بين التلوّث وإعادة الإعمار وارتفاع أسعار المسابح الخاصة
قلّة من الشباب اللبناني تستعيد نشاطاتها البحرية

كلّ الشاطئ ملكلهم -خاص إيلاف

عصام سحمراني : quot;انتبهوا لئلاّ يقربها أحد منكم إلى عينيه كي لا يصاب بالعمى!quot; يردّد عباس كلماته تلك وهو يقذف إلى رفاقه الكثر المتجمعين على الصخور ما يسمّيه بـ quot;خيارة بحرquot; بعد غطسة ناجحة له إلى عمق ستة أمتار في المياه الصافية لبحر منطقة المنارة في بيروت.

كلّ ذلك مثاليّ كنّا نتمنى لو بدأنا موضوعنا به قبل الحرب الأخيرة على لبنان. وكان عبّاس أيضاً يتمنى ذلك للدلالة إلى رفاقه الذين تركوه وحيداً ولم يأتوا بعدها إلى المكان.

البحر في لبنان - ونحن على الساحل الشرقي للأبيض المتوسّط- ليس مجرّد منظر جميل نرسمه على بطاقاتنا البريدية لجذب السيّاح وإحياء الذكريات والشجون لدى الأحبّة المهاجرين، وليس فقط مصدر استرزاق لحوالي ثلاثة آلاف صيّاد وعائلاتهم، بل هو اكثر من ذلك ملجأ أخيراً لكثير من اللبنانيين وخاصة الشباب من بينهم. ويكفيه فخراً أنّه الجهة الحدودية الوحيدة التي لم يختلف عليها ويدعى إلى ترسيمها ونشر القوّات الدولية فيها فقبرص ما زالت بعيدة وما زالت في مكانها ولو أنّه quot;ما ضلّ شاويش بالعالم إلاّ ما صار على شطّناquot; على رأي أبو الزلف في مسرحية quot;شي فاشلquot; لزياد الرحباني.

لكنّ البحر ومع تعرّض لبنان للقصف الإسرائيلي نال نصيبه أيضاً بشكل أكثر اختلافاً وأشدّ خطورة في بعض الحالات عبر التلوّث الذي حملته إليه البوارج الحربية إن عبر عمليات تغيير الزيت فيها أو عبر قصف خزانات النفط في ميناء الجيّة شمال صيدا التي شكّلت بقعة ضخمة امتدت من هناك باتجاه السواحل السورية. ولم يبق الحال كذلك بل حملت الأمواج إلى الشواطئ اللبنانية لا سيّما في الرملة البيضاء في بيروت كميّات كبيرة من الزيوت أمعنت في تلويثها وبات اسم المكان نقيضه على أساسها.

رغم التلوّث

غطّاس -خاص إيلاف
هذا الأمر أخاف كثيراً من اللبنانيين خصوصاً بعد تحذيرات عديدة من منظمات البيئة والوزارة المختصّة فسدّ بوجههم أبواب البحر المفتوحة منذ الأزل لممارسة نشاطاتهم المتنوّعة. هذا بالنسبة لكثير منهم لكن ليس بالنسبة لعبّاس الذي لم ينقطع عن ارتياد البحر؛ quot;حتّى بعزّ الحرب لمّا كانت البوارج الإسرائيلية تصول وتجول فيه!quot;. هو بقي وحده من quot;شلّةquot; أصحابه التي تجاوز عدد أفرادها الخمسة عشر قبل الحرب، في ذلك المكان الصخري على الكورنيش البحري بالقرب من منارة بيروت التي نالت نصيبها من القصف أيضاً؛ quot;يبدو أنّ الأصحاب خافوا من التلوّثquot; يقول عبّاس الذي يفاخر أنّه ليس خائفاً فهو يعرف quot;البحر تماماً والتلوّث النفطيّ يغرق إلى الأسفل إذا لم تقذفه الأمواج إلى الشواطئquot; يقول عبّاس بطمأنينة.

