حذَّر الملك عبد الله الثاني مرةً بصريح العبارة من تكتل شيعي أسماه بـ (الهلال الشيعي)، يمتد من إيران عبر العراق مرورا بسوريا إستقرارا في لبنان، وتجاوبَ مع هذا التحذير بعض الملوك والرؤساء العرب، وتحول إلى قضية سجالية بين الكتاب والصحفيين والمعلقين والمراسلين العرب والاجانب، وقد رد عليه بالحال الزعيم الوطني اللبناني نبيه بري بقوله: نعم هلال شيعي ولكن في قمر سني. وهي لفتة ذكية من السيد بري، تكشف عن وعي سياسي دقيق، وإحاطة مكينة بالتاريخ والجغرافية معا.

الشيعة ومنذ الحدث الإيراني الكبير برزوا في الشرق الاوسط، بل وفي العالم قوةَ مادية، ووجودا شعبيا عريضا، وفكراَ سياسيِّا متميزا، حتى أطلق بعض الكتاب الغربيين على الفترة التي تلت الحدث الإيراني الكبير ولهذه اللحظة بـ (الحقبة الشيعية)، وهي تسمية قد تحمل الكثير من المعاني الباطنية، كما أنها تسمية مبالغ بها إلى حد ما، ولكن لا تخلو من حقيقة، وحقيقة كبيرة. فإيران قوة إقليمية، وشيعة العراق اليوم يتصدرون العملية السياسية، وفي البحرين فازت القائمة الشيعية، وفي لبنان يشكل الشيعة أهم عوامل المصير الذي ينتظر البلد، وفي الكويت بروز شيعي بعد غياب، وفي الخليج شيعة متمكنون ولهم علاقات وطيدة بالدولة.

هذا الظهور الطاغي غير المسبوق للشيعة أفرز قضية واضحة نستطيع أن نسميها بـ (القضية الشيعية)، وقد تداخلت في شأنها التصورات والمواقف، حتى باتت قضية معقدة وشائكة للغاية، ففي الوقت الذي تحذر فيه بعض الجهات من سيطرة شيعية مطلقة على المنطقة، وتتنادى المخاوف من قنبلة (شيعية) وإجتياح شيعي عقدي يلف العالم الإسلامي، نرى من جهة اخرى الشيعة أنفسهم يعلنون بصراحة أنهم معرضون لحملة إعلامية تشويهية مدروسة، وأنهم دعاة سلام، ويؤكدون على أنهم مكون جوهري من مكونات العالم الإسلامي، ويعملون لخير هذا العالم وتحرره.
ولست أريد أن أدخل في مجريات هذا السجال، ولكن أريد أن اسلط الضوء على نقطة جوهرية في (القضية الشيعية) برمتها، تتصل بمصير هذه الطائفة ومستقبلها، ليس من منظور طائفي، ولكن من منظور إنساني، وبالتواصل مع مصير الشرق الاوسط، وعالمنا الإسلامي المنكوب بالرزايا والمشاكل والتهديدات.

هناك طابع عام طبع الوجود الشيعي بحضوره الصارخ الجديد، أقول عام وليس بالتفصيل، ذلك هو أن هؤلاء الشيعة يتقاطعون مع الغرب كليا، هذا الطابع مُسْتنتَج لدى المراقبين من التوجه السياسي والنضالي لهؤلاء الشيعة، نظريا وعمليا. ويستدل هؤلاء من توجهات السياسة الإيرانية (المعادية) تجاه الغرب وإسرائيل،وموقف حزب الله اللبناني الراديكالي من القضية الفلسطينية، بحيث يفوق ثورية عدة فصائل فلسطينية، وشيعة العراق متمثلين في التيار الصدري المنادين بخروج (المحتل)، وأفكار الاحزاب الشيعية في البحرين المناصرة للحقوق العربية والمناهضة للوجود الاجنبي في البحرين.
وفي الحقيقة إن هذا التفسير يحمل الكثير من الوجاهة، ولعله واضح وضوحا عمليا، وفي سياقه نستيطع أن نستنتج بكل صراحة أن هناك تبلورا شيعيا في الشرق الاوسط، بدا يتصير بشكل مفروز، الأمر الذي أستتبعه الكثير من المواقف المثيرة من قبل الآخر، سواء هذا الآخر هو الغرب، أو الآخر هو العالم السني.

