اختار أبو مازن اللحظة الخطأ والتوقيت الأسوأ، ليعلن خطابه الذي أنهاه بضرورة إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة. وبدايةً، نحن مع هذا الخيار، ولطالما كتبنا بضرورة الرجوع إلى الشعب، مصدر كل السلطات، ما دام تشكيل حكومة الوحدة متعذراً، للخروج من الأزمة. لكن التوقيت مهم ومهم جداً في العمل السياسي. واللحظة التي اختارها أبو مازن، خصوصاً بعد محاولة اغتيال إسماعيل هنية، وجيشان الشارع وتجييشه ، لم تكن موفقة، ولم تراع مزاج الناس. فغزة والضفة والأولى على نحو خاص، تغلي من التوتر والغضب. إنها في ذروة الشحن العاطفي والفصائلي. لذا لم يكن من الحكمة إعلان قرار مصيري كهذا، في وقت كهذا. كان باستطاعة الرئيس، اختيار وقت أفضل، خلال التسعة شهور الطويلة السابقة، ليقول كلمته، وليجد تأييداً لها بين عموم شعبه. فعموم شعبه، وهو يعرف هذه الحقيقة، تريد تغييراً، بعد تعرضها لتداعيات الحصار الظالم. كان يستطيع أيضاً، إلقاء خطابه، بعد أن تمرّ تأثيرات محاولة الاغتيال، ويهدأ الشارع الحمساوي. لكن ما حصل قد حصل، والآن فلننظر في النتيجة:
الرئيس كشف عما في جعبته. وحماس ردّت سريعاً وكشفت هي الأخرى عما لديها. وكلاهما، الرئيس والحكومة، فتح وحماس، طلبتا من مناصريهما ومؤيديهما النزول إلى الشارع، في تظاهرات حشد وتأييد. أي كلاهما احتكم إلى الغوغاء: غوغاء الشوارع الذين نعرفهم جيداً، ونعرف سقف وعيهم المنخفض. فهؤلاء، من كلا الناحيتيْن، كتلة من العواطف الهائجة. ويُحرّكون بالرمونت كنترول، وينطلقون كالذئاب المسعورة. فلا وعي لديهم، ولا تجربة، ولا يتورّعون عن القتل والاحتكام إلى السلاح الحركي المنفلت وغير النظيف أبداً.

فتح أمرت منتسبيها بالنزول، وكذلك فعلت حماس. فمن يضمن إذا التقت جماهير الطرفين ألا يحدث احتكاك ؟ ومن يضمن إذا حدث هذا الاحتكاك، ألا يتطوّر إلى مصادمات، فاقتتال داخلي، فحرب أهلية ؟ إنّ مَن يزعم أنّ ثمة ضمانات، هنا، فهو واهم أو مغرض أو يرى شبح الحقيقة لا الحقيقة ذاتها في أحسن الأحوال. فنحن أمامنا طريق طويل، لنصل إلى مستوى وعي الشعب اللبناني، وتظاهراته الراقية السلمية. فالواقع الفلسطيني المريض والمأزوم، أضحى كبنيان من ورق، سرعان ما ينهار تحت أقل ضربة. هذا أمر يعرفه أبو مازن، وتعرفه قيادات حماس. لكنهم، مقابل تنفيذ أجندتهم المتناقضة، مستعدون للذهاب إلى آخر المدى، وليكن ما يكون.

لو كانت لدينا جماهير واعية مسيسة، لما خفنا من المجهول القادم. لكن ما لدينا، هي كُتل جماهيرية غوغائية، غرائزية، لديها الكثير من السلاح وأكثر منه مِن ثقافة محو الآخر بالقوة.
ومع ذلك، نعود إلى خطاب الرئيس، الذي نتحفظ فقط على توقيته، ونؤيد تماماً مضمونه، ونظن أنه، هذا الخطاب، خلافاً لما يظنّه الكثيرون، قد ترك الباب مفتوحاً، لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، إذا لم تركب حماس رأسها، فتصّر على عدم التغيير والتبديل. لقد كان خطابه، نوعاً من الضغط الأخير على حماس، لتقبلَ هذه بحلول وسطى. فإن لم تقبل، فليس أمام أبو مازن، ومن ورائه غالبية الشعب الفلسطيني، إلا خيار الانتخابات.

