-1-
قال جهاز المخابرات الاسرائيلية الداخلية (الشاباك) أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس يفكر في الاستقالة، في أعقاب تفجر الأزمة الداخلية في حركة quot;فتحquot; وتقديم قائمتي مرشحين باسم الحركة للانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في الخامس والعشرين من يناير /كانون الثاني القادم. وذكرت صحيفة هآرتس في عددها 25/12/2005، أنه خلال مداولات أمنية اجريت أخيراً في تل ابيب، قالت مصادر اسرائيلية ان عباس يمر بمرحلة يأس غير مسبوقة، ولا يستطيع تطبيق أي أمر يصدره في المجال الأمني، ولا يتحدث تقريباً مع قادة أجهزته الأمنية. وزعمت هذه الجهات أن عباس قال، ان اطلاق الصواريخ على منطقة عسقلان والنقب quot;مشكلة اسرائيلية لا ينوي التدخل فيها، وأن على اسرائيل معالجتهاquot;.
وقالت هاآرتس ان الجهات الأمنية الاسرائيلية لاحظت أن نشاط عباس وأجهزته الأمنية شهد على مدار السنة الاخيرة هبوطاً متواصلاً، وصل إلى مرحلة وهن بالغة وأنه باستثناء نشر قوات الأمن الوطني على امتداد الخط الاخضر الفاصل بين شمال قطاع غزة واسرائيل، لم تفعل السلطة الفلسطينية أي شيء ضد اطلاق صواريخ القسام، ولا تستطيع فرض سيطرتها على حركة الجهاد الاسلامي والتنظيمات الأخرى التي تقوم بإطلاق الصواريخ. وتضيف الجهات الأمنية أن احباط عباس نجم بالذات من وضعه السياسي في ضوء تقديرات لنشطاء ميدانيين في حركة فتح، بأن الحركة فقدت كل فرصة للتغلب على حماس في الانتخابات التشريعية القادمة، وأن توحيد قائمتي فتح لن يساعد الحركة وينقذها من الهزيمة.

-2-
فماذا على محمود عباس أن يصنع الآن تجاه هذا الوضع الفلسطيني المتدهور والخطير؟
هل يسكت على هذا الوضع، ويدع الأمور تجرى كما تجري الآن، وكما كانت تجري في الماضي، ويحافظ على كرسيه كما كان يفعل عرفات الذي كان يردد دائماً: ومن بعدي الطوفان. ولقد صدق عرفات في هذا. فقد جاء الطوفان من بعده بالفعل، وهو المتمثل باكتساح حماس وبقية الجماعات الإسلاموية الفلسطينية المسلحة للشارع الفلسطيني والانتخابات الفلسطينية نتيجة لغياب الدولة الفلسطينية العلمانية الحازمة طوال مدة رئاسة عرفات (1996-2004)، وبتحدٍ كبير من حماس والمنظمات الإسلاموية الأخرى للسلطة الفلسطينية، بحيث أصبح عباس غير قادر على اعطاء الأوامر لقواته الأمنية وتنفيذ هذه الأوامر. بل إن السُلطة الفلسطينية التي هي quot;سَلَطَةquot; في حقيقتها، مهددة في أي وقت بالاجتياح ليس من قبل الجيش الإسرائيلي المحكوم بالدولة، ولكن من قبل هذه الجماعات الفلسطينية الإسلاموية المسلحة الفلتانة، التي لم تلتزم بأي التزام حتى بالتهدئة التي أعلنتها في بداية هذا العام، ولم تكن تهدئة بأي حال من الأحوال، حيث لم تسكت صواريخ القسام طوال هذه الفترة. فقد كانت التهدئة تهدئة خواطر أكثر منها تهدئة سلاح.

-3-

على عباس أن لا يسكت عن هذا الوضع، كما سكت من قبله عرفات في سبيل التاج والصولجان.
على عباس أن يكون رجل دولة ليس كأي رجل دولة عربي، ولكن كرجل دولة غربي متحضر. فرجال الدولة العرب لا يستقيلون ولا يرحلون حتى ولو احترق الوطن. أما رجال الدولة الغربيون فإنهم يستقيلون لمجرد هزة واحدة خفيفة في صدقيتهم، وثقتهتم، وشفافيتهم.
رجال الحكم في الغرب يستقيلون ويرحلون لمجرد سقوط طائرة ركاب، أو غرق سفينة، أو فشل في معالجة أزمة ما.
والوطن الفلسطيني سقط اليوم بأكمله في أيدي المسلحين الفلسطينيين، ولم يعد للعقل الفلسطيني من مكان لكي يحكم، ويصرّف الأمور.

-4-
الوطن الفلسطيني سقط في الفوضى العارمة التي تجتاح هذا الوطن من أقصاه إلى أقصاه بفضل الجماعات المسلحة التي تريد أن تجلس على طاولة مفاوضات مع اسرائيل، شرط أن تكون هذه الطاولة ملغومة يمكن تفجيرها بالريموت كنترول عن بُعد.
الوطن الفلسطيني سقط في أيدي الجماعات المسلحة، التي حلّت محل الدولة الفلسطينية طيلة العشر سنوات الماضية، كانت أثناءها قيادة فتح مشغولة بالنهب والسلب والفساد وتوزيع الأموال نقداً على المحاسيب والأنصار لاسكاتهم. وكانت هذه هي نتيجة سكوت الجميع.
الوطن الفلسطيني يغرق، ولا أحد من قيادي فتح قادر على انقاذه. ولذا، قال عباس قولته الصريحة والشجاعة:
quot;ان اطلاق الصواريخ على منطقة عسقلان والنقب مشكلة اسرائيلية لا ينوي التدخل فيها، وأن على اسرائيل معالجتهاquot;.
وهذا اعتراف صريح من عباس بأن السلطة الفلسطينية وهو على رأسها، لم تعد قادرة على ضبط الأمن في الوطن الفلسطيني، ولجم الجماعات المسلحة، وعلى اسرائيل أن تقتلع شوكها بيدها، حيث لا يد للسلطة الفلسطينية لاقتلاع هذا الشوك.

