تصاعدت حدة الحديث في مصر حول ما يوصف بـquot;إقتصاد العسكرquot;، وطالبت القوى السياسية والثورية بضرورة إخضاعه للرقابة أو العمل وفقاً لآليات السوق الحرة، واختلف الخبراء حول هذا الإقتصاد، الذي يتمثل في شركات ومصانع تقدم منتجات مدنية.
الاقتصاد المصري في حالة ضياع بعد الثورة |
صبري حسنين من القاهرة: وصفت دراسة حديثة الإقتصاد المصري بأنه quot;غامض، ويقف في المنطقة الرمادية ما بين الإقتصاد الإشتراكي والنيوليبراليquot;، بسبب اقتصاد العسكر، الذي ظل بعيداً عن اقتصاد السوق، الذي تبنته مصر منذ العام 1992.
وأضافت الدراسة، التي أعدتها الدكتورة زينب أبو المجد الأستاذة المساعدة في الجامعة الأميركية في القاهرة، أن نظام مبارك البائد خلق عمداً حالة الالتباس تلك في الاقتصاد. فقد حاول من جهة التقيّد بالاتفاق الذي وقّعه عام 1992 مع دائنيه في الغرب لتحرير الاقتصاد بموجب خطة وضعها البنك الدولي، وتضمنت الخطة خصخصة الشركات المملوكة للدولة.
من جهة أخرى، لم يرغب النظام في المجازفة بإثارة غضب النخبة العسكرية، التي كانت تسيطر على جزء كبير من القطاع العام بأشكال مختلفة، مشيرة إلى أن مبارك خصخص أكثر من 300 مصنع وشركة مملوكة للدولة، ولم يمسّ ممتلكات الجيش، التي ظلّت تُدار بأسلوب سوفيتي بالٍ وغير تنافسي. فضلاً عن ذلك، يفتقد الضباط المتقاعدون أية خبرة أو كفاءة في إدارة هذه الشركات، وأنشأوا شبكات زبونية فاسدة لتسويق منتجاتهم تحلّق حولها منتفعون من القطاعَين الحكومي والخاص.
750 مليون دولار
وأوضحت الدراسة أن هناك ثلاث جهات عسكرية كبرى تنخرط في مجال الإنتاج المدني: وزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، لافتة إلى أنه وفقاً للأرقام الرسمية، التي ينشرها رؤساء تلك الجهات في الصحف القومية، تمتلك وزارة الإنتاج الحربي ثمانية مصانع يذهب 40 % من إنتاجها إلى الأسواق المدنية، فيما تملك الهيئة العربية للتصنيع 11 مصنعاً وشركة يذهب 70% من إنتاجها إلى الأسواق المدنية.
أما جهاز مشروعات الخدمة الوطنية فينحصر نشاطه في الإنتاج والخدمات المدنية. ينخرط ثلاثتهم في إنتاج مجموعة واسعة من السلع، مثل سيارات الجيب الفخمة، وحاضنات الأطفال، وأسطوانات الغاز للمطابخ، وحتى مواد غذائية مثل المعكرونة ومنتجات الدواجن واللحوم. ويقدم الجهاز أيضاً خدمات على غرار تنظيف المنازل وإدارة محطّات الوقود المنتشرة عبر بقاع البلاد.
ووصفت أبو المجد إدارة تلك الأعمال بأنها تفتقد إلى الشفافية والمحاسبة العامة، مشيرة إلى أنه من شبه المستحيل تحديد الدخل السنوي لأعمال العسكر المدنية. وتابعت: تشير تقديرات الخبراء إلى أن الجيش يسيطر على ثلث الاقتصاد المصري تقريباً، لكن هناك تعتيم على النشاطات غير الدفاعية ومكاسبها. ففي حين تشير التصريحات الرسمية إلى أن البيزنس المملوك للجيش يحقّق 750 مليون دولار في السنة، يتحدّث العمال فيها عن أرقام أكبر بكثير، حتى إنهم يقولون إن هناك شركة واحدة تجني 5 مليارات دولار سنوياً.
حصانة دستورية
وحسب الدراسة، فإنه في العام 2007، أي بعد 15 عاماً من التحوّلات النيوليبرالية، عمد مبارك إلى تعديل الدستور، وحذف البنود الاشتراكية التي أضافها جمال عبد الناصر إليه. وهكذا ألغيت الإشارات إلى الاشتراكية، والدور القيادي للقطاع العام في التنمية، وفي هذه الأثناء، قامت quot;حكومة رجال الأعمالquot;، التي شكّلتها ثلة الأثرياء المقرَّبين من جمال مبارك، بخصخصة عشرات الشركات المملوكة للدولة، من دون أن تكون بينها شركة واحدة تابعة للجيش.
واستطردت مؤكدة أنه عندما وضع المجلس الأعلى للقوات المسلّحة إعلاناً دستورياً لمرحلة ما بعد الثورة في آذار/مارس الماضي، نقل حرفياً من دستور مبارك المعدَّل، فضمن بذلك عدم التعرّض للأملاك العسكرية. فالمادّة الخامسة في الإعلان الدستوري هي نسخة طبق الأصل عن المادّة الرابعة في دستور 2007.
ضد تحرير الإقتصاد
وذكرت أبو المجد أن موقع ldquo;ويكيليكسrdquo; نشر برقيّتَين تعودان إلى عام 2008، ورد فيهما أن المشير حسين طنطاوي والمؤسسة العسكرية في مصر من أشدّ المناوئين لسياسة التحرير الاقتصادي، لأنها تضعف من سيطرة الدولة. وقالت مارغريت سكوبي، السفيرة الأميركية السابقة في مصر quot;يعتبر الجيش أن مساعي الخصخصة التي تقوم بها الحكومة المصرية تشكّل تهديداً لمكانته، ولذلك يعارض الإصلاحات الاقتصادية عموماًquot;.