أظنّ أنّ العقلاء في الطرفين، يعون هذه الحقيقة، ثم إنهم يعون جيداً خطورة جرّ البلاد إلى نذر الحرب. ويعون ألا مصلحة أبداً، لشعبهم، في هذه الحرب. ذلك أن الحروب الأهلية، هي حروب خاسرة ومدمرة لجميع الأطراف، في أي حال وكل حال.

لقد دقّت ساعة الحقيقة. وعلى الجميع أن يتحمّل مسئولياته وواجباته. أما تجار الحرب، فسيلعنهم شعبنا ويلعنهم التاريخ. وهو عموماً يعرفهم، كلٌ باسمه ورسمه. فلا شيء مستور في بلادنا. لذا لا مفر، من الجلوس حول طاولة الحوار، وتقرير ما إذا كان ثمة حكومة أو انتخابات مبكرة. وفي الحالين، على قادة فتح وحماس، إلا يحتكموا إلى الشارع، بالمعنى الحركي والتنظيمي للكلمة، أي بمعنى الاحتكام إلى شباب التنظيمين. فتلك خطيئة تشارف حدّ الجريمة، ثم إنّ هؤلاء وأولئك، لن يبلغ عددهم في كل حال مئة أو حتى مئة وخمسين ألفاً. فماذا عن بقية الشعب الفلسطيني ؟ هؤلاء هم الحكم الحقيقي. وهؤلاء بأغلبيتهم لا يريدون مصادمات ولا احتكاكات. بل يريدون، ما يريده أي شعب عاقل آخر: حل مشاكلنا بهدوء وسلام وطريقة متحضرة: متحضرة تليق بتاريخ شعبنا، وبمأساته الفريدة. وتليق بتقاليد قديمة في احترام الاختلاف والتعايش معه، والتفكير في المغنم والمغرم. وإذا كانت حماس، وهي المتضررة فَرَضاً، من تبكير الانتخابات، واثقة من امتدادها في الشارع، ومن إخلاص مُحازبيها لها، فلا داعي لتهويل خوفها من خسارة هذه الانتخابات.

لقد قبل الشعب الفلسطيني بأسره شروط اللعبة الديمقراطية. وفي كل لعبة من هذا النوع ثمة خاسر ورابح. خاسر اليوم ممكن أن يربح غداً، والعكس صحيح.

لذا نناشد الجميع، وبالأخص حماس وقواها وامتداداتها في نسيج الحالة الفلسطينية، أن تتعامل بحكمة وعقلانية، مع القادم. فثمة خوف حقيقي لدينا بالوقوع في المجهول. وحماس قادرة لو أرادت، ولو حكّمت العقل على السلاح، أن ترحمنا من قسوة هذا المجهول المرعب.

لقد شبعنا إطلاقَ رصاصٍ في كل حين ولحظة. وشبعنا جوعاً. وشبعنا انتظاراً لغودو الإيراني أو الأمريكي أو الأوروبي أو العربي. وعلينا الآن أن نقلّع شوكنا بأيدينا. ولا نركن لهذه الجهة أو تلك. وأهم من كل ذلك: شبعنا تحريضاً وتنغيصاً وتوتيراً للأجواء. لذا فليكفّ الجميع، فتح وحماس، عن حملاتهما الإعلامية الموتورة ضد بعضهم البعض. ولتكف لغة التكفير والتخوين والعمالة لأمريكا أو إيران. كما فلتكفّ لغة فتح الخشبية التي عفا عليها الدهر. وليخاطب الجميع شعبنا بلغة العقل والعقل فقط. إذ لقد ملّ هذا الشعب ممن يحتقر خبرته التاريخية وذكاءه العملي.

أمام حماس فرصة ثلاثة شهور، قبل أن تُجرى الانتخابات. وتستطيع، لو أخلصت النيّة، ولو وضعت مصالح شعبها فوق مصالحها الفئوية، أن تستغل كل هذا الوقت، فلا تذهب بنا، لا إلى انتخابات ولا إلى اقتتال داخلي فحرب أهلية. بل أن تذهب بنا إلى خيار تشكيل حكومة الوحدة. هذه الحكومة التي كما يبدو، هي خلاصنا الوحيد في مثل ظروفنا الحساسة.

