المحرقة اليهودية، حقيقة ٌ لا ريبَ فيها ولا لبْس : هذا ما يجزمُ به أهل الغرب؛ حدّ أنهم، في الآونة الأخيرة، إشترعوا قانوناً يُجرّم كل من ينكرها، بشكل أو بآخر. ولكننا، هنا في المشرق الإسلامي، لا نأخذ بمثل هذا القول، بل ونعتبره برهاناً جديداً على مدى تأثير quot; اللوبي الصهيوني quot; في ديار الغرب نفسها. موضوعياً، تبدو تلك المحرقة ( أو الهولوكوست، بلغة بني الأصفر ) كما لو أنها حقيقة واقعية؛ بدليل الكمّ الهائل من الأفلام الوثائقية، المُنتجة على مرّ العقود الستة، المنصرمة، علاوة على الأماكن التي شهدتْ تلك الإبادة الجماعية؛ من معسكرات إعتقال وسجون وعنابر، بقاعاتها ومهاجعها ومحارسها و.. أفرانها. بيْدَ أنّ هذا جميعاً، لا يهزّ في شيءٍ قناعة الكثيرين من أهل العروبة والإسلام : ألمْ يتحدَّ بعضُ المؤرخين الأوروبيين تلك الحقيقة، المفترضة، ملقين ظلالاً من الشكّ عليها؛ أو على الأقل، على حجمها من حيث عدد الموتى ؟.. ألم يقدّم أحد أولئك الباحثين حريته الشخصية، قرباناً لنظريته حول ذلك العدد من ضحايا المحرقة ؟ كان هذا الأخير، كما أذكر، قد عرضته لنا فضائية خليجية، معروفة، وهوَ يشرح للمشاهدين quot; لغز quot; ما كان يعتقدُ أنها مجرد أرقام مبالغ فيها للغاية، بخصوص أولئك الضحايا : كان معظم اليهود ـ يقول باحثنا ـ سواءً في ألمانية أو جوارها، بحالة مادية جيدة. فما أن عرفوا بالمصير الذي ينتظرهم بعيدَ إستيلاء هتلر على سلطة الرايخ الجرماني، إلا وإنتهض كل منهم إلى تدبير أمر الرحيل عن أوروبة. هكذا، توالى تسللهم إلى سويسرا ـ البلد المحايد ـ ومن هناك كانوا يسافرون إلى الولايات المتحدة بأوراق مزورة، غالباً. وعلى هذا، بحسب ذلك الباحث دائماً، إعتبرَ هؤلاء المهاجرون بعداد المفقودين، وجرى تصنيفهم إعتباطاً في خانة ضحايا النازية. إلا أنّ هذه النظرية، الملفقة، لم تصمد أمام قرائن عديدة، مناقضة لها : ومنها، أنّ مئات الآلاف من ضحايا تلك المحرقة، كانوا قد أودعوا حسابات ومدخرات في عدد من أشهر البنوك السويسرية. وبما أنه ما عاد أحدٌ من أولئك الضحايا كيما يتسلم وديعته، طوال الفترة التي أعقبت هزيمة النازية، فقد جرى التكتم عليها من لدن أصحاب البنوك تلك؛ حتى تمّ مؤخراً كشفها في فضيحة مدوية، معروفة التفاصيل.
جدير بالتنويه، في هذا المقام، أنه سبق للعاصمة اللبنانية، قبل بضعة أعوام، أن إستضافت quot; مؤتمراً علمياً quot; بشأن الهولوكوست اليهودي، دعيَ إليه باحثون ـ أو سمهم ما شئتَ ـ من بلدان عربية مختلفة. ما كان للمؤتمرين المجتمعين في بيروت، إلا أن يخرجوا بنتيجة مماثلة ( كيلا نقولُ، منسوخة ) لما نتجَ عن quot; نظرية quot; ذلك الباحث الغربي، السالفة الذكر. ولنتذكر، قبل كل شيء، أنّ موطن الأرز وقتئذٍ، كان يستظلّ بالوصاية السورية؛ وبكل ما في منظومتها من شحن قوميّ / طائفيّ، ذي المهمة الأساسية : وهيَ التغطية سياسياً على نهب لبنان وإبتزازه وسلبه حريته وتقويض إستقلاله ونظامه الديمقراطي. كان إختيار بيروت، تحديداً، لعقد مؤتمر الهلوسة العروبية ذاكَ ـ وليسَ دمشق، مثلاً ! ـ له علاقة أكيدة بما يُسمى quot; المقاومة الإسلامية quot;، التي كان وما فتيء يتعهدها حزبُ آيات الله، في الجنوب اللبناني. لا غروَ إذاً، أن ينعقد مؤتمر طهران أخيراً، حول المحرقة اليهودية، فيما مقاومة الحزب الإلهي قد دخلت في نقلة نوعية أكثر جدّة : فها هيَ الآن، وقد أضحى ساحة ً لجهادها قلبُ بيروت ذاته، تمهيداً لحرب الشوارع الأهلية المنتهية، بتفكير سدَنتها، إلى الإنقلاب العسكري على الحكومة الإستقلالية؛ الإنقلابُ، الخادمُ الأمين للأجندة السورية الإيرانية. غنيّ عن الإشارة هنا، أنّ في أولويات تلك الأجندة هنا وهناك، قطع الطريق المؤدي لدمشق على المحكمة الدولية، الخاصة بجريمة إغتيال الحريري، مثلما إرباك المجتمع الدولي الساعي لمنع طهران من إمتلاك أسلحة نووية. إنّ توجيه الأنظار نحو ذلك المؤتمر، وفق الخطة الخبيثة لحكام طهران، سيكون له كما هو متوقع، ردود أفعال سلبية جداً من جانب الحكومات الغربية. وهذا هو بيت القصيد، من عقد مؤتمر طهران حول الإبادة اليهودية : إننا عندئذٍ نكون في موقع الهجوم دفاعاً عن برنامجنا النووي خصوصاً؛ ونجعل مجتمعاتنا الإسلامية مشحونة، بإستمرار، ضد هذا الغرب المماليء للصهيونية. وهذا ما دأب عليه أحمدي نجاد، منذ مفتتح عهده الرئاسي الميمون؛ بإعطائه التصريح تلو التصريح، بضرورة إزالة دولة إسرائيل عن الوجود.
