خطاب غروسمان في ميدان السلام بتل أبيب

الخطاب العميق، المؤلم، الصادق، الذي ألقاه الروائي الإسرائيلي المرموق دافيد غروسمان، في quot; كيكار هشلوم quot; بمدينة تل أبيب، بمناسبة مرور عشرة أعوام على اغتيال يتسحاك رابين، جاء في وقته تماماً، وفي لحظة إسرائيلية وفلسطينية شديدة الحراجة، من تاريخ الصراع الدموي بين الشعبين: لحظة بدت وتبدو، وكأنها لحظة الغسق النازلة: إما أن تؤدي إلى مزيد من العتمة والجنون، وإما أن ينبثق عنها فجر جديد يعِد بسلام معقول وواقعي بينهما.

صاحب quot;ها زمان هتساهوفquot; (الريح الصفراء)، و صاحب quot;ابتسامة الجديquot; وسواهما، وقف أمام جمهور كبير العدد، من أنصار حزب العمل وميرتس والسلام الآن، وبحضور كبار رجال دولته وأحزابها وبرلمانها ونُخبها الإعلامية والاقتصادية، وقال ما يجب أن يقال. ما يتوجب على أديب حقيقي قوله لبني قومه. خاصةً بعد صمت ليس بقصير، لجأ إليه غروسمان، عن يأس أو إحباط، أو انهماكاً بمشاغل أدبية خاصة، فلم يعد يُسمع له صوتُ في الشأن العام. لكن وفاة ابنه البكر أوري، جندي الدبابات، في الأيام الأخيرة من حرب إسرائيل على لبنان، وفي وقت، تقريباً، انتهت فيه هذه الحرب المجنونة، زلزلَ الروائي الأب، وأخرجه عن صمته، فكتب هذه الكلمة - الخطاب، ليس فقط بألم الثاكل، وإنما كذلك برؤية الأديب الطليعي صاحب الضمير المعذّب المرهف. وألقاها في ميدان السلام الفسيح بتل أبيب، ثم نشرتها له عدة صحف إسرائيلية وبعض الصحف الكبرى في أوروبا وأمريكا. وعلى حد علمي، لم تنشر كلمته هذه مترجمة بكاملها إلى العربية حتى الآن.

الرجل المثقل بأعوامه الثلاثة والخمسين (مواليد 1954)، والمنجز لعدة كتب أدبية وسياسية، ذكرنا فقط اثنين منها تُرجما للعربية، ومتوفّران للقارئ الفلسطيني والعربي ربما، وقفَ أمام رئيس وزرائه أولمرت، ووزير حربه عمير بيرتس وأسمعهما ما لا يحب الحليفان أن يسمعا.

كانت لحظة مؤسية ومهيبة بجلالها، حين صعد الرجل الخمسيني، وسط ترقب وإنصات عشرات الألوف من الجمهور الكبير، إلى منصة الخطابة، ليقول هذه الكلمة - الوثيقة.
تابعت وقائع الاحتفال المهيب على شاشة الفضائية العبرية، وكنت شغوفاً بسماع ما سيقوله هذا الأديب، الصديق للشعب الفلسطيني، والذي كتب الريح الصفراء (ترجمها المرحوم محمد حمزة غنايم عن العبرية مباشرة) بعد جولات ميدانية كثيرة في الضفة الغربية إبان سنوات احتلالها في عقد السبعينات، فعرّى فظائع وطاغوت هذا الاحتلال، كما لم يفعل أحد من الإسرائيليين من قبل. كتاب كامل خصصه لفضح ممارسات إسرائيل الكولونيالية، وكيف تتصرّف مع سكان البلاد الأصليين، الذين هم نحن.
غروسمان الذي كتب أيضاً أولى رواياته (ابتسامة الجدي - ترجمها إلى العربية عن الإنكليزية الباحث والمفكر حسن خضر، وصدرت عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين عام 96)، وهي، كما يقول حسن في مقدمته quot;الرواية الأولى التي يمثل فيها الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع محورها الأساسي.. والرواية الأولى التي يحتل العربي فيها دور الشخصية المركزية.. والأولى التي أعطت العربي حق الكلامquot;.

غروسمان هذا، وسأنقل هنا بعض فقرات خطابه عن أسبوعية أخبار الأدب المصرية، بترجمة وائل الطوخي، قال التالي في إشارة إلى الحرب الأخيرة: quot;إن إسرائيل لوحت بعضلاتها العسكرية الرهيبة و لكن من خلفها بالتحديد انكشف عجزها و هشاشتها. اتضح أن القوة العسكرية التي في يدنا وحدها لا تستطيع في نهاية الأمر أن تضمن وجودنا. و اكتشفنا في النهاية أن إسرائيل واقعة في أزمة عميقة، أكثر عمقاً مما اعتقدناquot;.