أما أن تصمّ حماس أذنيها عن كل ما تسمع، فإنّ ذلك ليس من مصلحتها، ولا من مصلحتنا. وليس من السياسة في شيء. نحن نعتقد أنّ أبو مازن ترك الباب مفتوحاً ولا نقول موارباً، لكي يضغط على حماس كي تتنازل في موضوعة الحكومة. ونحن نعتقد أن ليس من مصلحة حماس، أن تتجاهل ما وصلت إليه أوضاعنا الداخلية من انحدار وانهيار. لذا فخيار تشكيل حكومة الوحدة، أو حتى الكفاءات، أفضل لها من خيار الانتخابات.

ثمة نقطة أخرى أيضاً، يجب أن تضعها حماس نصب عينيها: كل العالم، باستثناء بعض الدول، وقفت مع أبو مازن وأيدت دعوته بتبكير الانتخابات. ونظنها ستدعمه مادياً وسياسياً، في خطوته، الآن ومستقبلاً. بما يضعف من لعبة توازن القوى بين فتح وحماس، لصالح فتح. وعلى حماس أن تفهم هذا الأمر، فلا تغامر ولا تجر الشارع إلى أتون الاقتتال.

وبناء على ما سبق، نقول بلا جدوى من الاحتكام إلى السلاح. ولا ضرورة لحسم الصراع عسكرياً. فتقريباً قوى التنظيمين متعادلة، فإن دعمت أحدهما أمريكا، زادته درجات على درجة التعادل.

أخيراً، لا يجوز لنا أن ننسى أننا ما نزال تحت الاحتلال. وأننا نُهان يومياً أمام عنجهيته وجبروته، من أصغر مواطن فلسطيني حتى رئيس السلطة ورئيس الوزراء. لعلّ هذه الحقيقة تجعلنا نتواضع أمام أنفسنا، ويرحم بعضناً البعض الآخر، المختلف معه فقط في طريق الوصول إلى الهدف المقدس، وليس في الهدف ذاته.

ولذلك، فلا مفر من الحوار ثم الحوار ثم الحوار. فإن لم يوصل الحوار إلى شيء ذي بال وذي طائل، فلتكن أخيراً: الانتخابات.
أما الاقتتال الداخلي وتوتير الهواء قبل البشر، فهذا عمل عدونا فينا، ولا يليق بأي فصيل على الساحة، يعمل من أجل فلسطين وشعبها المظلوم.

نحن مع تشكيل حكومة الوحدة، إلى آخر دقيقة.
فإن تعذرت، فنحن مع الانتخابات.
لكننا أبداً لن نكون مع نذر حرب أهلية وشيكة الوقوع.
لكننا أبداً لن نكون مع مدبّريها والمخططين لها، من الجانبين.
فشعبنا في الأخير أكبر من فتح وحماس.
وفلسطين، وهذا ليس شعاراً أبداً، أكبر منا كلنا.
ولا يجوز لكائنٍ مَن كان، أن يفجعنا في حلم فلسطين المحررة من طاغوت وقباحة الاحتلال.
ومن يفعل ذلك: من يجرؤ على ذلك، سنلعنه، وسيلعنه التاريخ، وسيلعنه شعبنا كل شعبنا، في يوم قريب، حين تُزال الغشاوة عن وعي البعض منه.

أخيراً، حذار أن تتدحرج كرة الدم إلى سنتيمترات أبعد. هذا نداء نوجهه إلى قيادات فتح وحماس، ونطالبهم أن يكونوا على قدّ المسئولية وعلى قدر آلام وآمال شعبهم الطيب المقهور. نطالبهم بأن يسحبوا الغوغاء من الشوارع. وأن يضبوا سلاحهم الاستعراضي، الذي صار يخيفنا ويرعبنا، في كل مشوار نمشية أو خطوة نخطوها. حتى وصل الحال بنا، إلى أن نهنئ بعضنا بعضاً، حال العودة من أي مشوار خارج عتبة البيت. فالمسلحون كالذباب في الشوارع، والرصاص اللامسئول طائش وفقدَ بوصلته الصحيحة، لذا فكل خطوة نخطوها تحتاج إلى تهنئة بالسلامة.

هذا هو حال شعبكم سيدي رئيس الوزراء
هذا هو حال شعبكم سيدي رئيس السلطة !
ولا نريد أن نُقلّب المواجع أكثر..