التقرير الذي أبدعه وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر والمتعلق بالوضع في العراق، وكيفية quot;زوغانquot; الأميركان من هذا البلد دون تحمل المزيد من الخسائر، لم يكن مستغرباً في أصله. المستغرب هو أن تأتي النصيحة من بيكر مغايرة، أي أن يدعو بلاده التي تعتبر القوة الكبرى في العالم إلى ضرورة مواجهة بؤر الإرهاب ومحاور الشر في المنطقة. أن ينادي واشنطن مثلاً لتطويق نظام الملالي ذي الباع في ممارسة الإرهاب الدولي قبل أن ينجح في صناعة القنبلة النووية وفرض كلمة quot;وليه الفقيهquot; على باقي العالم، وأولهم أميركا. المستغرب في الأمر كان، حقيقة، أن يطالب بيكر إدارة بوش بتقليم أظافر النظام السوري، الذي تسرح وتمرح أجهزته المخابراتية في لبنان لتفخخ وتغتال على كيفها. ليكف، إستطراداً، عن تجهيزه وتسييره لقوافل quot;المجاهدين العربquot; وتحويلهم صوب محافظتي دير الزور والحسكة لتمريرهم لمناطق المثلث السني، ليبيعوا الموت الأحمر quot;لأبناء الشعب العراقي الشقيقquot;..!.
كان يحق للمرء أن يستغرب، فيما لو ضم بيكر تقريره المقترحات الآنفة. أما وقد نصح الرجل بلاده quot;بتسليم السلطة للعراقيينquot; وquot;إعادة القبضة الحديديةquot; بغية تطويع الناس وترويضهم من جديد، وquot;ربط الأطراف بالمركزquot;(عن طريق الكرباج طبعاً) وquot;التفاوضquot; مع ملالي طهران وبعثيي/مافيوزيي دمشق بغية إقناعهم بضرورة ترك العراق لأهله، فإنه ـ أي بيكر ـ أثبت إخلاصاً عتيقاً لمبادئ وquot;حيل السياسةquot; التي تربى عليها، في ظل الحرب الباردة. وهو بذلك يسير على الخط الأميركي العتيق (الذي قيلَ لنا أن واشنطن غيرته وطلقته بالثلاثة، حينما ضٌربت في 11 سبتمير) والذي يدعو لمغادرة مناطق الأزمات وتسيير شوؤنها عن طريق وكلاء محليين وأمراء حرب: تٌرسل لهم الأسلحة عن طريق السي آي إيه، ويلتقيهم موظف الأزمات الأميركي بطائرة الهليكوبتر بكل سرية، وبشكل دوري، حين تزويدهم بالأوامر والأموال!!.
لو كان الأمر كما يقول به بيكر، quot;بإشراك كل من طهران ودمشقquot; في الأزمة، وquot;تسريعquot; سحب الجيش الأميركي ( حتى بلوغ 2008) وquot;إعادة النظرquot; في الفيدرالية وquot;رسم خريطةquot; توزيع السلطات من جديد، إذن يبقى السؤال لماذا كلفّت واشنطن نفسها النزول لساحة الشرق الأوسط وقيادة عملية إسقاط النظام العراقي، بعد حملة دعائية كبرى دامت عامين متواصلين، وكان عنوانها أسلحة الدمار الشامل. وكبدت نفسها خسائر تقدر بمئات المليارات من الدولارات وآلاف القتلى والجرحى، والحال هذه؟.
تقرير بيكر، لو أخذت به الإدارة الجمهورية الحالية (وهو ما نستبعده) هو عود إلى بدء في حقيقة الأمر. هو إعلان لفشل التدخل الأميركي وquot;الحرب الإستباقيةquot; على الإرهاب الإسلامي الذي طالّ واشنطن ونيويورك في 11 سبتمبر 2001 والهجمات الإرهابية التي وقعت في مدريد 11 آذار 2004 قبل الإنتخابات، والتي دفعت الناخبين الأسبان لإسقاط حكومة خوسيه ماريا أزنار المؤيدة للتدخل الأميركي، وتحقيق هدف تنظيم القاعدة في معاقبة أزنار على تحالفه من بوش. كما يعتبر إندحاراً بريطانياً، في معنى آخر، أمام الإرهاب الذي ضرب لندن في 7 تموز 2005 وقتل العديد من الأبرياء.