قال غروسمان، بعد ذلك، موجهاً كلامه للجمهور العام: quot;انظروا ماذا حدث لأرضنا الشابة، الجريئة، الممتلئة بالحماس و الروح التي كانت هنا؟ كيف، مثلما في شيخوخة متسارعة، قفزت إسرائيل من مرحلة الرضاعة و الطفولة و الصبا إلي وضع ثابت من التذمر و الوهن والشعور بالحموضة. أكثر من هذا، كيف نواصل الوقوف علي الجانب و النظر، كأنما نحن منومون مغناطيسياً، إلي سيطرة الجنون و الفظاظة، العنف و العنصرية علي بيتنا؟quot;
وأردف بعد لحظات موجهاً كلامه تحديداً لرئيس الوزراء، بعد أن قرّعه واتهمه بأنه ليس قائداً وبأنه فقط يبرع في quot; صناعة الخوف quot; وتصديرها لعموم شعب إسرائيل داخل البلاد وفي الدياسبورا:
quot;سيدي رئيس الوزراء: لا أقول هذه الكلمات من خلال شعور بالغضب أو الانتقام. انتظرت فترة كافية حتي لا أتخذ رد فعل من خلال مشاعر لحظية. لا يمكنك غفران كلامي الليلة بحجة أن الإنسان لا يحاسب ساعة غضبه. بالتأكيد مازلت ممتلئا بالألم، و لكن أكثر مما أنا غاضب، فأنا متألم. تؤلمني هذه الأرض وما تفعله أنت و أصحابك بها لأكثر من 100 سنة ونحن نعيش في صراع. نحن not;مواطني الصراعnot; ولدنا داخل الحرب و تدربنا عليها، و بمفهوم ما كذلك تم وضعنا داخل مشروعها. ربما لهذا فنحن نفكر أحيانا أن هذا التطرف الذي نعيش به لمئة عام هو الأمر الحقيقي، الوحيد. هو الحياة الوحيدة المخصصة لنا، و أنه ليس لدينا إمكانية أو حتي الحق في التطلع لحياة أخري. علي سيفنا سنعيش و علي سيفنا سنموتquot;.
وفي آخر خطابه اختتم قائلاً quot;الصديقات و الأصدقاء: الكارثة التي حلت علي عائلتي و عليٌ مع مقتل ابني، أوري، لم تعطني أي حقوق إضافية في النقاش العام. و لكن يبدو لي أن الوقوف أمام الموت و الفقدان يعطينا نوعا من الصحوة و صفاء الرؤية، علي الأقل فيما يتصل بالتمييز بين الأساسي و الهامشي، بين ما يمكن الحصول عليه و ما لا يمكن. أي إنسان عاقل في إسرائيل، وأعود وأقول، وأيضا في فلسطين، يعلم اليوم بالضبط خطوط التشابه الممكن في الصراع بين الشعبين. تعالوا ننظر للحظة إلي من يمكنه أن يكون شريكا لنا. وضعَ الفلسطينيون علي رأسهم حماس التي ترفض التفاوض معنا بل و ترفض حتي الاعتراف بنا. ما الذي يمكن فعله في وضع كهذا، ماذا تبقي لنا لنفعله؟ أن نواصل و نخنقهم أكثر وأكثر؟ أن نواصل ونقتل مئات الفلسطينيين في غزة، وغالبيتهم الكاسحة مواطنون أبرياء مثلنا، أن نقتلهم ونقتل إلي ما لا نهاية؟quot; ثم ختم بمخاطبة أولمرت: quot;توجه إلي الفلسطينيين يا سيد أولمرت، توجه إليهم متجاوزا عن قائد حماس. توجه إلي المعتدلين فيهم. هؤلاء الذين يعارضون مثلك ومثلي حماس و طريقهم. توجه إلي الشعب الفلسطيني، تحدث إلي ألمهم و جرحهم العميق، اعترف بمعاناتهم المتواصلة، لن ينتقص هذا منك و لا حتي بمكانة إسرائيل في مفاوضات مستقبليةquot;.