لم يكن هذا التبلور عن سابق تخطيط بقدر ما هو نتيجة حركة التاريخ التي لم نعد قادرين بكل صراحة على حصر أسبابها ومعرفة فواعلها كاملة. وعلينا أن نتعامل مع الظاهرة كواقع مفروغ منه، ولكل إمرء رأيه في التفسير واتخاذ الموقف الذي يراه صحيحا.
إن مراجعة دقيقة لم يحصل من في هذا المجال حصرا، يفيد أن الظاهرة أو الظهور الشيعي بدأ يتعرض للمحاصرة، أو هناك تفكير لمحاصرته، حتى من قبل بعض القوى الإسلامية السنية، ممن تماهت مع حركة الخميني، وتماهت مع الأطروحات الشيعية تجاه الغرب وإسرائيل وبعض الانظمة العربية ومجمل قضايا النظام السياسي والفكري الذي يجب أن يقود شعوب المنطقة!!

إن مصير المذاهب الوجودي أهم من تحكيم الإسلام، وأهم من طرح المحتل، وأهم من أسملة المجتمع، وأهم من مصير فلسطين بالذات، ولذلك ليس بعيدا أن تصطف بعض قوى الإسلام السياسي السني إلى صف المتخوفين من هذه الصيرورة الشيعية الجديدة في المنطقة الشرق أوسطية.
يتحمل بعض قادة العمل الشيعي وبعض قياداتهم الروحية والسياسية هذه النتيجة بحق أنفسهم وبحق طائفتهم، كما أن بعض الأنظمة العربية هي الأخرى تتحمل ما قد تؤول إليه نية أو خطة المحاصرة التي قد تبدأ ملامحها عن قريب.

إن الموقف الشيعي القاضي با لتقاطع الكلي مع الغرب مضر، وقاسي بحق الطائفة الشيعية ذاتها، كما أن تبني سياسات وأهداف خيالية هي الأخرى تضر بالطائفة، وتعرضها للإمتحان الصعب. كما أن موقف الأنظمة العربية المتسم بالخوف والريبة والشك من الشيعة هي الأخرى مضرة وقاسية، ليس بحق الشيعة وحسب، بل بحق كل شعوب المنطقة. فمن حقنا أن نسأل إلى أي مدى ــ مثلا ــ راجعت المملكة العربية السعودية علاقتها مع شيعة العالم؟ وهل هناك تفكير سعودي لمد يد التعاون مع أكبر طائفة إسلامية بعد السنة؟

الشيعة اليوم مدعوون للتفكير بنقطة مهمة، ترى إلى أين تسير بهم سياسة الرفض الكلي هذه؟ وهل فكروا جديا في الفراغ الذي يمكن أن يحصل لو خرج المحتل من العراق ـ مثلا ــ؟
إلى أين تسير الظاهرة الشيعية في الشرق الأوسط؟
ما هو مصير القوة الشيعية التي برزت في هذه الفترة بشريا وفكريا وسياسيا وحركيا وحكوميا؟
هل ضمن الشيعة في الشرق الا وسط تاييد الفرق الإسلامية الاخرى في مشاريعهم الثورية؟
هل هناك توازي بين قوة الشيعة ومسؤولية هذه المشاريع الكبيرة الكونية؟
أن الخوف الذي يجتاحني هو أن تتصدع كل هذه القوة من جراء التناقض بين الواقع والطموح، وأن تتمخض عن نتائج سلبية ترتد على القوة ذاتها!
أعتقد أن من المهم والعاجل حقا، أن يجلس مفكرو وسياسيو وعلماء الشيعة لقراءة هذا القضية بجد وأرقام ودراية وواقعية وعلم.