قد يكون الفلسطينيون في انتظار أيام وأسابيع صعبة عليهم. ليس فقط لأنها سوف تحسم مستقبلهم السياسي، وإنما لأنها ربما ستفرّقهم، أكثر مما هم متفرّقون حالياً. ففي خلال أيام، والأرجح يوم السبت القادم، سيخرج عليهم رئيسهم بخطاب شامل، موثّق بالوثائق والبيّنات، عما دار خلال الأشهر السابقة، من مباحثات طويلة، مع حركة حماس، وصولاً إلى هذه اللحظة : لحظة انسداد كل السُبل، وفشل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الموعودة.

على الأغلب، سيضع الرئيس مواطنيه في الصورة، وسيكشف لهم عن كل المواقف والحقائق المخبوءة، وما لم يُقل مِن قبل. ثم سيطلب منهم تأييده في اتخاذ قرار حلّ الحكومة الحمساوية، وتشكيل حكومة كفاءات من المستقلّين، تستمر لمدة سنة أو ستة شهور، ويصار بعدها إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة، ليقول الشعب كلمته. وكل ذلك من أجل فك الحصار الظالم، ومن أجل كسر حالة الشلل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بالضرورة، التي أعقبت فوز حركة حماس في انتخابات أوائل العام.

هكذا، سيستقبل الفلسطينيون أياماً ستأخذهم ربما إلى عتمة المجهول. وهو ما يخشاه البعض من المتابعين الموضوعيين لشئون وشجون الحالة الفلسطينية. الرئيس استمع إلى توصيات عدة، ليس أولاها من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بل ثمة توصيات سبقتها من كونداليزا رايس، رئيسة الدبلوماسية الأمريكية، ومن نصائح بعض دول الجوار.

ومع أن أبو مازن يعي خطورة توجهاته القادمة، ومدى تداعياتها على الشارع الفلسطيني المقسوم في غالبيته إلى فتحاوي وحمساوي، إلا أنه سيذهب إليها، مرغماً تقريباً (حتى لو أدى ذلك إلى المغامرة بمنصبه شخصياً، فلا ضامن بألا تفوز حماس في الانتخابات القادمة، بالتشريعي والرئاسي معاً) ذلك أنّ حماس لم تدع له خيارات أقل ضرراً في الحقيقة. فهي راوغت ولاوعت، وكان بإمكانها، لو تحلّت ببعض المرونة السياسية والحكمة وبعد النظر، أن تتنازل قليلاً، هنا أو هناك، وأن تنهي ملف حكومة الوحدة على خير. لكنها، ولعدة حسابات [ منها رغبتها في البقاء على كرسي الحُكم، ومنها مراهنتها على التراجع الإسرائيلي والأميركي في بعض المواقف، ومنها تقرير بيكر _ هاملتون، ومنها تحالفها الوطيد مع إيران وسوريا ] أخطأت في التقدير، فلم تقرأ المتغيّرات من حولها قراءة صحيحة وواقعية، ما أوصلها وأوصلنا معها إلى أفق مسدود، لا خروج منه إلا بما سيعلنه أبو مازن في خطابه المنتظر يوم السبت.

والحق أنّ أبو مازن معذور. فكيل شعبه قد طفح. وضجّت الناس من انتظار ما لا يأتي. ولذلك سيذهب الرجل إلى قرار حل حكومة حماس، مراهناً هو الآخر، على الداخل الفلسطيني ومشاعر الناس، أولاً، واثقاً من دعم أمريكا وأوروبا لخطوته تلك، ثانياً، وواثقاً بالتالي من دعم كل قوى الاعتدال في العالم العربي، ثالثاً.

أما حماس، فلم تراهن، في واقع الحال، سوى على دعم المنتسبين لها تنظيمياً، وهم لا يتجاوزن ثلث الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. أما مَن انتخبوها مِن خارج الحركة، وهؤلاء بالذات هم الذين أوصلوها إلى كرسي الحكومة، فقد خسرتهم كلهم تقريباً. فهؤلاء انتخبوها لتخلّصهم هي من فساد وتحلل حكومات فتح السابقة، ولم ينتخبوها حباً في برنامجها السياسي المتطرف. ومع الحصار والجوع وعدم قدرة حماس على [ التغيير والإصلاح ] كما نادت في برنامجها الانتخابي، سينفضّ هؤلاء عنها.