تلك الطمأنينة لا تنسحب على جميع من كان يرتاد الشواطئ وهذا حال ربيع الذي لم يطأ المكان منذ بدء الحرب ولغاية الآن؛ quot;وهل أنا مجنون كي أفعل!؟quot; يمازح صديقه عبّاس. لكنّ ربيع مع ذلك يحنّ إلى تلك الأيّام التي كان ينزل فيها إلى البحر إلى درجة أنّ عدم ذهابه إلى هناك؛ quot;أشدّ قسوة من الحرب نفسها!quot;.ذلك أيضاً كان لسان حال فهد وعدد من اصدقائه الذين أتوا هذا الأسبوع للمرّة الأولى إلى البحر بعد انقطاع طويل؛ quot;يا أخي جنّينا ما عاد فينا يعنيquot;. فهد وأصحابه أتوا من الضاحية الجنوبية حيث الدمار والردم والغبار تنتشر في كلّ أجواء المكان أرضاً وسماءً وهذا ما دعا الشبّان إلى عدم إبداء التخوّف كثيراً إزاء البحر؛ quot;هنا يوجد تلوّث وهناك تلوّث أكثرquot; يقول أحدهم ويستدرك؛ quot;بس التلوّث مع بحر وشمس أحلى من تلوّث مع شمس وغبار لا غيرquot;.

مجموعة أخرى من الشبّان حملت أمتعتها وأدواتها البحرية وعدّة الشاطئ الرئيسية لديهم أي النراجيل وتمدّد أفرادها على شاطئ الحصى بالقرب من أحد المسابح الخاصة على كورنيش المنارة. نسألهم عن تخوّفهم من البحر في ظلّ الحديث عن التلوّث، فيجيبنا أحدهم وهو يحمل نارجيلته ويرفع بصره إلى الأعلى كمن يستهزئ بالسؤال؛ quot;هيدي الأركيلة فيها تلوّث أكتر من البحرquot; يقول ذلك ويطلق الآخرون ضحكاتهم بشكل يدلّ على موقفهم المشترك في ما أبداه الناطق باسمهم.. صاحب النارجيلة.

طارق لم يستطع التحمّل كثيراً في أن تمرّ quot;صيفيتهquot; دون بحر. فهو وعلى الرغم من اقتناعه التامّ بتلوّث البحر فقد عمد إلى الإبتعاد اكثر ما يمكنه عن البقع النفطية فكان أمامه خياران إمّا جنوباً؛ quot;حيث هناك قنابل عنقودية على الشواطئquot;، وإمّا شمالاً وهذا ما فعله حين زار احد شواطئ جبيل الأحد الماضي؛ quot;غير شكل والله.. البحر بعقّد وعالقليلة فيها متعة للنظر!quot; يشير طارق إلى تواجد العنصر الأنثوي وهو المعتاد على الشواطئ الذكوريّة الطابع لا غير في بيروت.

شبك وصناّرة وأطفال -خاص إيلاف

وعلى الرغم من أنّ شاطئ الرملة البيضاء الذي أصيب بالتلوّث النفطي بشكل كبير دلّ عليه اللون الذي استحالت الرمال إليه وكمّية الأسماك الكبيرة النافقة على امتداده والعمل الدؤوب الذي كانت تقوم به إحدى هيئات البيئة في التنظيف والتي توقّفت فجأة.

على الرغم من أنّ هذا الشاطئ قد أقفل بوّابتيه الرئيستين ولم يبق سوى التسلّل إليه لعدد قليل من المرتادين الذين فضّلوا الإبتعاد قدر المستطاع عن المياه والتنعّم بالشمس في الجهات النظيفة من الشاطئ. على الرغم من ذلك فإنّ روّاد هذا الشاطئ لم ينتقلوا إلى الشواطئ الصخرية عند كورنيش المنارة حيث يعتبر أقلّ تلوثاً بالشكل الظاهر على الأقلّ.

ويعتبر عبد مرتاد الصخور صيفاً شتاءً أنّ ذلك يعود إلى أنّ quot;من اعتاد على الشاطئ الرملي لا يمكنه الإستمتاع على الصخور والعكس بالعكسquot;. عبد لم ينقطع يوماً عن ارتياد البحر فهو المكان الوحيد الذي يشعر فيه بالحرّية - كما يقول- لكنّ حريّة عبد يبدو أنّها لا تنتهي بأيّ حال من الأحوال؛ quot;ماذا يمكن لعاطل عن العمل أن يفعل سوى هذا!!quot; يتساءل عبد ويقنع نفسه أكثر وأكثر بنشاطه اليتيم.

