يطرح اجتياح المجمعات التجارية للمناطق اللبنانية تساؤلات كثيرة حول الفائدة التي تحقّقها للإقتصاد اللبنانيّ، خصوصًا أنها تخنق متاجر صغيرة تعتاش منها شريحة واسعة من اللبنانيين.


منذ العام 2000 وحتّى اليوم، يشهد لبنان تغيّيرًا جذريًا في أنماط الإستهلاك والشراء والترفيه. فبعدما كانت عناوين التسوّق مختصرة لسنوات طويلة بالأسواق المناطقية التقليدية والمراكز التجارية التي تضمّ المحال والمكاتب، تفوّق المجمع التجاري على منافسيه، ليصبح الوجهة الأساسية للتسوّق والتسلية، بالنسبة لمعظم اللبنانيين على إختلاف أعمارهم وطبقاتهم. وهذا ما يحاكي تمامًا النموذج الأميركيّ والخليجيّ أيضًا، إذ أصبحت المجمعات التجارية المكان الرئيسي لتمضية الإجازات وأوقات الفراغ.

خلال السنوات الثلاث الماضية، زاد عدد المجمعات التجارية بشكل كبير ولافت في لبنان، حتّى وصل إلى خمسة عشر مولاً، بعدما كان العدد ستة فقط في العام 2009. وهناك مشاريع عدّة قيد الإنجاز سيتمّ إفتتاحها في العام 2013، كما وصلت نسبة تزايد المجمعات التجارية في لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية إلى 150 في المئة. وينمو حجم الإستثمارات بإضطراد أيضًا، حتّى أن المبلغ المخصّص لبناء مشروع سيتي سنتر في إحدى ضواحي بيروت وصل إلى 300 مليون دولار. كل هذا يدفع إلى البحث عن الجدوى الإقتصادية للإستثمارات الضخمة التي تخصّصها شركات لبنانية وخليجية لبناء المجمعات التجارية.

حركة ناشطة

إذا كان التقييم الأولي للمجمعات التجارية يعتمد على أعداد زوّارها، فإنّها في لبنان تشهد حركة ناشطة في مختلف الأيام. لكنّ الزحمة الخانقة تكون في عطلة نهاية الأسبوع وخلال فترة الأعياد. بحسب المعلومات الصادرة عن مجمّع ABC، هناك أحد عشر مليون زائر لمتاجرها سنويًا، أي بمعدّل ثلاثين ألف زائر يوميًا. والعدد المتوقّع للزوّار في Le Mall بمنطقة الضبيه هو ستة ملايين سنويًا، بالإستناد إلى عدد زواره بعد إفتتاحه في آب (أغسطس) الماضي.

هذه الأرقام تظهر واضحًا أن المجمعات التجارية لا تعتمد على المواطنين اللبنانيين فقط، إنما الإرتكاز الرئيسيّ هو على السيّاح، الذين بلغ عددهم 313700 سائح خلال الربع الأول من العام 2012.

أمّا من ناحية العائدات المالية، فإنّ المجمعات التجارية تستفيد من الإيجارات بالدرجة الأولى. فقيمة إيجار المتر الواحد في بعض المجمعات التجارية تصل إلى 2200 دولار، ما يُعتبر سعرًا عاليًا لا تتحمّله إلا الشركات العالمية والإقليمية التي تفتح لها فروعًا في لبنان. وللدلالة على حجم الطلب من قبل هذه الشركات على السوق اللبنانية، فقد تم تأجير كل المساحات المتاحة ضمن مول سيتي سنتر المزمع إفتتاحه في العام 2013.

تغذية الإقتصاد اللبنانيّ

يقيّم البروفسور روك أنطوان مهنا، عميد كلية العلوم الإدارية والمالية في جامعة الحكمة، ظاهرة تزايد أعداد المجمعات التجارية في لبنان بالإيجابية. وذلك يعود إلى توّسع رقعة المجمعات التجارية نحو مناطق جديدة مثل البقاع، في إشارة إلى مشروع كاسكادا فيلاج، ما يخفّف الضغط عن العاصمة بيروت.