موضحة أن امتعاض طنطاوي من الاقتصاد النيوليبرالي ليست له علاقة كبيرة بولائه للنموذج الاشتراكي للاتحاد السوفياتي، حيث تدرّب عندما كان ضابطاً شاباً، بل لإمكانية أن تطال يد الخصخصة الإمبراطورية الاقتصادية الشاسعة التي تملكها المؤسسة العسكرية.
تناقض يضرّ بالإقتصاد
واتهمت الدراسة السلطة في مصر بالتناقض في ما يخص الإقتصاد، وقالت: شمالاً في القاهرة، يحرص مجلس الشعب المدني على إصدار تشريعات لتحرير السوق، من مثل إلغاء الدعم المقدم إلى المزارعين وبيع المصانع الحكومية. وجنوباً في الصعيد، يرفع المحافظون المعيَّنون ndash; وهم في معظمهم جنرالات جيش متقاعدون ndash; الدعم عن المزارعين، ولكن يُبقون على احتكار الدولة للصناعات الكبرى.
ويولّد هذا الوضع أزمة حادة لدى الفلاحين، حيث يجدون أنفسهم مضطرين إلى بيع محاصيلهم لمصانع مملوكة للدولة من دون أن يستفيدوا من أيٍّ من المنافع التي يوفّرها الاقتصاد الموجّه. فعلى سبيل المثال، ينبغي على مزارعي قصب السكّر في جنوب البلاد أن يشحنوا محصولهم في كل موسم إلى مصانع السكر التابعة للحكومة ndash; وهي المنتِج الوحيد للسكر في مصر، لكنهم الآن محرومون من الحصول على الدعم الحكومي في شكل بذور أو أسمدة أو آلات. كما يُضطرّ هؤلاء المزارعون إلى بيع محاصيلهم بأسعار بخسة مجحفة لم تتغيّر منذ عقود، ما يدفعهم إلى تنظيم احتجاجات وإضرابات حتى بعد ثورة يناير/كانون الثاني.
وفي الوقت نفسه، يسمح محافظو الأقاليم من جنرالات العسكر للبرامج الإنمائية التابعة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية بفتح مكاتب وتمويل المنظمات المحلية غير الحكومية، التي تساعد المزارعين على تبنّي نمط إنتاجي وأسلوب في العمل موجَّهَين نحو السوق، وعلى تصدير محاصيلهم إلى الأسواق الخارجية.
جزء من الأمن القومي
من جانبه، يقول الدكتور حمدي عبد العظيم الخبير الإقتصادي والمدير السابق لأكاديمية السادات للعلوم الإدارية لـquot;إيلافquot; إن قانون الخصخصة إستثنى قطاعات عدة من الخصخصة أو البيع للقطاع الخاص، منها: قناة السويس، وهيئة السكك الحديدية، ومصانع وزارة الإنتاج الحربي، والهيئة العربية للتصنيع، وكل ما يتبع الجيش.
مشيراً إلى أن الحديث عن اقتصاد العسكر لا ينقطع منذ إعلان المشير طنطاوي منح الحكومة مليار دولار دعماً للميزانية، ولفت إلى أن الثوار وبعض القوى السياسية بدأت في المطالبة بإخضاع كل ممتلكات القوات المسلحة للرقابة، لاسيما الشركات والمصانع ذات الصبغة المدنية، مثل شركات المواد الغذائية، ومحطات الوقود، وشركات المقاولات، وفي المقابل ينظر الجيش إلى تلك المصانع على أنه جزء من الأمن القومي، منوهاً بأن الهدف منها تحقيق القوات المسلحة الإكتفاء الذاتي، وطرح الفائض في السوق المدنية، والإستفادة من العائدات في شراء السلاح.
وحول ما إذا كان هذا النموذج موجودًا في دول الغرب، قال عبد العظيم إنه غير موجود، لكنه أشار في الوقت عينه إلى أن وزارة الدفاع الأميركية تتحكم في عشرات الشركات الخاصة الضخمة، لاسيما شركات النفط والسلاح، وتوجّهها حيثما تشاء، فلا تبيع السلاح للدول التي يراها البنتاغون معادية لأميركا، مثل إيران أو كوريا الشمالية.
ووفقاً للدكتور مريد منصور أستاذ الإقتصاد جامعة القاهرة فإن إقتصاد العسكر سوف يخلق أزمة مع القوى السياسية المختلفة عن وضع الدستور، وقال لـquot;إيلافquot; إن القوى السياسية المختلفة تطالب بإخضاع ميزانية الجيش للرقابة، لاسيما الشركات والمصانع التابعة له، وهو ما سيقابل برفض تام مع المجلس العسكري.
ولفت إلى أن هذا الإقتصاد لا يخضع للرقابة طوال السنوات الماضية، باعتباره جزءًا من ميزانية الجيش، وبالتالي يجب ألا تتم مناقشتها في العلن. ونبه إلى أن كل دول العالم تخضع فيها ميزانية قواتها المسلحة للرقابة، ولكن في إطار ضيق جداً، لاسيما الدول الكبرى، مشيراً إلى أن الخطورة تمكن لدى الدول الصغرى أو تلك التي لديها أعداء مباشرون، كما هو الوضع في حالة مصر، حيث لا يمكن مناقشة ميزانية قواتها المسلحة بعلانية كما تطالب بعض القوى السياسية.
التعليقات