وأخيرًا، حطَّ البابا بنديكتوس الرحال في تركيا المسلمة، حاملاً معه رسالة مخلصة ليس لتركيا فقط، بل للعالم الإسلامي قاطبة. رسالة مؤدَّاها quot;التفاهم والحوار بين الثقافاتquot;. حوار ينطلق من أسسس دينيَّة، يجب أن يستمرَّ ويشجَّع حتَّى يقضي على الجهل والتعصُّب ونفي الآخر. البابا بندييكتوس السادس عشر، رسول الكنيسة الكاثوليكيَّة في العالم، بل رسول المسيحيَّة، أتى حاملاً رسالة إنسانيَّة للمسلمين أن quot;تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَاquot;، فلتكن الاستجابة أيضًا رسالة مسلمة إنسانيَّة تتأكَّد فيها مبادئ السماء، وتنتفي فيها سياسات الأرض ومصالح المذاهب التي تبتعد في مجملها عن جوهر الدين، وتبثُّ البغضاء والشحناء بين البشر. وحبَّذا لو تجد رسالة البابا صدًّى كريمًا في الغرب، ولا سيَّما في الذين يتَّخذون quot;المسيحيَّة الأصوليَّةquot; ستارًا لنفث سمومهم، والإساءة للمسلمين دينًا، وللعرب عرقًا وثقافة وتراثًا.
هل يوجد خلاف بين المسلمين والمسيحيِّين؟ وهل يسود التعصُّب والجهل في شرائح واسعة من أتباع هاتين الديانتين الإبراهيميَّتن، وتتغلَّب فيهما العاطفة على مسار العقل والحكمة، ولا سيَّما في بلادنا العربيَّة، مولد المسيحيَّة الحقَّة وموطن المسيحيِّين الأصليِّين؟
نعم، هناك خلاف. لذا، كان لا بدَّ من الحوار والتفاهم بين رؤساء هاتين الديانتين، وكان لا بدَّ من التوصُّل لرغبة صادقة في تفهُّم معتقدات الآخر، والعيش معها، والتأكيد على ثوابتها، وترك متغيِّراتها حتَّى يتمكَّن الأفراد من حياة كريمة تبعدهم عن متاهات الخوض في الصراعات المذهبيَّة البغيضة. ومَن أجدر بمثل هذا الحوار والتفاهم من رأس الكنيسة الكاثوليكيَّة، أكبر quot;دينquot; سماوي، مع رجال دين مسلمين، يمثِّلون ثاني أكبر دينٍ على وجه البسيطة! صحيح أنَّ العاطفة والانفعالات وردَّات الفعل التلقائيَّة، كما تبدَّت في مظاهرات الشجب والتنديد التي تعمُّ الشارع المسلم، قد تعبِّر عن جانبٍ من نظرة المسلمين إلى مَن يسيء لدينهم قاصدًا أم غير متعمِّد، ولكن يبقى العقل والمنطق والمجادلة بالحسنى هي المعبِّر الأصح عن تفاعل هذا الدين مع ذاك. ولا شكَّ في انَّ زيارة البابا لتركيا، تأتي في هذا السياق. فاللقاء المباشر والحوار الصادق هما في نهاية الأمر ما يعوَّل عليهما في نشر المحبَّة والسلام وقبول الآخر على الأرض، وربَّما في السماء.
نعم أيضًا. يسود جهل وتعصُّب في شرائح واسعة من أتباع الديانتين السماويَّتين وفي الديانة الأخرى السماويَّة- اليهوديَّة- وفي الديانات والمذاهب الأخرى التي ليست السماء مرجعها أو منطلقها. يسود جهل وتعصُّب في مجتمعاتنا العربيَّة حيث يتواجد أهلنا المسيحيُّون فيها، وهي سورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق ومصر والسودان. وهاتان الآفتان تنخران في مجتمعاتنا، وتفتكان في بشرهما دون تفريق بين مسلم ومسيحي، وقد عانينا منها الكثير، وما نزال. ونراها تنعكس علينا في المغتربات التي ارتضيناها طواعية أو مكرهين أوطانًا بديلة لنا، وأصيلة لأبنائنا وأحفادنا، لتنعكس على قضايانا المصيريَّة سلبًا، وعلى واقعنا حسرة وألمًا. هنا، يأتي دور الحكومات ورجال الدين في القيام لواجباتهم، وتحكيم ضمائرهم وعقولهم رأفة بالمواطنين وصونًا لكراماتهم وضمان مستقبل أبنائهم. فالمسيحيَّة والإسلام توأمان لا ينفصلان في مجتمعاتنا العربيَّة، وأيُّ مساس بأحدهما يضير الآخر، ويفقده كنه جوهره، ويشوَّه مظهره. وما من عاقلٍ ينزل الضرَّ بنفسه. فإلامَ تعشو الأبصار غشاوة الجهل واللامبالاة ونستمرئ الضلالة ونعْمَهُ فيها! ألم يأتِ القرآن الكريم بفصل القول حين يخاطب أتباعه: quot;لا إِكْرَاهَ فِي الدِّيْنِquot;، و quot;لَوْ شَاءَ رَبًُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَquot;؟ أَلَمْ يوجِّهنا سبحانه وتعالى بالحوار الهادئ ولين الطباع بقوله: quot;أُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِquot;، و quot;وَجَادِلُهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيْلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَquot;؟ أَلَمْ يؤكِّد ذلك زيادة في التوعية واتِّباع أوامره، وحرصًا على المسلمين ومَن يجادلونهم في قولِّه جلَّ جلاله: quot;وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ اُمَّةً وَاحِدَةًquot;. ثمَّ أليس للمسلمين في رسولهم الكريم أسوة حسنة! فإلامَ يتَّبع هؤلاء أهواءهم ويحرِّفون الكلم عن مواضعه. وما ينطبق على المسلمين، هو ذاته الذي تحضُّ عليه تعاليم السيِّد المسيح في الأنجيل. فلنأتِ إلى كلمة سواء بيننا.