صيد

سامي لا يسبح ولو أنّه يرتاد صخور كورنيش المنارة يومياً من أجل الصيد. يحمل سامي عدّة الصيد المؤلّفة من القصبة والسلّة بما تحويه من quot;سكّين وعجين للطعم وسنانير وغدارات وتقّالات وخيطان نايلونquot;. هو توقّف خلال فترة الحرب عن ممارسة هوايته البحرية بسبب نزوحه مع العائلة إلى إحدى بلدات الشمال الداخلية، لكنّه سارع عقب توقّف الإعتداءات وعودته إلى بيروت للعودة إلى ممارسة الصيد وفي نفس المكان عند كورنيش المنارة قريباً من الميناء الخاص بالصيادين.

برونز اجمل بعدالحرب -خاص إيلاف
لا يهتمّ سامي كثيراً بـquot;الغلّةquot; اليومية من السمك التي يحصل عليها فالأمر بالنسبة إليه quot;هواية لا أكثر ولو أنّني أحصل على ما يكفي لعشاء العائلة بأكملها كلّ يومين تقريباًquot; يتحدّث سامي عن عائلة مكوّنة من ثلاثة أشخاص لا أكثر أحدهم صغير. ويرفض سامي الحديث عن تلوّث البحر والسمك معه ويعتبر الأمر لا يعدو حدود quot;الدعايات المغرضة ولوما هيك كان صرلنا شي من أكل السمكquot;.

لكنّ صيّاداً آخر تحدّث إلينا عن نوع من التغيّر طرأ على السمك المتواجد في بحر المنطقة حيث يقوم يومياً بوضع أقفاصه على أعماق كبيرة بالنسبة للشاطئ تصل إلى إثني عشر متراً. يتحدّث أبو فاروق عن ملاحظته خلال تنظيف الأسماك من جوفها بعد الحرب على أنّ quot;اللون تغيّر وصارت سودا أكتر من قبلquot;. لكنّه يعود ويطمئن على أنّ الأمر لا يتعدّى مرحلة التنظيف ومن بعدها quot;فالنار تتكفّل بإزالة أيّ من أنواع التلوّث في حال وجدتquot;.

صيّاد ثالث يرفض أيضاً فكرة الحديث عن التلوّث في البحر ويعيد التذكير بما قيل يوماً عن quot;إنفلونزا الدجاج وجنون البقر.. كلّ ذلك من أجل أغراض سياسيةquot;. لا يفصح الصيّاد العتيق عن الاغراض السياسية لكنّه يشير إلى البحر مجدّداً وهو يقول؛ quot;أنظر ليس هناك سوى الزبالة الإعتيادية هنا.. مش مبيّن تلوّث!!quot;.

وعلى الرغم من بعض التطمينات التي تصدر بين فترة وأخرى في السيطرة على البقعة النفطيّة وفي استمرار تنظيف الشواطئ من رواسبها وفي سلامة السمك البحريّ من التلوّث وسلامة أكله بالتالي فإنّ التخوّف يبدو شاملاً في لبنان من ارتياد الشواطئ مجدّداً بدليل الأعداد المتناقصة يوماً بعد يوم من الهواة. وربّما تلعب أمور مثل قرب انتهاء الموسم البحري وقرب العودة إلى المدارس وحلول شهر رمضان دورها في هذا التناقص. لكنّ السبب الأبرز يبدو في انشغال اللبنانيين بأمور أهمّ بكثير من رحلة بحريّة.

على أمل تبدّل الأمور في الموسم القادم.

[email protected]

جولة مصورةبعدسة عصام سحمراني

الرملة البيضاء في الخامس عشر من حزيران-خاص إيلاف



وفي الخامس من آب -خاص إيلاف

مياه البحرفي الخامس عشرمن حزيران -خاص إيلاف

وفي الخامس من آب -خاص إيلاف

شاطئ الرملة البيضاء قبل الحرب -خاص إيلاف

وبعدالحرب -خاص إيلاف

صخور كورنيش المنارة قبل الحرب -خاص إيلاف

نفس المكان بعدالحرب -خاص إيلاف

لم يبق غيرهم -خاص إيلاف

شاطئ ملوّث في الخامس من آب -خاص إيلاف

محاولات لإزالة التلوّث في الثاني عشرمن أيلول -خاص إيلاف

كيف نصدّق أنّ السمك بخير!؟ -خاص إيلاف