابتعاد عن النزعة الاستهلاكية غير العقلانية وغير المبالية.
وقد تبيّن من خلال استطلاع رأي أن نمط سلوك الحياة المعيشية والاستهلاكية للأفراد والأسر التي تعيش في أميركا تغير بعد دخول الأزمة المالية حتى الآن. فهناك نسبة 20 % من الأسر قامت بترتيب ميزانية جديدة تراعي تقليص الصرف، وتقليل الخروج من المنزل، والاعتماد على الأكل داخل المنزل. وهذا يزداد لدى المهاجرين العرب الأميركيين.
وهناك نسبة 40 % من الأفراد ليس لديهم ميزانية محددة، وهذا يزداد لدى فئة الشباب، كما إن النزعة الاستهلاكية قلّت لديهم عن ذي قبل، وخروجهم من المنزل قلّ، واختيارهم للأماكن التي يذهبون إليها تغيّر نوعاً ما.
كوري، الذي يعمل موظفاً في أحد المتاجر، يقول: quot;لم أعد أخرج أنا وزوجتي كثيراً، ونحاول الخروج فقط في عطلة نهاية الأسبوع، للتمتع والتبضع، ونحاول دائماً الإقلال من الخروج والتبضع وشراء ما نحتاجه لا أكثر، حتى تمر الأزمة التي نأمل ألا تطولquot;.
وهناك نسبة ضئيلة من النساء اللواتي قررن الخروج للعمل لمساعدة الرجل، وأخريات قررن البقاء في أعمالهن على الرغم من رغبتهن في تغييره، وذلك خوفاً من فقدان فرصة إيجاد وظيفة أخرى، خاصة بعد تسريح عدد كبير من العاملين.

فوز، التي تعمل لدى سبور ماركت عربي، تروي: quot;قررت النزول للعمل ومساعدة زوجي في تربية أبنائنا الثلاثة ومصارفهم الجامعية الكثيرةquot;، أما سلمى صمد التي تعمل سكرتيرة في مكاتب سلسلة مطاعم أي هوب تقول quot;على الرغم من أن عملي متعب، لكن سأبقى فيه، فليس من السهولة الحصول على عمل آخر اليومquot;.
وهناك عدد لا يستهان به من الطلاب الذين يعتمدون على القروض الجامعية التي تمنحها لهم الجامعة ويعملون الآن داخل الجامعات وخارجها، وذلك للمساعدة في المصاريف اليومية. وعلى نقيضه هناك اجتهاد من الطلاب للحصول على منح دراسية خوفاً من عدم توافر فرص عمل للمساعدة أو توافر فرص عمل بأجور ضئيلة.
الشاب طارق وزان الذي يدرس في جامعة أوكلاهوما المركزية يقول: quot;أنا اليوم طالب في الجامعة وقد أخذت قرضاً من الجامعة، لكي أستطيع تسديد رسوم الجامعة، ومع ذلك أنا أعمل لأصرف على نفسي. الوالد يعطيني نقوداً، ولكن لا تكف.ي كل شيء غال، ولابد من المساعدةquot;.
ربما تداعيات الأزمة ليست كلها سلبية، فقد ظهرت في المجتمع محاولة لإيجاد بدائل وخلق عملية موازنة واستعاضة لدى البعض، فعلى الرغم من عزوف الناس عن الخروج للمطاعم الفاخرة يومياً وتغيرها إلى أسبوعياً، إلا الاتجاه نحو مطاعم الوجبات السريعة قد ازداد في الفترة الأخيرة، بعدما قلّ في فترة من الزمن. فالمستهلك يحاول تحقيق عملية موازنة في الاستهلاك، والخروج بحيث يذهب مرة أو اثنتين في الأسبوع للمطاعم الفاخرة، ثم باقي أيام الأسبوع التي تتراوح من مرتين إلى ثلاث في الأسبوع لمطاعم الوجبات السريعة بعدما كانت مرتين كل أسبوعين.

وأدى العزوف عن شراء المنازل إلى محاولة تأجيرها، فقد لوحظ في الفترة الأخيرة أن المقاولين يقومون بتأجير العقارات السكنية بدلاً من بيعها، وذلك بناء على عزوف المستهلكين عن الشراء.
وهناك تحول في سوق الحجوزات والسفر، فأكد خبراء الطيران أن سوق الحجوزات والسفر تراجع بنسبة 30%، فالمعروف في أميركا اعتماد الناس على السفر بالطائرة، نظراً إلى بعد المسافات، ولكن ظهور الأزمة المالية، جعل هناك اتجاهاً أكثر للسفر بالبر، واستخدام السيارة للتوفير. وارتفاع تكاليف السفر الباهظة من تذاكر طيران وفنادق للإقامة وهدايا ومصروفات، جعلت من المستهلك وخصوصاً المهاجرين العرب بالتفكر ألف مرة قبل الإقدام على السفر للخارج والاستعاضة عنها بالسفر إلى الولايات الأخرى.
كل هذه البدائل تؤكد التغير لدى الأميركيين في أنماط سلوك حياتهم اليومية الاستهلاكية والمعيشية ولعل أهم هذه التغيرات هو أن الأميركيين اليوم أصبحوا على استعداد لسماع الآخرين وتقبل الرأي الآخر ومراجعة كثير من أفكارهم وأنماط سلوكهم ومحاولة إعطاء الفرصة لخلق نظام عالمي أقل أحادية، وهذا ما تحاول الحكومة الأميركية اليوم إظهاره للعالم وكأن التغيير شامل. وكما قال المثل الصيني إن الأزمة قد تكون خطة انفراج لأنها نذير ميلاد جديد.