قرأت مقالة الزميل إبراهيم أحمد المنشورة 3. 8. 2006 في موقع إيلافالتي تتحدث عن صمت العرب إزاء معاناة لبنان، فأخذني ذلك للبحث في الموسوعات والمعاجم العربية، وكتب التاريخ في مكتبتي، لأطرد الحزن عني، ولتسيل الدموع على خدودي، وتقطر على لحيتي التي لم أحلقها منذ أن بدأت الأحداث، ورحت أنهمك في القراءة لأجد شيئا يشاركني الحزن، ويعطف علي أنا لأنني في جرح مأساتنا العربية، حتى غلبني النعاس، والمطر يعزف لحنه الليلي على نافذتي في الطابق الثاني من العمارة التي أسكنها، فاندفعت إلى سريري متوجسا من عروبتي، ثم اندفع خيالي إلى الماضي السحيق، فخلال القرون المتمادية القدم، السالفة الدهور، حيث الخزامى والأقحوان والشيح والقيصوم والشقائق، حيث الماء، والكلأ، والشجر، ذلك كان في مكان ظل وريف، وجو لطيف، وخرير الفرات قبالته، المكان أعرابي في تمرته، في أطيب البلدان، وأغذاها، وأوسعها، أنها الحيرة التي أقام فيها العرب بعد التحير فسميت الحيرة، فمنها مما يلي الشرق نحو ميلا واحدا يقع قصر الخورنق العجيب، والسدير في وسط البرية التي بينها وبين الشام مساكن ملوك العرب قبل الإسلام، فيها أيضا منازل ملوك بني لخم، وهم آل النعمان بن منذر بن ماء السماء، وهي أمهم عرفوا بها، وكانوا من أفضل ملوك العرب رأيا، وأظهرهم حزما، لا يدينون على دين ملوك الطوائف، بل يدينون على دين النصرانية حيث ديارات الرهبان، والقصور المشهورة، والمظال، وخيم الشعر، وبيوت المدر، ومن ابتنى فيها من قبائل العرب باتخاذها مسكنا، تعبدوا لملوكهم، وأطاقوا حمل السلاح، وركوب الخيل، لتشتد عظمتهم في طيب المناخ، في عذي الأرض، تنزه الأعين في بديع القصور المشرفة على رياض، وبساتين، وغدران، ومياه، تصفر فوقها طيور، أجل، تلك كانت بنايات حسنة العمارة، متنزهات مقصودة في أماكن موصوفة، أكثر البقاع زهرا ووردا، رقيقة الهواء، تتدفق فيها المياه، مدرجة، ذات طرق سابلة، تصدح فوقها ضرب النواقيس، والطنابير، كثيفة في أيام الربيع بالرياض، والغدران المعتمة بالزهور، محدقة في حسن الديارات : دير الحريق، دير الأسكون، دير مزعوق، دير مارت مريم، دير هند الصغرى، دير هند الكبرى، ودير اللج، ، محدقة في نهر الغدير، محجبة بالنجوم كأن بدور على قصور : العذيب والصنبر، القصر الأبيض، القصور الحمر، دومة الحيرة، كان ذلك في عصور غابرة حيث أراد ملك الساسانين لابنه بهرم جور بن يزجرد بن بهرم بن سابور ذي الأكتاف مكان صحيح الهواء، فذكر له الحيرة، أطلق على القصر الخورنق، وهي كلمة فارسية الأصل معربة من كلمة _ خرتكاه _ وتعني موضوع اللهو والشرب، أو تعريب خورنقاه، وهو الموضع الذي يؤكل فيه ويشرب، فاختار النعمان بن المنذر شخصية معمارية تشرف على البناء من الروم، واسمه سنمار، واستغرق في بنائه عشرين عاما، فكان سنمار هذا يبني فترة ثم يغيب فترة، والنعمان يطلبه، ولا يجده، ثم يأتي، ويتحجج بشتى الحجج، وهكذا حتى اكتمل البناء، وارتفع شاهقا، وكان النعمان واقفا مع حاشيته أمام القصر طويلا، وهو في أحسن زي عليه الصليب، وحلل الديباج المذهبة، وعلى رأسه إكليل العرش الملوكي المفصص بالجواهر، يتطلع إليه بنهم، مدهوشا، مبهورا، يجاذب سنمار الحديث، وهو يكرر في داخله : ( يا لروعة هذا القصر ! )، لقد أفرط في تأمل لا إرادي، جعله ينظر عجبا إليه، كان القصر في أحسن بناء، لما تحيطه من جنينات نخيل، وأشجار، يلبسه من رياض، فمنظره يبهر حسنا وجمالا، وهو أحد متنزهات الدنيا، البر من أمامه، والبحر من خلفه، ضاجا بألوان زاهية تشهد بروعة فن عظيم لموهبة سنمار، الذي كان أمينا لها مما جعل القصر فريدا في زمانه، ذا الألوان، ذا الطراز، وذات اليد المحنكة، المتمرسة، التي أنجزت هذا البناء، فصعدوا إلى قمة القصر، وراح النعمان مفكرا إلى المدى البعيد، فاكتست ملامحه سيماء الجد والغضب، وأخيرا التفت إلى سيمار، وسأله : _ هل تستطيع أن تبني أحسن منه ؟!
فأجاب سنمار، وعلى وجهه ابتسامة فنان :
_ نعم hellip;
ثم أردف قائلا بصوت خافت :
_ إنني أعرف موضع أجرة فيه لو زالت لسقط القصر hellip;
اندهش النعمان من قدرته المتمرسة، فسأله :
_ هل يعلم أحد غيرك بهذا ؟!
فأجاب سنمار بتباهي صريح :
_ لاhellip;
هز النعمان رأسه، وقال :
_ لا ذنب أن أجعل هذا السر مخفيا أبدا hellip;
ثم التفت إلى أعوانه، وقال :
_ اقذفوه إلى الأرض hellip;
هكذا قذف سنمار من أعلى القصر إلى أسفله فضرب العرب به المثل : ( جازاه مجازاة سنمار ). فأغمضت عيني، وأنا أطوف بالصمت العربي، و أغوص في مخيلتي، وأسأل نفسي : هل رماه إلى الأرض حتى لا يبني مثله، أم لأنه كان يستطيع أن يبني أفضل منه، كما يقال أن سنمار قال للملك العظيم : ( أنه يستطيع أن يبني له قصرا يجعله يدور مع الشمس كيفما أرادhellip;)، هذا من التاريخ، وموت سنمار يهمنا، وموت أطفال قانا 2 أيضا يهمنا، ويجري الحديث غالبا أن النعمان شكر سنمار على إتقانه للبناء ثم قتله، لم يبق أمامي إلا أن أردد قول الشاعر، وأنام وحدي في عالم وحيد سواء من التاريخ أو من حضارتنا البشرية، أنام مع قول الشاعر:
جزاني جزاه الله شر جزائه جزاء سنمار، وما كان ذا ذنب
سوى رفعه البنيان عشرين حجة يعلي عليه بالقراميد والسكب