مختطفون سابقون في بغداد يصفحون عن خاطفيهم
تعتمد فكرة التسامح على وجود طرفين، هما المسيء والمساء إليه.
قد يبادر الطرف التي تعرض للإساءة أو العدوان أو الإنتهاك إلى إبداء التسامح والتعبير عنه بلا قيد أو شرط وهذا أقصى الكرم الإخلاقي الذي يبديه هذا النوع من البشر.
ليس التسامح فكرة مجردة يجري تداولها لغويا أو نظريا بل هي سلوك فعلي ينتج عن وعي أخلاقي وعاطفي واجتماعي بتجاوز الحيف الذي وقع على الضحية.
المتسامح، حكما، شخصا أو جماعة، على غاية الاكتفاء الذاتي بضرورات المحبة والتعايش والتغاضي عن ما ألحقه الآخرون به.
أشد أنواع التسامح نبلا هو ما يبديه الضحية.
.. وإذ تنعدم ثقافة التسامح في البيئة العربية فإن نتائج هذا تتجلى في التوتر الإجتماعي وشيوع الفكرة المسلحة وتقاليد الثأر والإنتقام والقصاص، وربما إيقاع العقاب المفرط بالآخر بما لا يتناسب بحجم ما أتاه من إساءة أو انتهاك أو حتى جريمة.
شخصيا شعرت بالشفقة على شخص يدعى صدام حسين بعد أن حكم عليه بالإعدام رغم أن هذا الشخص تسبب لي شخصيا بأذى كبير، إذ بسبب سياسته اضطررت إلى ترك بلدي والإقامة بمناف اضطرارية بعضها يفتقد لأبسط مقومات الحياة اليومية المقبولة للبشر.
أقول:quot; الشخصquot; لأن صدام حسين تم تجريده من أسلحته المادية والمعنوية وبات أشبه بحيوان أعزل بلا براثن أو أحد الكواسر الذي قلعت مخالبه فلم يعد قادرا على الإيذاء، عدا مايبديه في قفصه من quot;ألعابquot; إعلامية بعضها مضحك حقا.
أنا الذي لا أقوى على تقطيع دجاجة في المطبخ لأطبخها أو سمكة لم تزل عيناها الميتتان مفتوحتين وكأنها لما تزل تنتظر الرحمة، لا يمكنني القبول بإعدام شخص هو بحكم الميت أصلا.
بحكم العادة وتكرارها، منذ اكتشف الإنسان الأول النار والطبخ والصيد، لم تعد، ثمة، حساسية إزاء اللحوم الشهية التي نتناولها يوميا من دون تفكير أو تبصر، ومن دون تأمل تينك العينين الرماديتين المفتوحتين. عيني سمكة ميتة على خشبة الفرم.
أوردت إحدى الوكالات الإخبارية العالمية خبرا بعنوان: quot;رهائن سابقون في بغداد يصفحون عن خاطفيهمquot; وملخصه أن بريطاني وكنديان طلب منهم الشهادة ضد متهمين عراقيين بخطفهم قد يواجهون أحكاما بالإعدام إذا أدينوا. وقالوا: quot;نصفح عن محتجزينا من دون شروط. إن العقاب لن يسترد أبدا ما أخذ مناquot;. وقالو أيضا: quot;ما فعله محتجزونا خطأ. تسببوا في معاناة كبيرة لنا ولعائلاتنا وأصدقائنا. نحن لا نضمر شرا لهم وليست لدينا رغبة في أن يعاقبواquot;.
وعي التسامح ليس كرما أخلاقيا مجردا بل هو صورة لوعي متقدم أكبر من quot;العفو عند المقدرةquot; في الثقافة التقليدية العربية الذي نادرا ما يؤخذ به.
المختطفون الثلاثة هؤلاء، وقد قتل رابعهم، رأوا إلى الأمر باعتبارأن الجميع: الخاطفين والمخطوفين هم ضحايا حلقة العنف في العراق. وهذا إدراك عال للوضع البشري المأزوم يتميز به أناس فائقو القدرة على النظر العميق للوضع البشري.
المجموعة المختطفة هذه أعضاء في فرق السلام المسيحية، وهي جماعة تدعو إلى نبذ العنف، وبسلوكهم المتسامح أبدوا تطابقا مشهودا بين ما يؤمنون به وما يفعلونه في الواقع وقد طبقوه على أنفسهم رغم تجربتهم القاسية.
إن مناطق التوتر في منطقتنا، العراق ولبنان وفلسطين، تحتاج إلى قدر من التسامح وإبداء المزيد من رغبة التعايش والوفاق الأهلي، وهاهي مبادرة مسيحية تنقض مفهوم quot;الصليبيةquot; الذي يلوح به بعض مسلمينا مع الأسف ضد الآخر، أقصد أن quot;الصليبيةquot; كبرنامج عملي هو الوجه المتطرف للمسيحية. لكنه ليس الوجه الوحيد، وعلى المتطرفين وبعض منظريهم وسياسييهم في الديانات الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلامية، التعلم من هذه المبادرة الخلاقة في محاولة لجعل منطقتنا، والعالم، أقل عنفا.
التعليقات