قبل الحديث عن انتصار حماس في الانتخابات التّشريعيّة الفلسطينيّة وتداعيات هذا الانتصار، أودّ أن أطرح تساؤلا على القارئ العربيّ، طالبا منه مجرّد التّأمّل والاستكناه، وطالبا منه تأجيل الإجابة الفوريّة القاطعة. فبعد الانتخابات الأفغانيّة والعراقيّة والفلسطينيّة التي أشاد بها كلّ المراقبين الدّوليّين والمحلّيّين، وكذلك الفاعلون الأساسيّون على المسرح السّياسيّ في هذه البلدان، أشادوا بنزاهتها واحترامها للمعايير الدّوليّة مقارنة بالانتخابات العربيّة ألأخرى التي جرت في مصر وتونس وغيرهما من البلدان، هل يستطيع العرب أن يقوموا بانتخابات حرّة ونزيهة إلاّ تحت الاحتلال؟ بعد هذا التّساؤل، نعود إلى ما حدث في الانتخابات الفلسطينيّة التي أفرزت انتصارا ساحقا لحركة حماس على حساب حركة فتح.
إذا كان العالم قد أصيب بالدّهشة والذّهول لهذه النّتيجة غير المتوقّعة، فإنّ حركة حماس أصيبت بنفس الدّهشة والذّهول لأنّها لم تعدّ نفسها لهذا الفوز السّاحق. لقد أوقفها هذا الفوز وجها لوجه أمام مسؤوليّة السّلطة، فأفاقت من غيبوبة الوهم على متطلّبات الواقع، ولم يعد أمامها غير خيارين :
الخيار الأوّل هو أن تتناول جرعة أخرى من فقهها السّياسيّ المتخلّف وتنتحر مع من تبقّى من الفلسطينيّين على ذمّة الحياة. والخيار الثّاني هو أن تلفظ إيديولوجيّتها ذات المرجعيّة الأسطوريّة وتبدأ الصّعود على سلّم الواقعيّة السّياسيّة. ولذلك فإنّنا لا نتصوّر غير سيناريوهيـن ممكنين، الأوّل هو سيناريو الوهم، ويتكوّن من المشاهد التّالية :
1.المضيّ قدما في التّحالف مع القوى الإقليميّة الآيلة للزّوال، مثل حزب اللّه في لبنان، والنّظام السّوريّ، والنّظام الإيرانيّ وتنظيم القاعدة. وعندها ستبدأ إسرائيل في تصفية الحركة، ومعها عدد كبير من الفلسطينيّين الذين انتخبوها، وسوف يغمض العالم أعينه عن المذابح والدّمار باعتبار أنّ الشّعب الفلسطينيّ قد قرّر بإرادته الحرّة الانتحار عندما انتخب حماس.
2.اعتماد الأسطورة التي دشّنها الشّيخ أحمد ياسين مؤسّس حركة حماس، وذلك بتحديده عام 2027 نهاية لدولة إسرائيل، حسب قراءته السّحريّة الإعجازيّة للتّوراة والقرآن. وبذلك سوف تعتبر حماس انتصارها تباشير دالّة على صدق النّبوءة، نبوءة مؤسّسها، ولن يكون بوسعها سوى دعوة الشّعب الفلسطينيّ إلى التّحلّي بالصّبر على الشّدائد إلى أن يحين اليوم الموعود.
