القصة حدثت كالتالي : بعد انتظار دام لأكثر من ثماني ساعات على الجانب المصري، دخلَ السيد إسماعيل هنية أخيراً إلى الجانب الفلسطيني من معبر رفح. وكانت إسرائيل قد اشترطت ألا يدخل بالأموال التي جلبها معه مِن زياراته إلى عدة بلدان. وكذلك ألا يبقى أحد من أنصار حماس ومن أفراد القوة التنفيذية داخل المعبر. وهذا ما تم. وبناء عليه، فلم يكن داخل المعبر، حين دخلَ رئيس الوزراء، سوى عناصر من جهاز أمن الرئاسة الفتحاوية التابعة مباشرة لأبي مازن.
بعد ذلك، وأثناء وجود السيد هنية داخل المعبر، أُطلقت عليه زخات من الرصاص من قبل تلك العناصر، بهدف اغتياله شخصياً، لكن تجمهر أفراد حرسه الشخصي بأجسادهم عليه، من حوله ومن فوقه، حماه من الموت المحتوم، وأدى إلى مقتل مرافقه الشخصي السيد عبد الرحمان نصار، وإصابة 15 فلسطينياً، من بينهم الدكتور أحمد يوسف مستشاره السياسي، وأيضاً إصابة نجله عبد السلام هنية.

محاولة الاغتيال الجبانة والمدانة هذه، هي سابقة خطيرة ومرعبة. لم يعرفها الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة منذ شُكّلت سلطتهُ الوطنية قبل 13 سنة. محاولة الاغتيال السياسي هذه، كان مخططاً لها، فيما لو نجحت، أن تكون quot; القشة التي قسمت ظهر البعير quot; والشرارة لاندلاع الحرب الأهلية. ولقد سبقتها حملة تشهير وتجريح هائلة ضد حركة حماس. سواء عبر التلفزيون الفلسطيني، أو في الشارع. حملة من التحريض المباشر، وخاصة بعد جريمة قتل الأطفال الثلاثة في مدينة غزة. وبما أنه لا قانون في البلد ولا معايير ولا عُرف ولا عادة، فإن كل شيء مباح، من اغتيال الأطفال، حتى اغتيال رئيس الوزراء.

إن الوضع في غزة جد خطير. وحملة تراشق الاتهامات والتجريم والتخوين المتبادلة بين أكبر فصيلين في الساحة، لا تشي بخير أبداً. بل تشي وتؤشر إلى أننا، كل الفلسطينيين، دخلنا بالفعل في نفق المجهول المرعب. واستهداف حياة رئيس الوزراء مساء أمس، كانت هي الخطوة الأولى الحقيقية في عبور العتبة ودخول دهاليز هذا النفق.

لن نلتفت إلى تلك الاتهامات بينهما. بل سنلتفت إلى ما هو أجدى وأهمّ، وهو وجوب تدخّل القوى الفلسطينية العقلانية بينهما قبل اشتعال الفتيل مرة وإلى ما لا نعرف. فواضح أنّ ثمة تياراً انقلابياً في حركة فتح، يحرّض الغوغاء في الشارع على استعجال حسم المعركة ولو عن طريق الحرب. وواضح أنّ هذا التيار تقف من ورائه وتدعمه إسرائيل. فهل من مصلحة فتح كتنظيم أن يبقى هذا التيار فاعلاً مطلق السراح فيها؟ وواضح أن ثمة تياراً في داخل حماس يود لو يؤدّب التيار الانقلابي بسرعة، ويحسم معه المعركة بالقوة.

لذا ليس مستغرباً أن تتهم حركة حماس محمد دحلان شخصياً بالوقوف وراء محاولة الاغتيال. ووعيدها بفك الحصانة البرلمانية عنه، ومن ثمّ معاقبته. ولا نعرف لو تم هذا، ماذا سيكون ردّ فعل فتح، والتيار المؤيد لدحلان فيها. الأرجح أن الأمور ستنقلب إلى الهاوية.

لذا فليسرع عقلانيو شعبنا إلى احتواء الأزمة قبلما تصير كارثة. فما من مرة كان الشارع الفلسطيني الغوغائي موتوراً، ومستعداً للتدمير والجنون، كما هو الآن. وواضح أنّ وسائل إعلامنا المحلية تقف وراء تحريض هؤلاء الغوغاء، لكي تشتعل الساحة على كل اللاعبين.