في حديثه لـ quot;إيلافquot;، يعدد مهنا الفوائد الإقتصادية للمجمعات التجارية، وهي تتمثّل بإنماء المناطق البعيدة وضواحي بيروت، وتأمين التنوّع ضمن السوق اللبنانية ما يُعتبر أساسيًا بالنسبة للسيّاح تحديدًا. ويضيف مهنا أن قطاع التجزئة أساسيّ جدًا لتغذية الإقتصاد اللبنانيّ، والمجمعات التجارية هي المكان الذي ينتعش فيه هذا القطاع.

ويشبّه مهنا لبنان بالمختبر الإقتصاديّ بالنسبة للشركات العالمية التي تعرض منتجاتها في السوق اللبنانية، وتختبر نجاحها من خلال قياس الإقبال عليها. فالزبون اللبنانيّ متطلّب، يهتمّ كثيرًا للنوعية والخدمة العالية. كما أن الأذواق متنوّعة بين المواطنين والسيّاح، ما يؤمّن للشركات المعلومات والتقييمات التي تحتاجها.

إلى ذلك، يشدد مهنا على أهمية فرص العمل التي تؤمّنها المجمعات التجارية للمواطنين اللبنانيين، في ظلّ ازمة البطالة المتزايدة محليًّا. فمجمع سيتي سنتر يتيح 1200 فرصة عمل ضمن قطاع التجزئة والمطاعم، ويؤمن مجمع كاسكادا الذي سيُفتتح في البقاع آلاف الوظائف المُتاحة لشبان هذه المنطقة، الذين يعانون مشكلة بطالة متفاقمة.

إنتماء وعزلة

حركة الإستهلاك في المجمعات التجارية لا تنقطع. من شراء الملابس والأكسسوارات إلى الأدوات المنزلية والرياضية وصولًا إلى السلع الغذائية وخدمات المطاعم. كلّها طرق للإستهلاك تشغّل هذه المراكز التجارية الضخمة.

فقد تحوّل المركز التجاري بالنسبة للبنانيين إلى عنوان يزورونه دوريًا، مهما كانت الظروف الإقتصادية أو الأمنية التي تحيط بهم. تقول المواطنة سابين فغالي، التي تزور أحد المجمعات التجارية بشكل شبه يوميّ، إنّها تشعر quot;بالإنتماء إلى هذا المكان الذي يتضمّن كلّ ما يمكن للمرء أن يحلم به، وتخصّص مبلغًا ماليًا شهريًا للتسوّق والترفيه فيهquot;. حتّى لو لم تملك المال، فهي تتنزّه في المركز التجاريّ وتتفرّج على المعروضات.

كذلك الأمر بالنسبة للشاب غالب عبد الله، الذي يجد في المجمع التجاري مكانًا معزولًا عن كلّ المشاكل المحلية، ويمكن فيه الإلتقاء بالأصدقاء والتسكع بعيدًا عن الشوارع غير الآمنة. أمّا المبلغ الذي ينفقه غالب هناك فيتراوح بين مئتين وثلاثمائة دولار، بما يتضمّن شراء حاجياته المختلفة.

لا خوف

وإذا كانت المجمعات التجارية تحفّز دافع الإستهلاك في اللبنانيين، فمهنا لا يجد في هذا الواقع مشكلة، ذلك لأنّ الإستهلاك يمكن أن يكسر حاجز الركود الإقتصاديّ المسيطر اليوم.

ويلفت مهنا إلى أن لبنان هو بلد يرتكز على التجارة والخدمات والصناعات ذات القيمة المُضافة، وبالتالي فإنّ هذه النشاطات الإقتصادية هي التي تقلّص العجز في الميزان التجاريّ وتدفع العجلة الإقتصادية للأمام. كما يشدّد مهنا على أن تحسين الوضع الإقتصاديّ في لبنان لا يتمّ بلجم الإستهلاك، إنما بمعالجة القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة وتمويلها ودعمها، لكي تؤدي دورها كما يجب.

