المطالبة بأن تفك القوات متعددة الجنسيات ارتباطها بالعراق وتنسحب عاجلا من البلاد هي دعوة عاطفية غير مدروسة وغير محسوبة النتائج ولا تنم عن وعي سياسي مدرك لدور هذه القوات في حماية أمن العراق ومسؤوليتها المباشرة عن اعمار البلاد وتنمية مواردها البشرية والمادية.

فقد ذكرت تقارير أمريكية ان ادارة الرئيس جورج بوش عازمة على حذف فقرة المعونات المالية المخصصة لآعمار العراق من ميزانيتها الجديدة المزمع تقديمها للكونغرس في شهر شباط/ فبراير المقبل.. ما يشير الى ان مبلغ 18.4 مليار دولار المخصص لمشاريع الاعمار قد استنفذت اكثر من نصفه جهود التصدي للارهاب وتأسيس نظام قضائي مستقل واجراءات محاكمة صدام حسين..حيث لا يتوفر في الوقت الحاضر سوى 20% من التخصيصات الاصلية. وأضافت التقارير انه يتعين على الحكومة العراقية الجديدة ودول مانحة ان تتولى مسؤلية الانفاق على مشاريع اعمار البنى التحتية والخدمات وغيرها من مشاريع التنمية المطلوبة في العراق.

ونقلت صحيفة واشنطن بوست الامريكية الاثنين الماضي عن الجنرال وليام ماكوي قائد فيلق الهندسة في الجيش الامريكي تأكيده انه ليس من مسؤولية الولايات المتحدة اعادة اعمار العراق.. فما تفعله حاليا هو مجرد اعطاء زخم لجهود الاعمار.

الجدير بالذكر انه منذ المباشرة بجهود اعمار العراق في عام 2003, وبسبب تصاعد الهجمات المسلحة, حوّل مسؤولون امريكيون ما لا يقل عن 2.5 مليار دولار من مخصصات اعادة بناء الصناعة النفطية ومحطات الكهرباء وشبكات المجاري والمستشفيات والتربية الى برامج بناء قوات الامن والجيش وانشاء سجون محكمة الحراسة تتلائم مع المعايير الدولية.. اضافة الى ان اكثر من 20% من كلفة اي مشروع مدني يجري انفاقها على جهود ردع الهجمات المسلحة على ذلك المشروع وحمايته. وقد أنفقت الولايات المتحدة مئات الملايين من الدولارات لتنظيم عمليات الانتخابات وتأمين العملية السياسية.. و437 مليون دولار لتأسيس قوات حدود عراقية وانشاء نقاط مراقبة حدودية أي اكثر بمائة مليون دولار عن المبالغ المخصصة لآنشاء طرق وجسور ومدارس ومبان حكومية اخرى.

وهذا الفرق الشاسع بين المبالغ المخصصة للاعمار والمنجز من المشاريع جعل (ستيوارت براون) المفتش العام والرقيب المالي المسؤول عن مخصصات الاعمار في العراق يتساءل عن جدوى تخصيص هذه المبالغ الضخمة في الوقت الذي لا تتحقق فيه اية منجزات عمرانية ذات أثر على تغيير حياة العراقيين.

مع هذه الحقائق والارقام.. يتعين على المطالبين بانسحاب القوات متعددة الجنسيات ـ مهما كانت ذرائعهم ـ التريث ومراجعة مواقفهم من هذه المسألة البالغة التأثير على مستقبل البلاد.. فهذه القوات التي وضعت نهاية لآبشع نظام دكتاتوري ما يزال أمامها مشوار طويل في رفع الحيف عن الشعب العراقي رغم الانجازات الكبيرة على صعيد تأسيس نظام ديمقراطي يضمن الانتقال الدستوري والسلمي للسلطة واحترام الحريات الاساسية وحقوق الانسان.

والانتخابات التي ستمهد لتشكيل حكومة جديدة ذات مسؤوليات وطنية كبيرة أملا في استقرار الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستكون ايضا بداية لمرحلة جديدة تتطلب عاجلا ام آجلا انسحابا تدريجيا لهذه القوات ولكن مع عدم فك الارتباط بالعراق.

