لقطات مهمة من المعركة
سورة الأنفال كلها أو أغلبها نزلت للحديث عن معركة بدر، وليس من شك أن القران هو الوثيقة الوحيدة التي لا يتطرق لها الشك فيما يقرر في صدد هذه المعركة، وأول ما تطالعنا به السورة الكريمة هو وجود خلاف حول الغنائم، ففي بداية السورة نقرا (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله ولرسوله فاتقوا الله واصلحوا ذات بينكم واطيعوا الله وسوله إن كنتم مؤمنين).
فالاية تذكر صراحة إن هناك نزاعا دنيويا بين المقاتلين المسلمين، وهو صراع على الغنائم، وقد وضع القرآن آلية لفض النزاع المذكور، مما يدل أنه كان مزعجا ومؤذيا، حيث يشرح هذا النظام بقوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شي فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم أمنتم بالله وما أ نزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شي قدير).
ويشير القرآن الكريم أن هناك ترددا في خوض المعركة من قبل بعض المؤمنين (يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يُساقون إلى الموت وهم يُنظرون، وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد اله أن يحق الحق بكلماته، ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره الكا فرون).
وتشير السورة الكريمة إلى غشية النعاس ونزول المطر من السماء ودوره في بث الشجاعة في القلوب والامل في الصدور (... إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجس الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام)، وجاء في القرآن الكريم ذكر العدوى القصوى والدنيا كمحطتين متقابلتين بين قريش والمسلمين (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد)، ويبدو أن المؤمنين كانوا يتخوفون أو يتوجسون أو يشككون بقدراتهم، فراحوا يستغيثون الله تعالى، فاستجاب الله إغاثتهم بأن أمدهم بعدد كبير من الملائكة (إذ تستغيثون ربَّكم فاستجاب لكم أني مُمِدكم بألفٍ من الملائكة مردفين)، فالإستغاثة هي الإستجارة، فهم كانوا قلة، وعدتهم دون عدة العدو، فمن الطبيعي أن يستغيثوا ربهم تبارك وتعالى، وكانت الإستجابة بمثابة بشرى للمؤمنين (وما جعله الله إلاّ بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا ّ من عند الله إن الله عزيز حكيم)، فهذا العدد الكبير من الملائكة إنما هو لبث الشجاعة في قلوب المقاتلين المؤمنين، فإن هذا المؤمن إذا صدق أن الملائكة معه سوف يتشجع، ويقوى قلبه، ويتصلب موقفه .

مهمة الملائكة الكرام
نقرأ في الكتاب الكريم عن مهمة الملائكة (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أنّي معكم فثّبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فآضربوا فوق الأعناق وآضربوا منهم كل بنان)، ففي هذه الآية الكريمة تعهد الله سبحانه بثلاثة وعود للمؤمنين المقاتلين، وهي : ــ
الأول : إمداد المؤمنين بالملائكة ليتولوا تثبيت قلوبهم، أي قلوب المؤمنين المقاتلين.
الثاني : إمداد الملائكة بالذات كي يؤدوا هذه المهمة.
الثالث : إلقائه الرعب في قلوب الذي كفروا.
الواضح الذي لا شك فيه، أن مهمة الملائكة هي الثبيت ليس إلإ، فيما يتولى المؤمنون الضرب فوق الأعناق وكل بنان، كتعبير عن إجادة الفن الحربي، وتصويب الضربة بإحكام، وليس المقصود هنا هو التطبيق الحرفي لتوجيه الآية الكريمة.
لقد بشر الله النبي بالإمداد الملائكي، والنبي بدوره بشر المؤمنين بالإمداد هذا، وذلك قبل بدء المعركة، فمن الطبيعي أن يتحول المؤمن إلى شعلة من الأمل والقوة، ما دام يشعر بأن هناك إمدادا سماويا معه، بل مجرد الوعد الإلهي بهذا الإمداد يستدعي الحماسة والثقة والقوة والحيوية، وذلك حتى لو لم يكن لهذا الوعد واقع موضوعي، بل هو مجرد وعد، ولكن كيف يتم هذا التثبيت؟ لا أحد يدري، على أن التثيت كما قلت يحصل مجرد أن يعد الله تعالى عبادة بهذا الإمداد.