أمّا المخاوف من زيادة القروض والديون لدى اللبنانيين بسبب نمط الإستهلاك المتزايد، فيردّ عليها مهنا بإعتبار أن المصارف في لبنان ما زالت محافظة ولا تمنح القروض من دون دراسة معمّقة. وبالتالي، لا خوف من تبعات تسهيلات الدفع التي تؤمّنها بعض المؤسسات المالية.

تضرّر الاعمال الصغيرة

لا تنفي الفوائد التي تؤمّنها المجمعات التجارية للإقتصاد اللبنانيّ وجود سلبيات عدّة تحتاج إلى معالجة جذرية. والقضية الأبرز في هذا المجال هي تضرّر الأعمال الصغيرة من نشوء المجمعات التجارية الضخمة. فخلال جولة لـ quot;إيلافquot; على العديد من الأسواق الصغيرة المحيطة بالمجمعات التجارية، يؤكد أصحاب المحلات تراجع حجم المبيعات منذ إفتتاح المجمع القريب منهم.

يتخوّف بعض التجّار من المجمعات التجارية القادمة مستقبلًا. ففي منطقة فرن الشباك، بدأ القلق يساور البائعين من مركز سيتي سنتر الذي سيُفتتح قريبًا. ويتوقّع البائع إدمون رزق أن quot;يندثر سوق فرن الشباك جراء تحوّل كلّ الزبائن إلى المجمع التجاري، الذي يجدون فيه كلّ ما يحتاجونه دون الحاجة إلى التنقّلquot;. كما يشبّه الوضع بما حصل في أسواق بيروت، حيث إختفت المحلات الصغيرة التي تؤمّن الصناعات المحلية لصالح المتاجر والماركات العالمية.

يجارون الكبار

يحاول التجّار في أسواق أخرى المحافظة على مساحتهم الخاصة على الرغم من ظهور المجمعات التجارية في محيطهم، وهذا ما يتجلّى تحديدًا في شوارع آراكس والحمرا والزلقا ايضًا. فالتجّار في هذه الأحياء يحاولون تقديم شيء مختلف عمّا يوجد في المجمعات التجارية، إما من ناحية إبراز الصناعة اللبنانية أو إستقدام ماركات عالمية مختلفة عمّا هو متداول في المراكز الضخمة.

هذه القضية يحيلها أيضًا مهنا إلى بعدها العالميّ، حيث تتأثر المتاجر الصغيرة سلبًا عند إقامة مجمع تجاري في محيطها. لكنّ مهنا يرى الحلّ في الأسواق المتخصّصة (سوق الذهب، سوق القماش...)، حيث يمكن للتجّار عرض منتجاتهم لزبائن مهتمين بها وقد زاروا السوق لشراء سلعة محدّدة. وهذه الأسواق تحتاج إلى حوافز لإقامتها من الناحية المالية وتأمين البنى التحتية من قبل السلطات الرسمية.

ماذا عن الإحتكار؟

مشكلة إضافية يطرحها التجّار اللبنانيون، ترتبط بإحتكار بعض الماركات العالمية لمساحات المجمعات التجارية. فالتاجر كرم عبّود يؤكد محاولته مرّات عدّة إقفال محلّه الصغير المتخصّص ببيع البياضات المنزلية، والإتّجاه لإفتتاح محل جديد في أي من المجمعات التجارية، لكنّه لم يجد حتّى الآن مكانًا له، quot;فالإيجارات المرتفعة ليست المشكلة الوحيدة، إنما هناك سعي لدى إدارات المجمعات التجارية لإستقدام أكبر قدر ممكن من الماركات، من دون الإهتمام بالصناعات المحليةquot;.

من جهته، يرى مهنا أن الإحتكار مشكلة كبيرة، ليس فقط من ناحية الماركات إنما الوكالات الحصرية التي تملكها بعض الشركات أيضًا. وهذا ما يؤدي إلى رفع الأسعار وتراجع النوعية تدريجًا بسبب غياب المنافسة.

ويطالب مهنا بسنّ تشريعات تمنع الإحتكار في مختلف القطاعات الإقتصادية، وأن تكون هناك هيئات ناظمة لمراقبة الأسعار والخدمات المقدّمة للزبائن.