تعتبر التجربة الصينية في التحول من دولة تعمل بالاقتصاد الاشتراكي إلى نظام رأسمالي مع الاحتفاظ بالحزب الشيوعي الصيني للسلطة السياسية في البلاد تجربة فريدة تستحق المتابعة لكن الأهم فيها حتى الآن هو أن اقتصاد السوق جعل الصين تتحول إلى قوة اقتصادية عالمية يحسب حسابها رغم أن هذه القوة الاقتصادية الكبيرة لم تترافق حتى الآن بنمو موازي للتأثير السياسي العالمي لها.


براغ: يجمع الكثير من الصينيين ومن المتابعين الأجانب للشأن الصيني على أن الفضل الكبير في تحول الصين من دولة فقيرة إلى دولة عظمى مزدهرة اقتصاديا خلال الثلاثين عاما الماضية يعود إلى المنظر الاستراتيجي الاقتصادي والرئيس السابق دينغ سياو بينع لكن سمعته تلطخت في عام 1989 عندما سمح بإطلاق النار على المتظاهرين في ساحة السلام السماوي في بكين.

دينغ سياو بينغ شارك في مختلف التحولات في تاريخ جمهورية الصين الشعبية فقد انتمى إلى الحزب الشيوعي عندما كان عمره 16 عاما، درس في موسكو وباعتباره أصبح قائدا للفدائيين فقد شارك في الثلاثينيات بما سمي quot; بالمسيرة الطويلة quot; الأسطورية كما عاصر الحرب الأهلية والقتال الدموي مع اليابانيين .

خلال حكم ماو تسي تونغ تمت ترقيته إلى منصب قائد عسكري وأمين سر الحزب الشيوعي ورغم ذلك فانه لم يتفاهم كثيرا مع الزعيم الأكبر لأنه كان يصر على أهمية تحقيق النمو الاقتصادي .

وبالنظر لكون أي اختلافات في الرأي كان يتم العقاب عليها داخل الحزب الشيوعي الصيني فقد قام رفاق الدرب بعزله ثلاث مرات خلال حياته وبانتقاده علنيا إلى درجة أن ماو وصفه مرة بأنـــه عبارة عـــن quot; كتلة قطنية صغيرة يختبأ فيهــا دبوس حاد quot;.

الاستراتيجي الاقتصادي المكروه

بدا الانقسام في عام 1962 حين قال دينغ سياو بينغ عبارته الشهيرة التي هي حكمة قديمة معروفة في منطقة سيتشوان الصينية وتقول quot; ليس من المهم إذا كانت القطة سوداء أم بيضاء وإنما المهم أنها تصطاد الفئرانquot; الأمر الذي قصد به آنذاك خلال فترة الأفكار الثورية أن الأمر سيان فيما إذا كان الناس سيختارون الاشتراكية أم نظام السوق لآن الشيء الرئيسي يكمن فيما إذا كان هذا النظام سيعمل أم لا الأمر الذي عرضه للانتقاد .ففي عام 1966 وأثناء ممارسات الثورة الثقافية وصفه الحرس الأحمر بأنه منبوذ رأسمالي الأمر الذي توجب عليه أن يتجه إلى معمل يصنع الجرارات الزراعية في منطقة بعيدة فيما تم القذف بابنه من النافذة من قبل متعصبي الحرس الأحمر الأمر الذي جعل هذه الفوضى تؤثر على تفكيره دائما .

بعد حدوث الصراعات السلطوية داخل الحزب الشيوعي الصيني حلت لحظته ولاسيما بعد وفاة الزعيم الأكبر الذي كان يوجه سفينته نحو المياه الضحلة فيما أتى دينع سياو بدواء لمعالجة الاقتصاد المتدهور حيث أراد تحرير نظام التخطيط المركزي وتحضير الوضع لدخول اقتصاد السوق الحرة, وإضافة إلى ذلك تحدث عن حكم القانون والالتزام بحقوق الإنسان وعن التطور الاقتصادي ولذلك حصل على تعاطف وإعجاب الناس . في عام 1977 انتخب إلى رئاسة البلاد وأعلن أن مستوى الصين الفقيرة أنذلك سيصبح على مستوى الغرب خلال عشرين عاما غير أن هذه التحولات توجب عليها أن تجري بطريقة صينية صرفة .