3.وإذا رأت حماس أنّ موعد تحقّق نبوءة المؤسّس بعيد نسبيّا وأنّ الشّعب الفلسطينيّ لا يمكنه الانتظار طيلة هذا الوقت، فليس على خالد مشعل إلاّ أن يخرج من كمّه وعد أحمدي نجاد الذي هدّد بإزالة إسرائيل إلى الأبد. غير أنّ حماس لا بدّ لها والوضع كذلك من أن تطلب من الشّعب الفلسطينيّ في غزّة والضّفّة الغربيّة اللّحاق بفلسطينيّي الشّتات حتّى لا ينالهم الدّمار الفارسيّ مع الإسرائيليّين وتأخذهم صيحة الملالي، وتعدهم بالعودة بعد هلاك إسرائيل فائزين غانمين... واعتماد هذا الحلّ الجذريّ يعفي حماس من إعادة البناء ومن الرّضوخ إلى شروط المانحين الغربيّين، فما معنى أن تبني شيئا تعرف أنّه سيدمّر عن قريب؟ ولماذا تعترف بإسرائيل، وهي تعلم عن يقين أنّها ستزول بعد فترة وجيزة؟
4.على حماس في هذه الحالة أن تعلن مع حلفائها الحرب على العالم وأن لا تكترث بالعقوبات الدّوليّة حتّى يكون بوسعها حجز مقعد على طاولة المنتصرين على الغرب عندما يتحقّق وعد الملالي المقدّس بتدمير إسرائيل. أمّا أعباء الفترة ما بين تولّي حماس مسؤوليّة السّلطة وتحقّق الوعد الإيرانيّ، فليس أمام حماس سوى مواجهتها بتسريح ربع مليون موظّف في الدّولة الفلسطينيّة والاتّجاه إلى إيران عملا بنصيحة عبد الباري عطوان لطلب ما يكفيها حتّى تديم حياة مليشياتها وتضمن لهم أقواتهم.
في سيناريو الوهم هذا، تكون حماس قد قادت الفلسطينيّين إلى الفوز بالدّارين، دار الدّنيا بانتخابها تحقيقا لمشيئة اللّه، ودار الآخرة بسوق من انتخبوها إلى الفردوس بشكل جماعيّ وبدون حساب.
هذا هو سيناريو الوهم، فماذا عن سيناريو الواقع؟
إنّ حماس التي خاضت الانتخابات التّشريعيّة وحقّقت فوزا غير مسبوق على فتح أمر له أسباب مختلفة. ونذكر من هذه الأسباب أنّ حركة فتح ما عادت تفرّق بين الحركة والدّولة، فاستشرى الفساد بين مسؤوليها وفي كلّ أجهزة السّلطة، كما عمّ الفقر والإحساس بالعبث كلّ شرائح المجتمع. ومن هذه الأسباب أيضا عدم قدرة فتح على كبح الجماعات المسلّحة وتدهور الأوضاع الأمنيّة، ممّا جعل المواطن الفلسطينيّ يرى أنّ هذه السّلطة لا تغنيه من جوع ولا تؤمنه من خوف. كما أنّ حكومة إسرائيل برئاسة شارون عملت على إذلال السّلطة الفلسطينيّة وتتفيهها وعدم الاعتراف بها كشريك، حتّى إنّ الانسحاب من غزّة تمّ من طرف واحد وبدون إشراك السّلطة، ممّا جعل حماس تستغلّ الحدث دعائيّا وتعتبره تتويجا لجهادها حصرا، بحيث أنّ السّلطة لا تملك أيّ دور في تحقيقه. ولا ننسى كذلك دور حماس نفسها والجهاد الإسلاميّ في وضع العصا في دواليب السّلطة وتخريب أيّ مشروع للسّلام وإطفاء أيّ بارقة أمل تحدّ من معاناة الشّعب الفلسطينيّ، وكان ذلك من أجل الإمعان في تشويه صورة السّلطة في عين المواطن حتّى يسهل الانقضاض عليها والتهامها في أقرب فرصة، وهذا ما حصل في الانتخابات الأخيرة.
كلّ ذلك جعل النّاخب الفلسطينيّ يختار حماس، وربّما دلّ هذا على حسّ سياسيّ مرهف لدى الشّعب الفلسطينيّ، للأسباب التّالية :
1.ربّما أدرك النّاخب الفلسطينيّ أدرك أنّ البلطجيّ الذي لا تستطيع إخضاعه إلى القانون، يجب أن تجنّده حتّى يضطرّ إلى خدمة القانون.
2.إنّ النّاخب الفلسطينيّ لا يستطيع أن يعطي صوته لحركة مثل حركة فتح متآكلة بفعل الفساد، ممّا زاد عناءه عناء وفقره فقرا.
