لعلنا اتفقنا أن أهم ما يميز العلمانية هي فصلها بين نوعين من التفكير، يختلفان من حيث أسلوب الإنتاج، واصطلحنا على تسمية النوع الأول التفكير المثالي، كمنتج للفكر المحض، والثاني التفكير المادي، الناتج عن اكتشاف العقل للعلاقات المادية في العالم الواقعي، وتخصيص لكل نوع مجال يصلح له، فالفكر المثالي لقضايا الميتافيزيقا وبعض أنواع الآداب والفنون، والمادي لتنظيم الواقع سعياً نحو تطويره، مع التحفظ على جدية نقاء كل نوع من الفكر طبقاً لتعريفه، إذ يتداخل النوعان غالباً، وإن اختلفت نسب الخليط المكون منهما معاً.
مفهوم الوطن أو الوطنية من أهم المفاهيم التي تختلف إذا ما تناولناها بمنهج الفكر المثالي، عنها إذا ما تم مقاربتها بنهج علماني وفقاٌ للتفكير المادي، فالوطن طبقاً للمفهوم المثالي السائد، قيمة عليا متسامية، ينتسب إليها الإنسان الفرد، ويستمد منها كيانه الأدبي، فضلاً عن مقومات وجوده الفيزيقي، ولا أظن أن أحداً يرى في هذا المفهوم ما يستدعي التغيير أو المراجعة، لكن الحقيقة أن كثيراً مما يترتب عليه من تطبيقات على المستوى العملي، قد أصبح غير مقبول ومن مخلفات الماضي، خاصة في الأمم التي سارت على درب العلمانية والتحديث.
المكانة المتسامية للوطن في التفكير المثالي، لم تترك حرة في عليائها، بل - وكما يحدث مع جميع المفاهيم المتسامية – تلقفتها الدولة بصفتها ممثلة للوطن، لتصبح مع الوقت هي الوطن ذاته، وينحرف مفهوم المواطنة ليصبح الانتماء للدولة بدلاً من الانتماء للوطن، وهنا نترك عالم المثاليات المتسامية، هبوطاً إلى الأرض والمادة ممثلة في الدولة بأجهزتها وأدائها المادي العملي، مع الارتباط بها عبر مفهوم مثالي، لتتوالى من هذه النقطة سلسلة من الأخطاء والمغالطات، تحتاج للمراجعة على ضوء التفكير العلماني.
أولها قضية الانتماء، فوفقاً للتفكير المثالي يكون انتماء الإنسان الفرد للوطن أو بالأصح الدولة، فهو الكيان الواحد الذي يجمع الأفراد في وحدانيته، ويعني هذا منطقياً وعملياً أن يكون الإنسان الفرد جزءاً من كل، كسراً عشرياً من مجموع أبناء هذا الوطن، وله ذات النسبة من الحقوق لدى الوطن (الدولة)، التي يتصاغر الفرد أمامها ليأخذ مجرد حجم الكسر العشري الذي يمثله، وهذا هو الجذر الفكري للدول الشمولية، التي تسحق الفرد والأقليات باسم الأغلبية والمجموع، فعلى الفرد والأقلية أن ترضخ لما تقره الأغلبية، ولا بأس أن يتم القهر تحت مسمى الديموقراطية، في مغالطة وخلط فادح للمفاهيم ونهج التفكير (مثالي/ مادي).
لكن في ظل العلمانية، والتي تستبعد الفكر المثالي من التعامل مع الماديات العملية، فإن الانتماء يكون هو انتماء الوطن للمواطن وليس العكس، فالمواطن الفرد هو الواحد الصحيح وليس كسراً عشرياً من مجموع، فالوطن كله ملك للمواطن الواحد الفرد، بالطبع الملكية الكاملة للوطن ليست حكراً على فرد واحد أو طائفة واحدة، مهما كبر عددها أو صغر، ولكنها ملكية كاملة لكل فرد من أفراد الوطن، كل منهم لدية وطن كامل، لا يحق لأغلبية أو أقلية أو حاكم فرد أو أوليجاركية، أن تنتقص من حقوقه فيه، أو من تحقيقه الكامل لذاته وحريته، أو من أن يحيا ويفكر بالطريقة التي اختارها لنفسه داخل ملكه الخاص (الوطن)، مادام لن يفسد بممارساته حقوق باقي أفراد الوطن في امتلاك ذات الوطن كاملاً، كمجال حيوي لتحقيق ذواتهم والاستمتاع والانتفاع بما يمتلكون.
يترتب على هذا المفهوم العلماني للمواطنة أيضاً بطلان دعاوى عديدة، راجت في ظل المفاهيم المثالية، منها قهر الشعب لصالح حكومة قوية تحقق قوة الوطن وسيادته في مواجهة الأوطان الأخرى، فهنالك حتى الآن من يتحدثون عن مجد الاتحاد السوفيتي السابق، متجاهلين أن الشعب كان يرزح في قيوده، هم في الحقيقة يتحدثون عن مجد كيان مثالي متخيل هو كيان الوطن أو الدولة، ومن المنطقي وفقاً لهذا المفهوم، والذي فيه تنتمي فيه الجماهير للوطن، أن نعترف أن هناك مجداً حقيقياً لوطن مهاب يمتلك القنابل الذرية والصواريخ العابرة للقارات، ويحق للمنتمين لهذا الوطن أن يستشعروا الفخار والسؤدد، رغم الهوان والقهر الذي يرزحون تحت نيره.