لم يكن معماريا وإنما ترك للأمور أن تتحرك بحرية

لقد وصلت الأخبار الأولى عن الاقتصاد الخاص من إقليم بعيد عن المركز ومنها استلهم دينغ بعض أفكاره ولم يكن فضله يكمن في انه كان مصمم كل التغييرات وإنما بتركه الأمور تتحرك بشكل حر ودعا الفلاحين إلى ممارسة العمل الخاص في قطاعهم وهكذا وجد الدواء الذي أطعم فيه الأمة الجائعة حيث قام المزارعون بتوريد كمية محددة من محاصيلهم للدولة والباقي باعوه بالطريقة التي أرادوها الأمر الذي جعل الأوضاع تقلع في الريف غير أن هذه الوصفة لم تكن كافية لتحديث القطاع الصناعي الذي يحتاج إلى تكنولوجيا أجنبية واستثمارات .

وأمام هذا الواقع خاطب الولايات المتحدة وبدا بعد عدة أعوام من الخلافات معها إقامة أول اتصالات رسمية معها الأمر الذي جعله يكسب ليس فقط المستثمرين الأجانب وإنما أيضا حليفا قويا ضد الاتحاد السوفيتي كما أدى ذلك إلى حدوث برود في العلاقات بين الولايات المتحدة وتايوان . لقد أصبح دينغ أول رئيس صيني يزور الولايات المتحدة وحصل فيها على دورة سريعة حول أسلوب الحياة الأميركي وأرسل من هناك للصينيين بذلك رسالة واضحة مضمونها انه لا يتوجب الخوف من الثقافة الأمريكية وان كانت غريبة بالنسبة للصينيين .

وقد استفاد من شعور الصداقة الذي منحه له التحالف مع الولايات المتحدة في إنشاء أربع مناطق حرة عند الشواطئ تمكنت من اجتذاب الاستثمارات الأجنبية بسبب رخص اليد العاملة والتسهيلات الضريبية السخية وبهذا الشكل حصلت الصين على المال وعلى المعارف الأمر الذي جعل مستوى المعيشة في الصين يرتفع بشكل كبير . في عام 1985 اختفت من ساحة السلام السماوي بين ليلة وضحاها صور ماركس وإنجليز وأصبح دينغ سياو بينغ شخصية العام وفق مجلة التايم وارتفعت شعبيته داخل الصين فيما سيطر الاصلاحيون على المكتب السياسي للحزب الشيوعي غير أن دينغ ظل يتحدث عن الاشتراكية بمواصفات خاصة .

الفساد والبطالة يدفع الناس إلى الساحة

طريقة العلاج التي اتبعها دينغ لم تنجح فقط في قطاع الصناعة الثقيل التي كانت فخر نظام ماو غير انه أصبح متخلفا ولهذا ترك الشركات الخاسرة في عام 1986 تنهار الأمر الذي جعل الملايين تجد نفسها في الشارع بدون عمل وبعد عام من ذلك أنهى تقنين الأسعار من قبل الدولة وحلت موجة من التضخم وبدأت الرشاوى تنتشر الأمر الذي دفع الناس يتجهون إلى الشوارع لاسيما وان ذلك حدث بالترافق مع البطالة أما في الجامعات فقد ظهرت ملصقات تحريضية وأدرك الطلاب فرصتهم وأراد الناس أن تصغي الحكومة لهم لكنهم لم يطلبوا تغيير النظام بحد ذاته . مستشارو دينغ شرحوا له الأحداث على أنها حركة احتجاجية تسعى من اجل انهيار الحزب الشيوعي الصيني الأمر الذي جعله يدين هذه القلاقل وقد منع لمدة شهر استخدام القوة ثم بدا يميل نحو أنصار استخدام العنف بقوة .

وفي النهاية أعطى الأمر للجيش بالسيطرة على مركز بكين الأمر الذي أدى إلى وقوع مجزرة في ساحة السلام السماوي وأصبحت الأحداث التي جرت في الرابع من حزيران يونيو من عام 1989 عقبة في وجه التغييرات السياسية والاقتصادية والى اضمحلال الثقة بالإصلاحيين أما الإخفاق الأكبر فقد واجهه دينغ شخصيا .

وقد عاد إلى الحكم المحافظون من أنصار ماو غير أن دينغ لم يستسلم وفي عام 1991 أقدم على الحملة الأخيرة لإنقاذ الإصلاحات وقد خاطر بذلك غير أن سعيه هذا حظي بالنجاح ففي عام 1994 تراجع الرئيس آنذاك تيانغ سي مين عن الماوية وانفتحت الصين على الإصلاحات .