تعرّفت على حسن النواب في زيارتي الأولى لبغداد عام 98. وجدته مستلقياً في غرفة الشاعر خالد عبد الله، ومعه صديق عراقي موسيقي. كان حسن ممدداً على سرير الغرفة، وبيده قنينة عرق فارغة، والفجر يكاد يبزغ. قنينة ما يفتأ يرفعها بين الوقت والأخر عالياً، ليستجدي منها نقطة إضافية لن تنزل أبداً. ضحكتُ من المشهد، أنا الذي لا أعرف طعم

حسن النواب
الكحول، وعرفت أنّ حسن يعيش أجواء النشوة والثمالة، ولذلك فربما يتابع حديثنا بخمس أو سُدس انتباه. كنت قبل ذلك، أثناء وجودي بغزة، قد قرأت له عمله الصغير العذب [ضماد ميدان لذاكرة جريحة - استذكارات] عن تجربته كجندي وسائق دبابة، أثناء الحرب الطويلة مع إيران. والحق أنني اُعجبت بالعمل، مع ما تناهى إلى وعيي من صعلكة حسن واختياره العبث كأسلوبٍ وطريقة في العيش. كان حسن أيامها مدعواً مثلنا للمربد، ونزيلاً في فندق المنصور. وكان هو وكزار حنتوش، العدمي حتى أقصى حدود البراءة، صديقين دائمين ومترافقين. وكان وجودهما معاً، يثير النميمة الشهية في أوساط بعض المثقفين المحافظين والقريبين من النظام. سمعت عنه واستمعت إليه، ثم غادرت العراق، ونسيت أموراً جمة، لكن حسن بقيَ في ذاكرتي. قلت لبعض منتقديه أولاء، إنّ إبداعه يغفر له كل ما تتقوّلون. وإنني لا أقدر على منع نفسي من محبته. فهو فنان ومبدع فضلاً عن إنسانيته المتناهية. أما عدميته فهي الرد الطبيعي، وإن يكن الأقصى والأقسى، على عدمية النظام الحاكم، الأقصى والأقسى بدورها من كل عدميات أنظمة الحكم في المنطقة. بقيَ حسن في ذاكرتي. وبقيتْ منه صورته الشخصية، وهو يأكل نفسه، وينتقم منها، بالسكر المتواصل، رداً على حياة مغتالة، تخصّه وتخصّ كل المثقفين العراقيين، وهم يعيشون أفدح التجارب مع نظام شمولي متطرف، أوقعهم، بغبائه منقطع النظير، تحت أبشع وأمضّ حصار، عرفه بلد عربي خلال القرن الماضي. كنت أخشى حينها، وربما لا أزال، على حسن، ذي البُنية الجسدية الهشة، من الموت مبكراً، بمرض تشميع الكبد. فسُكره من النوع الوحشي. ونوع المشروب الرديء، الذي لا يوجد غيره في عراق تلك الأيام، لأمثال حسن، يسرّع في ذلك. فحسن دائماً ما يحمل [ بُطل العرق - أو حليب السباع، كما يسمّيه العراقيون ] في يده أو تحت قمصلته. هكذا وجدته منذ تعرّفت عليه، وحتى آخر لقاء، قبل أن تفرّقنا الدنيا، ويهاجر هو إلى مدينة بيرث في آخر قارات العالم.
حسن الطفل، وحسن الشاعر. حسن السكران وحسن الناثر. لكنه دائماً أبداً: حسن المعذّب، العذب. حسن المفجوع والمهجوس بحلم القصيدة. حسن المتوتر كأنّ رياح الفن كلها تحت قدميه. يذهب إلى الكحول، ليهرب من جهامة العالم. ويذهب إلى الكتابة، ليصطاد شفافية العالم. وبين شقيْ هذه الرحى، يدفع من عمره ومن احتياطي صحته، ليظل موجوداً، وليظل مبدعاً. وهو في هذا الصنيع، يتميّز على الكثيرين من الأدباء، بتلك الميزة الجليلة: ميزة أن تكتب من لحمك الحي، من لحم ودم التجربة والمُعاش، لا من موات الذهن البارد، ولا من عتمة الروح السقيمة، التي لا تجد منجاةً، للتغطية على فقرها الإبداعي والإنساني، إلا باللجوء إلى حيل اللغة والملفوظات، والاحتشاد على الصياغة والتوشية والتنميق. إنّ حسن يكتب بعفوية مدروسة، تكاد تكون طبيعةً وفطرةً فيه. وهي ليست كذلك كما نعلم مِن بديهيات الفن. ولذلك يصلنا كقرّاء. فلا مسافات ولا أودية بين نص حسن الأصيل المتفرّد وقارئه أبداً. وإليكم هذا النص المتقشف كمثال: quot;أتعرفون.. لماذا تحبنا الحرب؟ إننا طعامها الوحيد.quot; آه كم في هذا المقطع الشعري من عمق ومن مسكوت عنه ! إنه فقط رأس - سُدس جبل الجليد العائم الذي يُحيلنا بالضرورة إلى أسداسه الخمسة المغمورة تحت المياه ! حين استمعت إلى بعض شعره، أعجبني ببساطته العميقة وصفائه الباهر، لكنني تمنيّت لو يُركّز حسن على كتابة السرديّ والقصصيّ، ويُكمل كتابه الأول عن تجربة الحرب، بعيداً عن آفة التجنيس، فتلك هي منطقته، وفيها تكمن قوته ولمعانه الإبداعي والشعري. لكنني خجلت من الإسرار له بهذه الملاحظة في حينها. وهاأنذا أقولها هنا والآن. أما الأمر الآخر الذي أودّ قوله أيضاً، وهو يشكّل لي هاجساً كابوسياً، فهو شوقي لسماع أنّ حسن كفّ عن تجرّع الكحول بتلك الكميات الهائلة، أو على الأقل، خفّف منها. أشتهي أن أسمع ذلك لكي يطمئن قلبي. ولكي يطمئن أيضاً عقلي، على أنه لن يلقى مصير صديقي الآخر، الشاعر والناقد محسن اطيمش، هذا الوديع الذي فجعني شخصياً بموته المبكر، قبل أن أُسلّمه صورة فوتوغراف تجمعنا معاً مع أمل دنقل، في مسرح السلام بالقاهرة، قبيل موت أمل بشهور قليلة، وكان محسن طلبها مني آنذاك، فتأخرت عن إيصالها له في عاصمة الرشيد فقط ربع قرن ! أريد أن أطمئن على أنّ حسن سيواصل الكتابة والتألق، بما عرفناه عنه من إخلاص استحواذي للفن، فهذا الأخير الكبير، يحتاج إلى صحة، فضلاً عن براح الوقت. والكحول تقتل الصحة وتسرق الوقت.
.. ويا حسن النواب !
سلاماً لك يا صديقي، وسلام على العراق، ما بقيَ فينا من شجنه التاريخي، ومن روحه البغدادية، ومن جلجلة فنانيه المظلومين، ومن ربيع مستقبله القادم.
سلام لك وسلام عليك، في بيرث البعيدة، وأنت تقتل نفسك، من أجل أن تعطينا إبداعاً معمّداً بالخمر، وبالأرق، وبالحب الكبير لهذه البشرية الضالة، ولهذا العالم الظالم. العالم الذي نحبه رغم كل نواقصه، ونودّ لو كان أرفق بمواطنيه، كل مواطنيه، وأرأف وأرحم.