-5-
على محمود عباس أن لا يكون طرطوراً كباقي طراطير العالم العربي الذين لا يغادرون القصور إلا إلى القبور. وعليه أن يقدم استقالته، ويقول للعالم كله بكل شجاعة الفرسان وجرأة المقاتلين، بأنه خسر معركته مع المسلحين الفلسطينيين كما سبق وخسرها عرفات الذي كان أجبن من يعترف بذلك، وبأنه فشل تماماً في اصلاح الحال الفلسطيني المستعصي، وأنه يسلم القيادة للجماعات الفلسطينية المسلحة لكي تقضي على ما تبقى من أشلاء فلسطين، بعد أن قضت الانتفاضة الثانية التي ما زالت مستمرة حتى الآن على كل أمل في اقامة الدولة الفلسطينية أمام اصرار حماس والجماعات المسلحة الأخرى على أن تجلس على كراسي الحكم وهي تحمل السلاح في يد والصولجان في يد أخرى، في ظل اعلام عربي متشنج، يدعو لهذه الجماعات بكرةً وأصيلاً بالظفر والجنة وتحرير فلسطين من البحر إلى النهر.

-6-
ماذا ستستفيد القضية الفلسطينية من استقالة ورحيل محمود عباس؟
الفوائد كثيرة منها:
1- أن يتم الكشف عن الحال الواقعي السياسي للسلطة الفلسطينية أمام العالم كله، بعيداً عن تصريحات البلهاء من المسؤولين الفلسطينيين المطبطبين الذين يقولون بأن أنباء رحيل عباس أنباء مغرضة. لا، ليست مغرضة ايها السادة، ويجب أن نفتح الورم الفلسطيني المتقيح منذ 1996 إلى اليوم، لكي يتولى المجتمع الدولي والشرعية الدولية ادارة الأزمة الفلسطينية - الإسرائيلية. فالدواء المصري بالحجامة والطب العربي التقليدي انتهى مفعوله. وعمرو سليمان وعمرو موسى وعمرو بن العاص، لم يعودوا كهنةً وسحرة، يحملون في جعبتهم أرانب ومفاتيح. ولنعترف بأننا عاجزون كعرب عن اقامة الدولة الفلسطينية حرباً أو سلماً، في ظل سيطرة الجماعات الإسلامية على الشارع العربي والفلسطيني خاصة واستعمال اسرائيل لهذه الحجة. ولا أمل لنا إلا في الشرعية الدولية أياً كانت. والعجز العربي يكبر أمامنا كل يوم، ونقف أمامه كالأطفال.
فما هي القضية العربية التي حلّها العرب منذ الاستقلال حتى الآن، دون تدخل دولي، أو ما يُسمى بتدويل الأزمات، الذي أصبح للعرب كطعام البخيل مأكول مذموم؟

2- أن القضية الفلسطينية الآن أصبحت بحاجة إلى شجاعة في المواقف. ولم تشهد القضية الفلسطينية مسؤولاً سياسياً شجاعاً كمحمود عباس منذ أن وقف تلك الوقفة الشجاعة أمام عرفات وقدم استقالته في 7/9/2003 احتجاجاً على الدولة العشائرية التي كان يقودها عرفات وباقي أفراد العشيرة الفتحاوية. والشجاعة في المواقف مطلوبة الآن لكي يتم افتضاح المخططات الإسلاموية الفلسطينية التي تقف في وجه اقامة الدولة الفلسطينية العلمانية بشتى الوسائل وبحجة أن العدو لا يفهم غير لغة السلاح.

3- بقاء محمود عباس والسكوت على ما يجري الآن، سوف يؤدي بعباس إلى أن يستمر ملكاً يملك ولا يحكم كما هو حاله الآن. فهو يملك ولكن الجماعات الإسلاموية الفلسطينية المسلحة هي التي تحكم في واقع الأمر. وعباس ليس من فئة الحكام السياسيين العرب الذين يملكون ولا يحكمون. إن عباس من شخصيات شكسبير التي تعبر عن وجودها في أن تكون أو لا تكون.

4- استقالة عباس ليست هروباً من تحمل المسؤولية كما يدّعي بعض المستفيدين الفلسطينيين من بقائه في الحكم. استقالة عباس هي اعادة الهيبة لكرسي الحكم الفلسطيني الذي شرشحه وبهدله وكسّر أرجله عرفات. فحاول عباس خلال عام مضى أن يصلح ما أفسده عرفات ويقيم من جديد ما هدمه عرفات، ويُطعم الشعب الفلسطيني الذي أجاعه عرفات، ويكسو الشعب الفلسطيني الذي عرّاه عرفات. ولكن أعداء المستقبل الفلسطيني وبلطجية الشارع الفلسطيني كانوا أقوى منه، فعليه أن يرحل. ولكن قبل أن يرحل عباس عليه أن يقول لنا لماذا سيرحل، بكل صراحة وشجاعة، لكي يبدأ تاريخ الحقيقة الفلسطينية الحديثة من هنا.