لقد وصلنا إلى ما قبل اندلاع الحرب الأهلية بلحظة. ولذلك، أرجو من السيد محمود عباس أن يؤجل خطابه المزمع إلى الشعب. فلو حلّ هذه الحكومة، بعد محاولة اغتيال رئيس وزرائها، يكون قد أعطى المبرر والمسوّغ لاندلاع الحرب. لينتظر محمود عباس. وليحاولْ من جديد تجديد المفاوضات بشأن حكومة الوحدة. وتهدئة الأوضاع، فلا حل سوى هذا الحل. فإن كان يائساً من نتائج هذه المفاوضات، فليصبرْ أو لِيعلن استقالته من منصبه. فمعادلات القوى لا تسمح له ولا لغيره بحلّ الحكومة الحماسية الآن.

غزة على شفير حرب. والناس ينتظرون اندلاعها بين لحظة وأخرى. فلا شيء يطمئنهم بأنها لن تحدث. الجميع مُستنفَر والجميع يترقب. بمن فيهم إسرائيل، التي لم يستح أحد وزرائها [ إفرايم سنيه ] بإعلان أسفه لعدم نجاح عملية الاغتيال. لقد كان هذا المسخ العمالي يريد لرئيس وزرائنا أن يموت، لأنه يعرف أن موته اغتيالاً، لن تنتج عنه سوى الحرب الأهلية. وهذا ما تتمناه إسرائيل لنا جميعاً. فموت هنية يصب في مصلحتها أولاً وأخيراً، وفي مصلحة عملائها بين ظهرانينا. لذلك لا مفر من أن نتجاوز هذه المحنة، ومن العودة إلى طاولة المفاوضات لتشكيل حكومة الوحدة في أقرب وقت، دون اللعب على أعصاب الناس ومصالحهم. أرجو أن تتعقّل حماس وأن تراعي دقة الموقف وحساسية الظروف. وإن كان ثمة تياراً انقلابياً في فتح، فلا تعطيه الفرصة لكي ينجح. إننا جميعاً على شفير حرب وعلى شفير خطر وجودي حقيقي. وما لم نتفق مع بعضنا بعضاً، فلا أمل في خروج من هذه الأزمة. لتكفّْ فتح عن التحريض وخصوصاً في فضائيتها. ولتكفْ حماس عن التحريض وخصوصاً في إذاعاتها المحلية. فالتحريض هو مقدمة القتل والموت. ولنعد جميعاً إلى الحوار. لأنّ البديل عن الحوار هو الحرب. ولا يجوز، حتى في أخلاق المافيا، أن يُقتل الشعب الفلسطيني مرتيْن : مرة على يد عدوه إسرائيل ومرة على يد أبنائه الفلسطينيين.

اغتيال هنية من مصلحة إسرائيل ومن مصلحة إسرائيل فقط. فلا تنسوا هذه الحقيقة. ولا تدعوا هذا الحادثة الخطيرة لتكون مبرراً لحرب لا تبقي ولا تذر. وبدل ذلك فليبحث المعنيون في فتح وحماس عن القتلة وعمن خلفهم، لتقديمهم إلى العدالة، مهما تكن حيثياتهم ومناصبهم، فينتهي هذا الملف، ويبدأ الفلسطينيون في فتح صفحة جديدة من التعايش والعقلانية بينهم. وإلاّ فستنتقل التجربة الجزائرية المريرة لبلادنا. وإلاّ فسيكون مصيرنا مثل مصير الفوضى الجائحة في العراق. وحينها لن يتعاطف معنا أحد. بل لن نتعاطف نحن مع أنفسنا. وستذهب فلسطين أو ما تبقى منها إلى الجحيم. ليس بيد إسرائيل، بل بيد الفلسطينيين أنفسهم. وهذا هو أقصى العار السياسي، عار سيطال الرموز السياسية لهذا الشعب من كلا الفصيليْن الأكبرين. أولاً وأولاً. فلولا هؤلاء، ولولا قصر نظرهم، لما وصلنا إلى هذه الحال المزرية من العدمية. ومن استعداد الشقيق لأن يقتل شقيقه الذي تكوّن معه في رحمٍ واحدة.

ليتق قادة شعبنا الله في مصالح شعبهم. قبل فوات الأوان، وقبل أن لا يجدي العضّ على أصابع الندم.