والحال، فإن التقرير الذي صدر في الأيام القليلة الماضية، والذي لم تعلن الإدارة الأميركية موافقتها عليه بعد، بل وعبرّ كبار أركان هذه الإدارة عن عدم إرتياحهم وتقبلهم لنصائحه، وإنهم سوف يمضون في العراق، لحين quot;إكمال مهمتهم هناكquot; ومساعدة الحكومة العراقية الحالية، يٌعتبر نكوصاً خطيراً، وغير مسبوق، في الحرب العالمية بقيادة الولايات المتحدة على الإرهاب الإسلامي.
صدور التقرير بهذا الشكل، وتركيزه على quot;دور محتملquot; لطهران ودمشق في عملية إستقرار العراق، أوجد حالة من الثقة بالنفس وبصحة quot;الخط الإستراتيجي/الهلال الشيعيquot; الذي تتبعه طهران ودمشق. فهاهو نائب الرئيس السوري فاروق الشرع يٌجاهر بتدخل نظامه في الشأن اللبناني، ويُطالب الحكومة الشرعية بالرضوخ لمطاليب المعارضة الموالية (أو العميلة: في توصيف أدق..) وذلك بعد ساعات فقط من صدور تقرير بيكر الذي يحاول شرعنة هزيمة واشنطن أمام قوة الإرهاب في العالم. وهاهو، كذلك، حسن نصر الله زعيم منظمة quot;حزب اللهquot; الأصولية يقرر إنزال أتباعه للشارع، ويبدأ في تطبيق خطة جهنمية تسير على مراحل حثيثة بغية إحقاق quot;الوعد الصادقquot; في quot;تخريب لبنان على رؤوس أهلهquot;. وهو يستمد بأسه من موقفي الملالي وعصابة الشام، والذين يبدو إن جهودهم الشريرة في تدمير العراق قد أتت أوكلها، وهاهي واشنطن تفكر في الفرار وترك العراقيين يواجهون مصيرهم الأسود بين يدي الإيرانيين والبعثيين، ومن لف لفهم من قاعدة وتكفيريين وجماعات الضاري والصدر، وبقية سقط المتاع إياه..!.
لتعلم واشنطن إن الهزيمة في العراق تعني في وجه آخر، هزيمة قاسية ومكلفة جداً أمام قوى الإرهاب الإسلامي الناهضة في العالم الأن. وبدل التفكير بالفرار وترك الميادين لأناس متقاتلين لايجمع بينهم سوى البغض وتصفية حسابات أورثها quot;السلف الصالحquot;، يجب التفكير بوضع آلية جديدة لتسيير شؤون هذا البلد، يكون التقسيم أحداها. فمن المكلف حقاً الجمع بين أناس لايستطيعون العيش معاً. أناس يسوقون التهم وquot;الكبائرquot; في حق بعضهم البعض، ويتلذذ الكثيرون منهم بمناظر جز رؤوس الفريق الآخر!!.
المنطقة كلها بحاجة للتغيير، بحاجة لإعادة رسم الخارطة من جديد. بحاجة للإرادة القوية والحضور العسكري المقتدر، القادر على منع أية قوة خارجة عن القانون إمتلاك السلاح المهلك، لتنفيذ أجندة خطيرة، ستجر وبالاً رهيباً على البشرية فيما لو طٌبقت...
تطويق محاور الشر، وضربها استباقياً، وعدم تمكين هذه القوى من تصدر المشهد والتحكم quot;بكروت اللعبةquot;، هو الحل. ماعدى ذلك هو الخطأ القاتل بعينه.
وشتان، هنا، لو آثرت واشنطن الهرب من المنطقة الآن، مديرة ظهرها لها، معتقدة الخلاص والنجاة، لأنها حتماً سوف تعود قريباً، وربما إثر ضربة أخرى أكبر. كما عادت بعد عشرين عاماً من الضربة القاسية التي تلقتها من quot;وكلاء الملاليquot; وذراعهم الأطول في بيروت عام 1983م، وكلفتها 240 جندياً أميركياً؟!.
التعليقات