ثم راح القرآن الكريم يوجه المقاتلين توجيها حربيا (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار، ومن يولهم يومئذ دُبره إلا متحرفا لقتال إو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير)، فالكتاب العزيز هنا موجه ومعلم، يتوسل بوسائل طبيعية فيزيقية، وكان القرآن كثير التأكيد على ضرورة الإستجابة لدعوة النبي (يا أيها الذين آمنوا آستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم وآعلموا أن الله يحول بين المرأ وقلبه وإنه إليه تحشرون، وأتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصَّة وآعلموا أن الله شديد العقاب).
ويتطرق القرآن الكريم إلى حادثة خيانية حصلت وذلك بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا آمانانتكم وأنتم تعلمون، وآعلموا إنما أ موالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده آجر عظيم)،
ولا أريد أن اخوض في هذه النقطة، فهي مسهبة في كتب التفسير.. وعندما نقرا قوله تعالى (وأذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)، والآية متوجهة إلى المهاجرين، حيث تبين أنهم كانوا خائفين، ضعفاء، ولكن الله تبارك وتعالى نصرهم ببدر، فتحولوا إلى قوة ومنعة، وفي ذلك فضل كبير.

العرض الطبيعي
يستعرض الكتاب العزيز فقرات مهمة من معركة بدر، ولكن بلا تهويل، وبلا تضخيم، وتغيب في الكتاب الشريف تلك الملاحم الكونية المخيفة، من ريح صرصر، وحصى غريب الأطوار، وأفراس ملائكية تجوب الساحة، وألبسة خضراء وبيضاء وصفر، وصيحات تهز السماء، تغيب كل هذه المبالغات والأساطير. وتبقى قضية الملائكة خارج كل نقاش، فليس للعلم القدرة على نفيها ولا القدرة على إثباتها، وهي قضية تخص المؤمن بالكتاب الكريم، وليس محل تكليف الإنسان الذي ينكر الغيب أصلا، أو لا يؤمن بصدق رسول الله ولا كتابه المنير.
لا يشك مؤمن بأهمية معركة بدر، ولا يشك مؤمن بقيمتها التاريخية والدينية، وكيف يشك والقرآن الكريم يعدها من فضل الله على المسلمين إنتصارهم في بدر، ولكن هذا شي، وتصوير المعركة بتلك الاهوال والخيالات والمبالغات شي أخر، والدعوة ليس للتقليل من قيمة بدر العسكرية والروحية والتاريخية، ولكن الدعوة إلى تفريغها من الخرافات، وتجنيبها الوقوع في نتائج الأخبار الاحادية المرسلة، الضعيفة، المنحازة، المسيئة للرسول والمؤمنين. فنحن نقرا مثلا في السيرة (ثم إرتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال لهم سلمة بن سلامي ــ كما حدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان : ما الذي تُهنئونا به؟ فوالله إن لقينا إلاّ عجائز صُلعا كا لبدن المعقَّلة، فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال : أي إبن أخي، أولئك الملأ) / السيرة ص 387 / فهل يمكن التعاطف مع هذه الرواية؟ وهي تفرغ المعركة من كل
إن أمة تسجل أعز إنتصار لها بحروف من المعجزات والخوارق والغيبيات لأمة ميتة، وأمة سوف تبقى أسيرة الوهم، وعاجزة عن القيام بأي دور إيجابي في الحياة. لقد حان الوقت لتصحيح سيرة النبي الكريم، تصحيحها من كل ما يقود إلى العجز والتكاسل والموت والقهر والذبح والحذف.
لا أريد أن أتحدث عن العبر والدروس التي يمكن الخروج بها من معرك بدر العظيمة، فإننا نستطيع أن نقول أن هذه المعركة وفي ضوء ما جاء في القرآن الكريم تعلمنا الصبر والإيمان والتخطيط والتوكل على الله بعد هذا التخطيط، وتعلمنا التعاون والتأزر في مقاتلة العدو الباطل.
إن روايات المعركة في أسفار السير عبارة عن كم هائل من المخيال الإجتماعي، ومن الإنحيازات والحيود لأغراض سياسية وعشائرية وأسرية، لا تزيد على ما جاء في القرآن الكريم ما يجلب النظر ويخلب اللب ويمتع النفس، فما لنا وهذه الروايات التي تحولت إلى عائق دون التفكير بجدية وعلم وتخطيط ووعي؟
[email protected]