قضية فلسطين، هيَ بعد كل شيء، قضية الأنظمة الثورية، الإنقلابية، عروبية كانت أم إسلاموية. هذه وتلك، إشتغلتْ بالقضية الموسومة على مرّ عقودٍ لإشغال شعوبها، المستعبدة، عن التفكير بحريتها وكرامتها وخبزها وشحارها؛ من نكبة 48 إلى نكسة 67 ، مروراً بهزيمة اليمن 65. ثمّ كانت ثمانية أعوام من حربٍ ضروس، رميَ قرباناً لها زهرة شباب العراق وإيران : وبالمقابل، كان نظاما صدام وخميني، المتناحرَيْن آنذاك، يرفع كل منهما عقيرته فداءً للقدس الشريف، معلناً أنّ الطريق إليها يمرّ من عاصمة خصمه. ثمّ سقط صنم بغداد، وأصبح المحرر الأمريكي جاراً، ثقيلاً، على أسوار الجمهورية الإسلامية، الصماء، والموصدة الأبواب أمام أيّ نسمة حريةٍ أو إصلاح. فكان لا بدّ، والحالة هكذا، أن يدفع شعبُ العراق ثمناً غالياً جداً لحريته، المكتسبة للتوّ : كان على كلا جارَيْه، إيران وسورية، رفدَ بلاد الرافدين بالتكفيريين القاعديين وفلول الصداميين بمفخخاتهم وأحزمتهم الناسفة، ليعيثوا فيها قتلاً على الهوية المذهبية.. ودائماً، لأجل الهدف quot; الأسمى quot;؛ تفجير الحرب الأهلية. ووسائل إعلام النظامين الشقيقين في quot; قم quot; و quot; القرداحة quot;، لا تكلّ ولا تملّ من إعادة رقم ضحايا المحرقة العراقية، التي أعقبت سقوط الرفيق البعثي، المؤمن، والمقدرة بحسب إحصاءات الأمم المتحدة بما يقارب المليون ضحية : لنجمع هنا هذا الرقم الأخير، مع الأرقام المقدرة لضحايا المقابر الصدامية، الجماعية، بما فيها القادسية والأنفال وأم المعارك وأم الحواسم وأم.. ألا نصل إذاً إلى رقم مهول، أسطوريّ، يقارب الرقم المنذور للقرابين الهتلرية، في الهولوكوست اليهودي ؟؟
ثمة مساءلة اخرى، في هذا المضمار، تعرَضُ علينا إستدلالاً لما سلف من حديث المآثر الصدامية تلك : فلينبنا أحدهم بإستطلاع، مفترض، لآراء جماهيرنا من المحيط إلى الخليج، حولَ صحّة الهولوكوست العراقي، الموصوف، وبما يُحتمل من نتائجه. فالمؤكد، قطعاً، أنّ الغالبية الساحقة من تلك الآراء ستنكر حصوله، أو على الأقل تتنصّل من أرقامه. ولم العجب، ووسائل إعلامنا من مطبوعة ومرئية ومسموعة، قد دأبت بمعظمها ـ وخصوصاً منها الخليجية، المرفهة المرهفة ـ على حشر quot; نظرية المؤامرة quot; في عقل المواطن العربي، حتى أضحت أفيوناً يُهلوس به ؟؟ فكل حديث، مزعوم، عن مجزرة يقوم بها حاكمٌ من أهل الضاد والفساد ـ وحاشاه طبعاً ـ بحق شعبه؛ إن هوَ إلا حديث الإفكِ، فإجتنبوه !.. وكلّ الأفلام الوثائقية التي تحكي، بالصوت والصورة والشهود أحياءً وأمواتاً، عن المقابر الجماعية والأسلحة الكيماوية وغيرها من المجازر الموصلة شمال موطن النهرين ، الكرديّ، بجنوبه الشيعيّ؛ كلها تلك الأفلام، تدور في فلوات الكرة الأرضية، دونما أن يتسنى لها إجازة في فضائياتنا العربية، المشغولة على مدار الساعة بمشاهد quot; الحرب الأمريكية على العراق quot; : فحدثونا، بعد كل هذا، يا سادة مؤتمر طهران، عن أسطورة الهولوكوست اليهودي، أو عن كذبة حجمه الحقيقي..
التعليقات