ان الانتقال من فترة الحكم الدكتاتوري الى مرحلة نأسيس دولة ديمقراطية ليس بالامر اليسير او القصير.. فالتحديات كبيرة على جميع الجبهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ومن اجل النجاح في هذا المضمار ينبغي الاتفاق على ان تُبقي الولايات المتحدة ارتباطها بالعراق ولن تتخلى عنه عند منتصف الطريق.. فالحاجة مستمرة وملحة لآن تؤكد الحكومة الامريكية الالتزام بتعهداتها بحماية العراق واعماره وتنمية موارده البشرية والمادية من اجل تحقيق ازدهار اقتصادي واجتماعي بأقرب وقت نظرا لما تتمتع به البلاد من ثروات وقدرات.

والمطلوب من الجانب الامريكي وضع ستراتيجية بعيدة المدى لدعم برامج التنمية البشرية والتي تعتبر حجر الزاوية في العملية الديمقراطية.. فكلما يتقلص عدد القوات العسكرية كلما يجب ان تتصاعد الجهود الامريكية لوضع خطط متوازنة لتأسيس منظمات المجتمع المدني والتوسع في انشاء الجامعات وتدريب الفنيين والاختصاصيين ـ خصوصا في الميادين العلمية ـ لرفع مستوى الاداء في جميع المؤسسات الحكومية والخاصة.

ويوجد في العراق اليوم نحو 20 جامعة واكثر من 40 معهدا تفتقر الى أبسط مقومات التعليم العالي والذي هو العمود الفقري لآي تقدم على جميع المستويات, وهي بحاجة ملحة الى مبالغ كبيرة لآعادة تأهيلها ولكي ترتقي الى مستويات الجامعات العالمية من حيث المباني والمناهج والمصادر ووسائل البحث المتطورة وأساليب التعليم الحديث.
ان اعادة اعمار العراق تبدأ باتاحة فرص التعليم امام الشباب الذين سيكونون رجال ونساء الحكم في المستقبل, وهذا ما يستدعي ان تقدم الولايات المتحدة وحلفاؤها زمالات دراسية مفتوحة للطلبة العراقيين وتشجيعهم على التخصص في ميادين الطب والعلوم والاتصالات والبرامجيات وتقنيات الادارة وغيرها.. بدل التركيز على العلوم الانسانية والاداب خصوصا في مرحلة البناء الحالية.

وفي هذا الصدد، دعا(أندرو ايردمان) المستشار السابق في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية مؤسسات أمريكية غير حكومية الى مد يد العون والمساهمة في تمويل برامج من هذا النوع، كما حث اطرافا امريكية وغير امريكية مناهضة للحرب الى نبذ المشاحنات السياسية وبذل جهود حثيثة لمساعدة العراقيين الذين يريدون بناء بلدهم واللحاق بركب الحضارة الانسانية.
ان العراقيين مدعوون اليوم الى رفع اصواتهم ومطالبة الولايات المتحدة بعدم فك الارتباط بالعراق، فالبلاد مقبلة على تحولات سياسية كبيرة تتطلب فهما واسعا لآلياتها وادراكا عميقا لمستلزماتها ووسائل انجاحها.. والكل يسعى لتحقيق مصالحه سواء الحزبية او الطائفية او العشائرية او الشخصية بطرق مختلفة قد تكون شرعية او غير قانونية.. لكن التنافس غالبا ما يرافقه عنف غير مبرر ناجم عن عدم نضوج فكري وتصلب وتشنج في المواقف واحتقانات موروثة .. ما يثير القلق بشأن قدرة المجتمع على التطور ايجابيا وخلق مناخ ملائم للتعايش السلمي بين مكوناته.

واذا ارادت الولايات المتحدة فك الارتباط بالعراق فليكن ذلك من خلال تقليص قواتها العسكرية بالطريقة التي يُتفق عليها مع الحكومة العراقية .. ولكن يجب ان لا تعني تلك الخطوة فك الارتباط بالعراق تنمويا وماليا وعمرانيا.. فالمهمة قد بدأت وان التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد لن تكون بالامر اليسير او القصير وانما تتطلب اموالا وجهودا كبيرة ومواصلة الدعم الامريكي لبناء الانسان العراقي سياسيا واجتماعيا وعلميا وانتشاله من عقود الخوف والتردد واليأس والاحساس بالغبن ووضعه على عتبة القرن الحادي والعشرين مؤهلا لبناء مجتمع حضاري مسالم ودولة ديمقراطية مزدهرة.. ولن يتم ذلك الا بعدم فك الارتباط مع الولايات المتحدة.

[email protected]