لكن هذا المجد المدعى يصبح هلاوس خالية من المضمون في ظل المواطنة العلمانية، والتي تستبعد الأفكار المثالية والكيانات المتسامية من ساحة العلاقات المادية الحياتية، لتعتمد النهج المادي، الصالح وحدة لتحديد العلاقات بين الحقائق العيانية، العلاقات بين الوطن الحقيقي المادي كمساحة جغرافية وثروات ومأوى ومجال حيوي لسكانه، وبين الإنسان الفرد الموجود هنا والآن، والذي تربطه بالوطن علاقة ملكية، هنا تكون دواعي المجد والعز والحرية، هي ما يعود على الإنسان الفرد بهذه الأوصاف، ويكون الشعب الروسي الآن يعيش عصراً ذهبياً، مقارنة بحياته خلال ثلاثة أرباع قرن مضت، رغم أن دولته لم تعد مرهوبة الجانب، كما لم تعد قوة عظمى أو إمبراطورية اشتراكية ممتدة باتساع الكرة الأرضية.
نفس هذا يقال عن الشعب العراقي، الذي يتنسم الآن الحرية والمجد الحقيقي بامتلاك مصيره بين يديه بحكومة ينتخبها للمرة الأولى في تاريخه، رغم أن دبابات قوات التحالف تقبض على الدولة التي كانت مصدر رعب وتهديد لجيرانها، وكانت مصدر فخر لزبانية البعث، يستشعرون وحدهم المجد، فيما الشعب المالك الحقيقي للوطن مسلوب الحرية والكرامة، ومن يتباكون الآن في أنحاء عالمنا العربي على كرامة العراق وسيادته المهدرة، محقون وفقاً لتصوراتهم المثالية، فقد ضاعت فعلاً كرامة الصنم المتسامي الذين يتعبدون له، والذي يتصورون أن شعب العراق ينتمي له، سواء تسمى هذا الصنم بمسمى الدولة العراقية، أو رمز له بالقائد الملهم صدام حسين، لقد سقط فعلاً هذا الصنم بسقوط تماثيل صدام في ميادين المدن العراقية، وضرب بالنعال مع صور صدام، أما العراق العلماني الجديد، فهو عراق آخر، عراق لا يمتلك أحداً ولا ينتمي له أو لحكامه أحد، وإنما هو عراق ملك لكل فرد عراقي، هو وطن جديد ينتمي لشعبه ويتسمى باسمهم، يحققون بامتلاكه ذواتهم وإنسانيتهم، لا يعني هذا بالطبع عدم الاكتراث باحتلال الوطن من قبل قوى أجنبية، فهي تشكل فعلاً انتقاصاً من سيادة شعب العراق كأفراد وبالتالي كمجموع، ولن تتحقق سيادتهم الكاملة إلا بخروج تلك القوات، لكننا في معرض المقارنة بين نقيضين، كمثال لتوضيح الفكرة، رغم أن اليابان وألمانيا غير منتقصتين السيادة بتواجد القوات الأمريكية على أراضيهما، والقياس طبعاً مع الفارق، المهم من وجهة النظر العلمانية أن يكون معيار السيادة هو أفراد الشعب، وليس الكيان المتسامي المتخيل.
العلاقات بين أفراد الشعب وطوائفه وأعراقه وأحزابه، علاقات التنافس في الساحة السياسية والاجتماعية بين كافة القوى باختلاف تصنيفاتها، هذه تختلف في المفهوم المثالي عن المفهوم العلماني، أي بانتماء الشعب للوطن أو انتماء الوطن لكل فرد من أفراده، فهي في الأولى علاقة صراع للسيطرة، فكل فئة تسعى بقوتها المادية أو العددية، لكي يتمثل فيها الوطن دون باقي الفئات، لكي تقول كما كان يقول ملوك أوروبا قبل عصر التنوير "أنا الدولة"، وكما تصور صدام حسين وعبد الناصر والسادات، ويكون والحالة هذه على باقي الفئات الضعيفة أن تحيا تحت جناح الفئة المسيطرة، وأن تقبل ما يقدم لها على سبيل الصدقة أو من قبيل التسامح، وينعكس ذات المفهوم على الفئات الأقل قوة، إذ تسعى هي الأخرى إلى الصراع، إن لم يكن للسيطرة، لامتلاك أكبر قدر ممكن من كعكة الوطن.
أما في المواطنة العلمانية، حيث كل فرد يمتلك الوطن بكامله، فالعلاقات بين الفئات لا تتسم بالصراع، وإنما بالحوار لاكتشاف أفضل السبل لتحقيق الامتلاك الكامل لكل فرد وكل طائفة، والتنسيق حتى لا تتصادم ممارسات الملكية الكاملة لأي فرد أو جماعة، مع حقوق الآخرين في ممارسة ملكيتهم.
ضربنا بعض الأمثلة بقدر ما يتسع المجال، لاختلاف بل انقلاب المفاهيم القديمة، إلى مفاهيم علمانية جديدة في شتى المجالات ومناحي الحياة، حياة جديدة يتسيد فيها الإنسان، يمتلك مصيره بين يديه، ويمتلك وطنه، بل ويمتلك الكوكب كله، ملكاً فردياً خالصاً، لي ولك ولأبنائنا وأحفادنا.

[email protected]