quot;.... فقط القلوب هي ما سوف يتفتح بعضها للآخر، و لهذا التفتح قوة عظمي. قوة مستقرة طبيعية تشمل عليها الشفقة الإنسانية البسيطة - بالتحديد في وضع كهذا من الجمود و الكراهية. تطلع إليهم مرة واحدة ليس عن طريق مهداف البندقية و لا الحاجز المغلق. سوف تري هناك شعبا لا يقل عذابا عنا، شعبا مقموعا و محتلا و يعيش بلا أمل quot;
quot;بالتأكيد أن الفلسطينيين مسئولون كذلك عن الطريق المسدود. وبالتأكيد لهم نصيب محترم من فشل عملية السلام. و لكن انظر إليهم للحظة واحدة نظرة مختلفة، وليس فقط إلي المتطرفين من بينهم، ليس فقط إلي هؤلاء الذين هم علي علاقة عهد ومصالح مع المتطرفين بيننا. انظر إلي الغالبية الكاسحة لهذا الشعب البائس، والذي يرتبط مصيرنا بمصيره شئنا أم أبيناquot;.

quot;قدم لهم عرضا ليكن عليهم أن يقرروا هل يستجيبوا له أم يظلوا رهينة للإسلام المتعصب. اذهب إليهم بالمشروع الشجاع و الأكثر جدية الذي يمكن أن تقدمه إسرائيل، بمشروع يعرف كل إسرائيلي و فلسطيني عاقل أنه خط الرفض و التنازل الأخير لنا و لهم.... لا نملك وقتا. إذا ترددنا، بعد فترة قصيرة سوف نشعر بالحنين لمداعبات الإرهاب الفلسطيني. سوف نضرب علي رؤوسنا و نصرخ - كيف لم نعمل كل مرونتنا في التفكير، كيف لم نعمل كل الإبداعات الإسرائيلية لأجل اجتثاث عدونا من داخل فخهم الذاتي.quot;

هذه تقريباً أهم ما احتوى عليه الخطاب من فقرات. ونحن بدورنا، نحن الذين هم أعداء إسرائيل اليوم، وشركاؤهم في الحياة والبلاد غداً، شركاء مستقبلهم القريب أو البعيد، نأمل ألا تضيع صرخة الأديب المرموق سدى، وألا يكون حالها مع أولمرت وبقية أركان حكمه، كحال المُنادَى في بيت الشاعر العربي الشهير: لقد أسمعت لو ناديتَ حياً... ولكن لا حياة، ولا أذن ولا ضمير ولا قلب لمن تنادي. نقدّر صرخة هذا الرجل ونحترمها عالياً: نقدر شجاعته ونزاهته وضميره الذي يليق حقاً برجل أدب وفكر ورؤى عميقة. نقدّر له مواجهته لجمهوره العام، و نُخب بلاده، على اختلاف أنواعها وأشكالها، بالحقيقة وبسيف الحقيقة الجارح فحسب. فهذا هو دور الأديب في كل وقت، فما بالك في الأزمات، واختلال المعايير وعماء البصر والبصائر. تحية لك يا دافيد غروسمان، وتحية لمن هم سائرون في دربك درب السلام والمحبة، درب الصدق مع النفس ومع الآخر: مع العوام ومع النخبة. حديث واحد لا يتلوّن بلون الإناء الموجود فيه. ونأمل يا دافيد ألا تكون صرختك الضميرية هذه في مهب الريح. فلقد تعبَ شعبانا حقيقةً، وقد آن أوان أن تسكت كل آلة حربكم الرهيبة، ويرحل احتلالكم البغيض عن أرضنا. أما تطرف حماس الذي أشرت إليه، فلا تنس أنه تطرّف ردّ الفعل على فعلكم المتطرف الأول وهو الاحتلال. لا أدافع عن حماس، بل إنّ لي معها من الخلاف والافتراق، فكرياً وسياسياً، أكثر مما تظن. لكنني أقول الحقيقة التي تعرفها، والتي لم تتجرأ على قولها أمام جمهورك المتنوّع المشارب. إننا جميعاً خَدَمُ الحقيقة، وإني لواثق أنك تعرف هذه الجزئية أيضاً.

تحية لك، وبالذات لأنك لم تعط جمهورك الهائل العدد تلك (البضاعة) التي كان ينتظرها من أب مكلوم ثاكل. لم تهدهده، ولم تربّت على كتفيه المثقلتين بأوسمة قتل الضحايا. بل واجهته، وفي لحظة عاطفية شديدة الكثافة، بأقيانوس العقل والضمير. ولكَم أحلم يا دافيد، لو يخرج من بين ظهرانينا، أديب مثلك، فيواجه رئيسه بما واجهتَ أنتَ.
لكنّ هذه قصة أخرى، وصيرورة تاريخ طويل!