لذا، أرى أهميَّة زيارة البابا لبلدٍ مسلم، وانطلاقًا من فهم واقع المجتمعات العربيَّة وتميِّزها بكونها مهبط الرسالات السماويَّة، يحرص الحبر الأعظم على دوام الانسجام والعيش المشترك لجميع أبنائها فيها. وحبَّذا لو وجِّهت له دعوات مماثلة من الدول العربيَّة جمعاء، والدول الإسلاميَّة ليتواصل الحوار، وينتفي quot;صراع الحضاراتquot;، أو حقد مَن يروِّج لمثل هذه السموم بين الشعوب. فبالحوار وتبادل الآراء بالحسنى تزول الفوارق، وتتلاشى الأحقاد، ويرى في الآخر متممًّا له وليس نقيضًا لما يؤمن به أو يعتقد بصوابه. فالحقيقة ضالَّة المؤمن، وجادَّة الصواب.
لقد كان البابا واضحًا وصريحًا في زيارته لتركيا، وليكون رجال الدين المسلمين على هذا القدر من الشجاعة والصراحة والوضوح، بصرف النظر عن انفعالات الشارع وردَّات فعله الصابونيَّة التي لا تعود إلاَّ بعكس ما يراد منها. دع المسلمين والمسيحيِّين واليهود يكفُّوا عن الاقتتال على السماء، ليكسبوا الأرض ورضى فاطر الأرض والسماء، وخالقنا جميعًا، ويؤمِّنوا لبني البشر مستقبلاً تنعم فيه البشريَّة بأمن وعدلٍ وسلام وازدهار.
نِعِمَّ ما فعلت تركيا بدعوة البابا التي تلقَّاها بالخير والإيجاب! ومهما كانت أسباب الزيارة سياسيَّة أم دينيَّة، ستعود بلا شكَّ على الجميع بخير. وعلى شرقنا بالتفاهم والحوار البنَّاء والمُجدي. جاء قداسته حاضًّا وناصحًا، أن يرتفع الدين عن بؤر العنف والإرهاب، وأن تبتعد السياسة بآفاتها عن سموِّ رسالات السماء. رسالة صريحة وواضحة للبنلادنيِّين والقاعديِّين المسلمين، وللذين يكِّلمهم الربُّ وهم في مخادعهم في أمريكا، والبيت الأبيض تحديدًا.
ولا ضير في أن أعيد ما كنت قد قلته في مناسبة أخرى: لقد مدَّت لنا يدُ خيرٍ ومحبَّة، فلنمدد لهم مثلها أو أحسن منها، فنحن في الإيمان أخوة، وفي حضارة تستمدُّ قوَّتها وروحها من تعاليم الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى، ومن رسالة السيِّد المسيح كما لخَّصها إنجيل مرقص: quot;الرَّبُ إلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ، فإحِبَّ الرَّبَ إلَهَكَ بِكُلَّ قَلْبِكَ وَبِكُلِّ نَفْسِكَ وَبِكُلِّ فِكْرِكَ وَبِكُلِّ قُوَّتِكَ.quot;
وانطلاقًا من تراثنا وتعاليمنا وثقافتنا، نقول لقداسته: quot;لقد جئت أهلاً ووطئت سهلاً، ونواك الله في حلِّك وترحالك.quot;
* نائب رئيس نادي الصحافة الوطني الكندي ndash; أوتاوا
رئيس المركز العربي الكندي للثقافة والإعلام - أوتاوا
[email protected]