3.إنّ حركة فتح لم تستطع أن تحقّق أيّ نصيب من الشّعارات التي أعلنتها، سواء فيما تعلّق بالتّنمية أو القضاء على البطالة أو إنشاء الدّولة أو تحقيق الأمن. والأمر الوحيد الذي حقّقته هو إجراء انتخابات حرّة رأى فيها المواطن فرصة مواتية للإفلات من جحيمها، فأعطى صوته لحماس مراهنا على خياراتها الواقعيّة بتحمّلها مسؤوليّة السّلطة وإكراهات الحكم.
فهل تستطيع حماس اليوم أن تخلع ثوب المليشيا القديم لترتدي الثّوب الذي حاكه لها الشّعب الفلسطينيّ من بطاقات الاقتراع؟ هل من الممكن أن تتحوّل مليشيات تتّخذ من الإرهاب جزءا من برنامجها النّضاليّ إلى حزب حاكم، وهل يمكن لقادتها الذين يعيشون في الظّلام أن يتحوّلوا إلى زعماء يجوبون العالم ويتحدّثون بلغة سياسيّة عقلانيّة مقنعة، تجلب لهم المساعدات لخزينة مفلسة والدّعم لقضيّة مستعصية على الحلّ؟
ولكن هل يمكن لحماس أن تحتفظ بفصائلها الانتحاريّة تزرع بها الموت في المقاهي والمطاعم، وتدير في نفس الوقت الأجهزة الأمنيّة للدّولة تطبّق من خلالها القانون وتضبط الانفلات الأمنيّ؟ كيف يمكن لقادة حماس، وهم رجال الدّولة الفلسطينيّة المقبلون، من وزراء وأعضاء في المجلس التّشريعيّ أن يجتمعوا وأن يتنقّلوا في الدّاخل والخارج بدون رضا إسرائيل التي لا يعترفون بها، والتي يهدفون إلى تدميرها حسب ميثاق حركتهم؟ بأيّ أموال تستطيع حماس بناء البنية التّحتيّة الخربة والإنفاق على الصّحّة والتّعليم وإيجاد مواطن الشّغل وصرف مرتّبات الموظّفين إذا امتنع العالم عن ضخّ المال لخزائن الدّولة بسبب أهداف حركة حماس المعلنة؟
إنّ إكراهات السّلطة تستوجب على حماس إذا أرادت أن تتولّى الحكم أن تنبذ الإرهاب وأن تعترف بإسرائيل، وأن تحدث قطيعة مع القوى الإقليميّة التي تستغلّها لأجندة غير فلسطينيّة. بهذا فقط يمكن لحماس أن تحكم، بل ويمكنها أن تحقّق في حكمها ما لم تستطع فتح أن تحقّقه.
وفي كلتا الحالتين، سواء سارت حماس على سيناريو الوهم أو على سيناريو الواقع، فإنّ مكر التّاريخ سيحقّق أهدافه ممتطيا صناديق الاقتراع، وستنتهي حماس التي عرفناها منذ نشأتها إلى الآن، أي حماس ما قبل الانتخابات. ستنتهي إمّا في هاوية الأوهام وتكون نهايتها تراجيديّة لا قيام لها بعدها، وإمّا باتّباع دروب الواقع الصّعبة التي ستنقلها من منظّمة نصف مقاومة نصف إرهابيّة إلى حزب سياسيّ يحظى باحترام العالم وقد يقود إلى إنشاء دولة فلسطينيّة مستقلّة.
وتبقى أكبر معضلة ستواجهها حماس في تحوّلها إلى حركة سياسيّة واقعيّة هي معضلة ذلك الوحش الذي خلقته ومن الصّعب التّحكّم فيه، أعني به المنتسبون إليها وكوادرها الذين ربّتهم طيلة هذه السّنوات على الحقد والكراهية، ولقّنتهم اليقينيّات المقدّسة التي لا تقبل التّغيير مثل تحريم التّعامل مع إسرائيل وتحريم إقامة سلام معها وعدم القبول بأيّ حلّ سياسيّ لا يقوم على تحرير فلسطين من النّهر إلى البحر.
كيف يمكن لحماس اليوم أن تقنع كوادرها بأنّها مقبلة على انتهاك هذه المحرّمات؟ هذا هو التّحدّي الكبير الذي ستواجهه.
التعليقات