وهو ما بدأت حماس تستشعره، وتستشعر الخطر من ورائه. لذلك هي ستنزل بجماهيرها إلى الشارع، ربما فور انتهاء خطاب الرئيس في التلفزيون، مباشرةً، لتعلن رفضها لخطابه وتمسكها بالسلطة. الأمر الذي يعني الاحتكاك الداخلي، فالاقتتال الداخلي، وصولاً إلى عتمة المجهول الدموي، الذي لا يتمناه أحد، ولكنه مع ذلك، سيحدث! فالأمنيات لا تكفي وحدها لكي لا يقع المحظور. وحماس لم تفعل ما كان يتوجب عليها، كي لا يقع المحظور. وهنا لن أضع كل أسباب الفشل عليها وحدها، بل إنّ جزءً من هذا الفشل يقع أيضاً على فتح، لكن الجزء الأكبر يقع على حماس بوصفها على رأس الحكومة. لهذا السبب، نأمل وفقط نأمل، مع أننا لا نثق بهذا المأمول، أن لا تتصرّف حركة حماس بعد خطاب الرئيس بعقلية ردّ الفعل الدموية، بل أن تتمسّك بحكمة الحرص على مصالح شعبها في مجموعه العام، فتأمر مُنتسبيها بألا يوتّروا الشارع فوق ما هو فيه من بُحران التوتر. إذ ما هو الحل؟ إما حكومة وحدة أو هذا القرار. ولا ثالث لهما إلا اللعب على أعصاب الناس إلى ما لانهاية، بحجة انتظار تشكيل ما هو غير قابل للتشكيل ولا التعديل.


الشعب الفلسطيني في خطر كما يمكن القول. تماماً حاله مثل حال جاره الشعب اللبناني. وكلاهما ذاهبان إلى مجهول : إلى مجهول ما لم تُغلّب قوى الإسلام السياسي في البلدين، مصالح شعبيهما على مصالحهما الفئوية والحزبية الخاصة. فلا يمكن أن ينتظر الشعب الفلسطيني إلى أكثر مما انتظره. ويكفيه تسعة شهور، وها نحن في بداية الشهر العاشر، ولم يتمخض حَبَلُ المفاوضات بين فتح وحماس عن مولود. حماس تتعامل مع الواقع من حولها، بصبر أيوبي، وبقفازات من فولاذ، رغم تعرّضها وتعرّض شعبها إلى أقسى الضغوطات وأمرّها. هي تحتمل بسبب أيديولوجيتها الدينية ورؤاها، لكنها تنسى أنّ غالبية شعبها [ الثلثان وأكثر ] لا يشاركونها ذات الأيدولوجيا والرؤى. وبالتالي فهم غير مستعدين لاحتمال شيء هو فوق طاقاتهم أصلاً. فالمعاناة الهائلة التي ذاقوها في الشهور التسعة المنقضية، أوصلتهم إلى قناعة بأنّ كل ما يعيشوه وما يعانوه هو عبث في عبث. فلا جوع هذه الشهور سيعيد لهم أراضيهم المحتلة، ولا المزيد من هذا الجوع سيفعل ذلك في المستقبل. لذلك كان لا بد مما ليس منه بد.

وبقرار حل هذه الحكومة، الذي يرى البعض أنه تأخر، سيخرج الفلسطينيون من بطن الحوت. لكنْ إلى أيّ أفق : أإلى عتمة المجهول، واختلاط الدم الشقيق بالدم الشقيق، أم إلى نور حل الأزمة، وإلى العقلانية بفضائها الأرحب؟ هذا ما ستسفر عنه الأيام وربما الأسابيع القادمة. مع استدراك : أننا أقرب إلى التشاؤم للأسف. ففلسطينيو الأراضي المحتلة، ولأسباب يعرفها المعنيّون بتاريخهم الحديث، هم شعب عنيد ومؤدلج ومسيّس، وكل واحد منهم ينحاز إلى فصيله ورؤى هذا الفصيل، باعتبارها هي الحق المطلق والحقيقة الكاملة، وما سواهم، في الفصائل الأخرى، أو في الشارع مِن المُستقلّين، سوى مُضللين! فأنت إما أن تكون معي أو ضدي.

هكذا هي ثقافة فتح، وهكذا هي ثقافة حماس. وباستثناء اليسار في عمومه والليبراليين في عموهم، لا يوجد بين ظهرانينا، مَن إذا حانت ساعة الجَدّ، يختار العقلانية والاعتدال. إننا نخشى على ما سيحدث في الأيام القريبة القادمة. فنحن نرى منذ الآن، أنّ حماس تُجيّش مُنتسبيها في مظاهرات تأييد حاشدة لبقاء الحكومة الحالية. ونخشى في لحظة الصفر، بعد إعلان الرئيس، أن ينزل هؤلاء، وهم بعشرات الألوف، بكل ثقافة العنف بين جوانحهم، إلى الشارع، فيخرج لهم منتسبو فتح، العنيفون بدورهم، لتغرق غزة [غابة البنادق] في اختلاط دم الشقيق بالشقيق.

نرجو أن نكون متشائمين أكثر من اللازم، وأن تعبر عنا هذه التجربة، إن لم يكن بهدوء، فبأقل الخسائر. فلا يُقال أن الفلسطينيين، من أجل لقمة عيشهم، وفي رواية أخرى، من أجل سلطة تحت الاحتلال، أي سلطة بلا سلطة، سفحوا دماء بعضهم البعض!